الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

مهرجان كليرمون فيران يحارب التطرّف بالصمت والأفلام

المصدر: "النهار"
مهرجان كليرمون فيران يحارب التطرّف بالصمت والأفلام
مهرجان كليرمون فيران يحارب التطرّف بالصمت والأفلام
A+ A-

قبيل انطلاق الدورة الثمانية والثلاثين لمهرجان كليرمون فيران (٥ -١٣ الجاري)، وصلتنا رسالة من الإدارة تبلغنا بضرورة ترك الحقائب في الفندق قبل التوجه إلى مركز المهرجان. "فلأسباب أمنية"، تقول الرسالة، "لن يُسمح بإدخالها الى بيت الثقافة"، وهو المقر الرئيسي لنشاطات مهرجان الفيلم القصير الأشهر في العالم. هذه الرسالة وحدها كافية لإيقاظ أسوأ أنواع السيناريوات النائمة في بال زائر #فرنسا، الدولة التي تزال في حال الطوارئ بعد هجمات ١٣ تشرين الإرهابية. إلا أنّ كلّ شيء مختلف في كليرمون، معقل اليسار المعروف بجامعته ومصنع إطارات "ميشلان" الشهيرة. فعناصر الأمن المكلفين بحماية مداخل المهرجان، يعاينون بشيء من الخجل والإحراج شنط يد النساء العجزة، ولا شيء فيهم يشير بأنّه في مقدورهم حماية الثقافة والسينما من أعدائهما. وهم كثر هذه الأيام في فرنسا: تشكيلة عقائدية تمتد من الإسلام المتشدد إلى الكاثوليك المتعصّب الذين حاولوا أخيراً التدقيق في رخصة عرض بعض الأفلام التي تنطوي على جرأة معينة. حتى كلمة رئيس المهرجان، جان كلود سوريل، التي عادة تكون نارية، كانت ململمة تتفادى الصدام. خلافاً للخطاب العالي النبرة الذي ألقاه في الدورة الماضية غداة مجزرة "شارلي ايبدو"، ثمة إدراك بأنّ مئات الأفلام المعروضة كافية لمحاربة التطرّف والجهل، والتعليق ليس سوى حشو.


الخوف حاضر بلا شكّ، في كلّ مكان، في العيون والشاشات والأحلام. ولو أنّه يتمظهر بشكل خجول. نشعر به. هذا الخوف يجعل كثيرين يعتمدون منطق الـ"لو بروفايل"، مراعاة لمصالحهم وأحياناً لاقتناعاتهم ومبادئهم الإنسانية وقيمهم. في المقابل، ما كان لافتاً، هو طغيان العنصر العربي على المهرجان، بدءاً من ليلة الافتتاح. فالأمسية كانت من تنشيط ليلى قدور بودادي، صحافية ومذيعة من أصول جزائرية. تضاف إليها عضوية المخرجة التونسية الشابة ليلى بوزيد في لجنة تحكيم الأفلام الفرنسية، وأيضاً مشاركة فيليب فوكون في اللجنة نفسها، هو المولود في المغرب والمهموم بالقضايا العربية في أفلامه.
مهرجان كليرمون فيران يشهد كلّ سنة زخم إقبال بشري. مركز الاهتمام: أفلام تجمعها الإدارة من كلّ أنحاء العالم. بلغ عدد المشاهدين في العام الماضي ١٦٠ ألفاً، مما يضعه في المرتبة الثانية على لائحة المهرجانات الفرنسية (كانّ يبقى الأول في طبيعة الحال). بين نحو ٧٧٠٠ فيلم من أكثر من ٦٠ بلداً شاهدتها الإدارة، تم "انتشال" ١٦٦ عنواناً تُعرض في المسابقة الرسمية التي تتوزّع على ثلاثة أقسام: المسابقة الوطنية، المسابقة الدولية، وما يُعرف بـ"مختبر" ("لابو"). علماً أنّ هذه الأقسام لها أعمار مختلفة، إذ لم تُطلق جميعها منذ الدورة الأولى. في لجان التحكيم، الوطنية والدولية، نجد أمثال باتريك وانغ، أحد الأسماء الشائعة أخيراً في السينما المستقلة الأميركية، وفيليب فوكون المخرج الفرنسي المرشّح حالياً لجائزة "سيزار" أفضل فيلم عن "فاطمة".
كان الافتتاح مساء الجمعة الفائت هادئاً، شهد خطاباً قصيراً لسوريل الذي نوّه بضرورة تأمين مبلغ معيّن من المال. تفصيل داخلي لا شأن لنا فيه، إلا أنّ سوريل كعادته يستعمل المنبر المتاح لتوجيه الرسائل المبطنة وغير المبطنة للمسؤولين والقوى المسيطرة على المدينة. ففي بلد كفرنسا، الرأي العام يحاسب السياسيين والجهات المسؤولة التي تقصّر في الشؤون الثقافية، التي تغدو في الكثير من الأحيان ضحية عصر النفقات وشدّ الأحزمة، خصوصاً عندما يسيطر الهاجس الأمني على الهواجس كلّها. إلا أنّ كليرمون استطاع تجاوز هذه المسائل، من دون تعديل يُذكر في طريقة تنظيم الحدث واستضافة الناس (نحو ٣٠٠٠ مُعتمَد) وتأمين أفضل ظروف مشاهدة للسينيفيليين الرواد.



الممثلة الكوسوفارية آرتا دوبروشي.


وكليرمون مفتوحٌ على العالم، كأي تظاهرة ثقافية تأخذ من الكون مجالاً واسعاً للبحث والتنقيب. فبعد الولايات المتحدة والصين والهند، يلتفت كليرمون هذه السنة إلى السينما الأسوجية التي غالباً تتميز بحسّ الدعابة الخارج على السائد والمألوف في الأفلام الكوميدية. ٣١ فيلماً تُعرض خلال أيام المهرجان أقدمها يعود الى العام ١٩١٥ (تحريك من ثلاث دقائق). ولمواكبة هذه الاستعادة، قدّم المهرجان ليلة الافتتاح سلسلة من الأفلام الدعائية التي أنجزها المخرج الأسوجي الكبير روي أندرسون. فكانت لحظات بهجة حقيقية، تعالت في الصالة، في زمن يجرنا العالم الى المآسي والألم. وإعلانات أندرسون الترويجية تفيض بالطرافة والهزء والسخرية الهدّامة المتفلتة من كلّ قيود الأخلاق الحميدة، لكن مع المحافظة دائماً على احترام الشخصيات المقترحة وصون عقل المتفرّج. انغمار برغمان كان يعتبر أندرسون أفضل مَن أنجز أفلاماً دعائية، وهي للمناسبة (أي الأفلام) ساعدت صاحبها في تمويل أفلامه الروائية الطويلة. وتصعب معرفة إذا كانت أفلامه السينمائية أثرت في الدعايات أو العكس. فهناك نقطة مشتركة بينهما: تلك البرودة في تصوير الشخوص، الجمود، الحركة البطيئة، العبثية، اللقطة الواحدة، إلخ. هذا كله يمنح الدعاية بُعداً آخر، يمسّ المتلقي مساً مختلفاً، فتلوح فلسفة المخرج في التعاطي مع الطبيعة البشرية، تلك التي يعتمدها في أفلامه للشاشة. إعلانات أندرسون تتّسم بهذا الاختلاف الذي يجعل مخرجها يقول عنها بأنها "ليست تجارية". فكيف لإعلان تجاري ألا يكون تجارياً؟ وكيف منحت شركة "تريغ هانسا" للتأمين كلّ هذه الحرية لفنان يريد إنجاز إعلانات تجارية "غير تجارية"؟ وحده أندرسون يمتلك الجواب على مثل هذا السؤال.



مشاهدون أمام مدخل الصالة.


تواصلت السخرية "الهدّامة" مع الفيلم الفلسطيني "السلام عليك يا مريم" للمخرج باسل خليل الذي شهد عرضه الأول في مهرجان كانّ الأخير، ومنذ انطلاقته هناك، لفّ مهرجانات كثيرة نال فيها جوائز منها "دبي السينمائي"، وهو مرشّح لـ"أوسكار" أفضل فيلم قصير. ثلاثة يهود، شاب وأمه وزوجته، تصطدم سيارتهم بتمثال العذراء المنتصبة بالقرب من دير لراهبات "المحبّة" في قطاع غزة. إنه يوم سبت ولا يوجد أي ميكانيكي في الجوار يستطيع إصلاح السيارة التي تعطّلت جراء الصدمة. الشاب نفسه غير مستعد لرفع سماعة الهاتف للتكلّم، فهذا يوم العطلة عند اليهود ولا يجوز القيام بأيّ عمل. يضطر الطرفان، المسيحي المتمثل بخمس راهبات واليهودي المتمثل بعابري السبيل الثلاث، مرغومَيْن، على التعاون معاً. هذا التعاون القسري ينتج سلسلة من المتتاليات التي تسرد بأسلوب عبثي العلاقات التي تُفرض بالقوة. بيد أنّه سرعان ما يتبين أنّ القليل من التنازل من كلّ طرف سيُفضي إلى نتائج إيجابية. يندرج الفيلم في إطار ما يُعرف بالأفلام القصيرة التي تنتهي بـ"ايفيه" معين، ويراد منه كسر هيبة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر تطوير فكرة الحاجة عند الطرفين. طبعاً، هذا كلّه لا يمكن أخده كثيراً على محمل الجدّ، خصوصاً أنّ الشخصيات لا تحمل أيّ عمق، بل هي هناك لتجسّد مفاهيم مسبقة.


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم