السبت - 11 أيار 2024

إعلان

في عيادة طبيبة نسائية سورية

نجاة عبد الصمد - طبيبة وكاتبة سورية
في عيادة طبيبة نسائية سورية
في عيادة طبيبة نسائية سورية
A+ A-

تلك الحمّى الغامضة التي تنهش الأرواح في ليالي الحروب؛


ليس الحديث عن حمّى المصاب بموت أحد أفراد عائلته أو عائلة قلبه، أو مَن جُرِح أو فقد عيناً أو يداً أو رجلاً، أو قُصِف بيته وصار في العراء، أو نزح إلى ذُلّ المنافي، أو هام في البلاد فاقداً المأوى وفرصة العمل ومصروف الجيب؛ فهؤلاء، إنْ لم تنصفهم الأرض، يتطلّعون إلى عدالة السماء، ويحتاجون جهوداً مؤسساتيّة قد تركّن جراحهم المفتوحة، لعلّ نزفها أو قيحها يركن قليلاً.
الحديث هنا عن الجموع التي لم يطلها فقدٌ شخصيّ، لكنها فريسة الشدّات الجماعية في الحروب، حين تهوي أركان الدولة وينعدم الأمن، ويعمّ الفقر والبطالة والعنف، ويتسيّد الأذناب. وحين لا ماء ولا كهرباء، ولا دفء، ولا نقود للطعام أو للعلاج أو لشراء ما يلزم أو لإصلاح ما تعطّل. وحين ينفد الصبر والحبر والكلام، ولا تنتهي القائمة...
جموعٌ تبدو سليمةً معافاة، وتحت العافية الخادعة يختبئ وهنٌ كثير لا يزال يتراكم شدّةً إثر شدّة، ويُردي عديدهم في عجزٍ أو ذهولٍ أو فصام. يطويهم نهاراً بين السباب والشتائم، أو التطنيش أو السهو والتناسي، أو هبوط المزاج، ونقص التركيز واضطرابه والتشاؤم والعصبية والاكتئاب وسوء الأداء في العمل، والتفكير في الهرب والعزلة والانتحار، أو الميل اللاواعي إلى العنف وأذى النفس والمحيط. وليلاً وسط العزلة والوحشة والخوف والرعب والرؤى السوداء، والأرق المقيم...
لا تشهد عيادتي النسائية إلا فصولاً خجولةً من عروض هذا السيرك الآدميّ الحيّ والمباشر والموصول والآخذ في النماء والتنوع والترقّي. شكاوى صريحة أو مبطّنة عن أوجاع بعينها أو أخرى مبهمة، تحاول النساء أن تصفها، فتخرج الكلمات مبعثرة لا تركيز فيها ولا منطق، وكثيراً ما تتطوّع ملامح الوجه للتعبير حين ينضب الكلام.
امرأةٌ تقصد الطبيبة فقط لتحكي، لتلبّي شهية البوح بارتياحٍ أمام من تصغي إليها باهتمام، فلا تصدّ سيل حكيها، تتركها تحكي إلى ما تشاء، والطبيبة تدرك أنها لا ترجو منها أكثر من أن تقول: نعم أنا أفهمك.
امرأةٌ لا يُسمَح لها بالخروج من البيت متى تشاء، وتخنقها الأعباء ويخذلها الصبر وتضيق بها الأرض، فلا تجد ذريعةً للخروج من البيت إلا إلى ملاذٍ حصين كالعيادة أو إلى صدرٍ كاتمٍ للسر كما على الطبيبة أن تكون. هناك تبكي وتعترف بأسباب قدومها كما لو أنها خطايا، وكما لو أن الطبيبة كاهنة طيبة وصبورة. سيكفي تلك المرأة أن تفرغ شحنات قهرها، وتعود إلى بيتها وقد استبدلتها بطاقةٍ تعينها على يومٍ جديد.
أو امرأةٌ تشكو ألماً أو نزفاً أو كتلةً طارئة، وترفق شكواها بكثيرٍ من التهويل أو الرعب أو تطلب صكّاً ممهورا بختم الطبيبة للتأكيد الموثّق بشفاعتها أنّ حالتها لا شكّ نادرة وتتطلّب من عائلتها أن تتفرغ كليّاً للعناية بها.
صارت العيادة تغصّ بالراغبات في الإجهاض حتى لو كان الحمل مخططاً له قبل الحرب، أو لو كان مكان الوليد القادم لا يزال شاغراً في الأسرة الشابة، وحتى لو كان هذا الحمل هو الفرحة الأولى في حياة الأسرة، إلا أن حال الحاضر لم تعد تسمح لها بالمضيّ فيه.
على العكس، ترى نساءً تجاوزن سنّ الخصوبة، وكنّ أنجبن ما اشتهين من الأبناء والبنات، تراهنّ يستمتن الآن لإنجاب صغيرٍ جديد، ربما لقتل الملل وكسر روتين الرعب اليومي، أو لتعويض إنجازاتٍ أخرى كانت قاب قوسين وبدّدتها الحرب.
تتهافت النساء على طلب عمليات التجميل، أو العمليات الباردة التي يمكن تأجيلها لسنين، فيسارعن لبيع المصاغ أو تبديد المدّخرات أو الاستدانة من الأهل والأصدقاء، أو بالفائدة المركّبة، ليجرين هذه العملية اليوم وليس غداً، لعلّ حياتهن تتلوّن بحدثٍ ما، حتى لو كانت تكلفته جرحاً ولزوماً للفراش ومصاريف ماديّةً عسيرة السداد.
نساءٌ لم يكنّ يلتفتن إلى عافيتهن أو إلى الفحوص الدورية الوقائية، أصبحن الآن يتسابقن إلى إيلائها الأهمية القصوى، كأنها رفاهٌ لا يرغبن أن يحرمن أنفسهن منه بعدما حرمنها أبسط الرغبات الإنسانية.
نساءٌ يحضرن إلى العيادة بلا موعد سابق، ولسن في حالةٍ تستدعي الفحص الإسعافيّ، ويطلبن مقابلة الطبيبة قبل جميع المنتظرات لأن حالاتهن (لا تسمح بالانتظار)، هكذا من غير تبريرٍ ولا تفسير ولا لومٍ للذات. كأنّ الضجة أو الشغب الذي يُثرنه في العيادة يمنحهنّ شعوراً بالأهميّةً، أو بأنهنّ يملكن صوتاً يجب أن يعلو في مكانٍ ما حتى لو كان عيادة طبيبة.
نساء يبكين كالأطفال طلباً للعقاقير المهدّئة.
ترى هل يكفي الإصغاء، والإنصات والتفهّم والتعاطف والنصح أو حتى الوعظ المرتجل؟
هل يغني هذا كله عن ختام الوصفة الطبيّة التقليدية بدواءٍ مهدئ أو رافعٍ للمزاج، أو جالبٍ للنوم من علياء غيابه؟
مَن يُنصت إلى الناس الذين تُركوا في حيفٍ لا يُكتَب بالكلمات؟
مَن يتكفّل مواساة الأحياء القابعين في القاع، المزروبين في بلدٍ غدا سجناً جماعيّاً تهوي حياتهم فيه إلى لا مقر؟!


 طبيبة وكاتبة سورية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم