الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

المسيحيّون والقدر

الخوري باتريك كسّاب
المسيحيّون والقدر
المسيحيّون والقدر
A+ A-

غالبًا ما يُحمّلُ الإنسانُ القدرَ مسؤوليّةَ الأحداثَ التي تُصادِفُهُ ولا يجدُ لها أيَّ سببٍ ملموسٍ، فيُلقي على اللهِ مسؤوليّةَ ما يصيبُهُ من أفراحٍ وأتراح. فيُخيّلُ لنا أحيانًا أنّ الله الكُليِّ القّدرة، يجلسُ في عليائِهِ، يختارُ لهذا عملًا، ولذاكَ زواجًا، ولآخرَ إنجابًا، ويُبلي بعض الناسِ بالمآسي والأحزان، ويُخصّص البعضَ الآخر بالأفراحِ والنّجاح. وكأنّنا، كما جاءَ التعبيرُ على لسان الفيلسوف هيراقليطُس، حجارةُ داما في لُعبةِ الزمانِ اللّا منطقيّة. 


ما أشقانا إن لم نكُن أحرارا!

إذا كانَ الإنسانُ خاضعًا لحتميّة ما اختارتهُ "الآلهة"، فباطلًا يحلُمُ، وباطلًا يُجاهدُ، وباطلًا يكبُرُ، وباطلًا يسعى ليُحقِّقَ ذاتَهُ. وإذا كانت الحتميّةُ تُسيِّرُ الإنسانَ حسبَ ما كُتبِ لهُ، فلا يكونُ الإنسانُ مسؤولًا عن أيِّ خطئٍ يرتكبُهُ، ولا تكونُ البشريّةُ مسؤولةً عمّا آلَت إليهِ. ولا يكونُ لأحدٍ فضلًا بنجاحِهِ. وفي ذلِكَ حطٌّ من قدرِ الإنسان وتحديدٌ لقيمتِهِ.

والمسيحيّونَ، ينقادونَ أحيانًا خلفَ الاعتقادِ بالقدرِ والمكتوبِ والحتميّة، متأثّرينَ بالفلسفاتِ الشائعة، علمًا أنّ اللّاهوتَ المسيحيِّ يرفُضُ الحتميّةَ بشكلٍ قاطعٍ. فإذا كان الإنسانُ غيرَ مسؤولٍ عن اختيارِهِ للخطيئة، فلا حاجةَ لتجسُّدٍ وفداءٍ يُخلّصانِهِ منها. وإذا كانَ اللهُ قد اختارَ مُسبقًا ما نؤتيهِ من أعمالٍ، فبأيِّ عدلٍ يدينُنا يوم نقفُ أمامهُ؟ وإذا كانَت أعمالُ الإنسانِ وتاريخُهُ من كتابةِ الله، فلَن يستحقَّ الملكوتَ إلّا من اختارَهُ الله اعتباطيًّا وأعطاهُ الأعمالَ الصالحة اللّازمة لذلكَ، ولن يبقى للبقيّة من أبنائِهِ إلّا الشقاء.

المعرفةُ الإلهيّة

لا يُمكنُنا أن نتخيَّلَ إلهًا معرفَتُهُ محدودة. فالله يعرفُ كلَّ شيء. هو فاحصُ الكلى والقلوب كما يقول في نفسِهِ في سفرِ إرميا (إر 17، 10). وبما أنّ الله غيرَ محدودٍ لا بزمانٍ ولا بمكان، فهو يعرفُ ماضي الإنسانَ وحاضرَهُ، كما يعرفُ مُستقبَلَهُ. لكنّ المعرفة تلك لا تعني أن يكونَ اللهُ هو مُحدِّدُ الأحداث. فإذا كانَ الله هو من يرسُمُ لنا الطريق، فكيفَ يُمكن أن تُصادفَ الإنسانَ أحداثٌ أليمةٌ وشرّيرة؟ فالله لا يؤتي بأفعالٍ تُناقضُ جوهَرَهُ. إذا كان الله محبّة، لا تكونُ أعمالُهُ إلّا محبّة.

العنايةُ الإلهيّة

كثيرةٌ هي الأفكارُ المغلوطةُ الشائعة الّتي يتداولُها المؤمنون. وكثيرًا ما نسمعُ أحدَهُم يضعُ على لسانِ يسوعَ الآيةَ القائلة: "لا تسقُطُ شعرةٌ من رؤوسِكم إلّا بإذنٍ منّي". والحالُ أنّهُ في إنجيلِ متّى لا وجودَ لآيةٍ كتلك، بل يقولُ يسوع: "أمّا أنتم فشعرُ رؤوسِكُم معدود" (مت 10، 30)، إشارةً إلى معرفةِ الله للإنسان، الّتي تتخطّى معرفةَ الإنسانِ لذاتِهِ. فلا أحد منّا أحصى يومًا شعرَ رأسِهِ! وتلكَ المعرفةُ العميقةُ تدلُّ على عظمةِ حُبِّ الله للإنسان. وفي تعبير يسوع هذا، دعوةٌ للإنسانِ للاِتّكالِ على عنايةِ الله الأكيدة بمن يُحبّ.

أمّا في إنجيلِ لوقا فنجدُ آيةً مشابِهَةً لتلك، ولكنّها تقعُ في سياقٍ مُختَلِف. ففي حديثِ يسوعَ مع رُسُلِهِ، وأثناءَ حثّهم على الصبرِ أمامَ المشقّات، يُشجّعُهُم قائلًا: " لكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ" (لو 21، 18)، مُشيرًا إلى عنايةِ اللهِ بحاملي بُشرى الإنجيلِ أمام الاضطهادِ.


المشيئةُ الإلهيّة

أعطانا الربُّ يسوعَ آيةَ: "لتكُن مشيئتُكَ" (مت 6، 10) يوم علّم تلاميذَهُ صلاة الأبانا. وهي لا تُشيرُ بالطبعِ إلى فرضِ الآب السماويّ مشيئتَهُ على الإنسان. بل هي التعبيرُ الأفصَح عن رغبةِ الإنسان بأن يكونَ مع الله. فيثقُ بأنّ الله وحدَهُ يدعوهُ إلى الفرحِ الكامل، فيختارهُ الإنسانُ طوعًا، ويجُدُّ في البحثِ في واقع حياتِهِ، يقرأُ ماضيهِ، ويمتدُّ نحو مُستقبلِهِ، مُشتعلًا حبًّا بالله، راغبًا بأن يبلُغَ الكمالَ الذي دُعيَ إليه. "لتكُن مشيئتُكَ" صرخةٌ بعيدةٌ عن الاستسلامِ للحتميّة، بل هي تعبيرٌ واضحٌ عن قَبولٍ حرٍّ للرحمةِ الإلهيّة.


في الواقِعِ، نَظَمَ اللهُ الكونَ ونظَّمَهُ، وخلَقَ الإنسانَ على صورتِهِ كمثالِهِ (تك 1، 26-27). خلقهُ حرًّا كما هو حرٌّ، وسمحَ للإنسان بأن يختارَ طريقَهُ. وإذا كانَ اللهُ محبّة، فلن يُجِبرَ الإنسانَ على مُبادلتِهِ المحبّة ذاتها، بل يعطيهِ الحريّةَ الكاملة، وينتظرُ منهُ أن يُبادلهُ الحبَّ بحُرّيِّة. المسيحيّة والقدر لا يلتقيان. المسيحيّة تعرِفُ إلهًا حرّرنا من كلِّ قيود.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم