الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

"لن أسامح والدي...تركني من دون هوية"

المصدر: "النهار"
أسرار شبارو
أسرار شبارو
A+ A-

"لا لن أسامح والدي، لمَ أسامحه وعلامَ؟ على حرماني من حقوقي الشخصية، أم على ضربه لي، أم على شربه الكحول وايذاقنا مرّ الكأس. بسببه أعيش اليوم على هامش الحياة التي غادرها هو قبل أربع سنوات من غير أن يقوم بأبسط واجباته". قد تكون كلمات منمقة وعابرة، نقرأها في سطور ونكمل حياتنا من دون أي تعاطف مع ما تعانيه هذه الشابة وغيرها ممن يعانون الحرمان من بطاقة هوية، نعتبر نحن حملنا لها من الأمور البديهية.
لم تكن صرخة جوزفين عند ولادتها كأي طفل طبيعي، بل كانت صرخة وجع وقهر وألم، ولو على غير دراية، على أم تدعى غزية دارز فارقتها بعد لحظات من وضعها، تاركة إياها من دون جناح تصارع الزمان مع والد ستيني لم يكلف نفسه عناء الاستحصال على هوية لابنته، فتركها على هذه الحال مع ثلاثة إخوة لا حول لهم ولا قوة.
جوزفين التي تمنت لو أنها لم تتنفس يومها وغادرت هذا العالم مع والدتها، تساءلت في حديث مع "النهار" التي قابلتها في مركز جمعية "AFEL" لرعاية الأطفال: "لماذا أحيا، ما هي صفتي، فحتى اسم على خانة قيد تثبت أنني مررت في هذا العالم استكتروها عليّ".
ابنة السابعة والعشرين ربيعاً قضت بداية طفولتها في مركز "SOS" حتى عمر الأربع سنوات لتنتقل بعدها إلى دار رعاية الأطفال وبقيت تحت كنفه حتى العام الماضي، وأشارت: "لا أذكر أي شيء جميل في طفولتي، في سن الرابعة عشرة تم ابلاغي أن والدتي ليست في هذا العالم وأن سفرها لتلقي العلاج لم يكن سوى كذبة، هنا ابتدأت أولى صدمات حياتي، لتتوالى بعدها الحقائق ورحلة المعاناة والبحث عن اثبات ذاتي من خلال ورقة تمنحني صفة انسان موجود فعلاً لا قولاً".


حرمان وخوف
في غياهب المجتمع تعيش جوزفين، محرومة من أبسط حقوقها المدنية، تقول، والغصة تكاد تخنقها بعد أن خنقها زمن لا رحمة فيه، " لم أحصل على شهادة رسمية، فعلى رغم دراستي أربع سنوات للطبخ في الفنار غير أني لم أحصل على شهادة وحرمت من التقديم الرسمي، ومع ذلك صارعت الرياح العاتية وحصلت هذا العام على شهادة مساعدة ممرضة من احد المعاهد، شعرت أني بدأت أتغلب على العاصفة، وأن تجذيفي في بحر هائج بدأ يعطي ثماره، لكن الرياح العاتية تحولت في لحظات إلى اعصار، زلزل كياني بعد أن رفض طلب توظيفي من مستشفيات عدة كوني لا أحمل بطاقة هوية".
"فلا يمكن مكتوم القيد أن يتعلم، وحتى لو سمحت مدرسة بتسجيله في صفوفها استناداً إلى ورقة من المختار، الا أنه لا يستطيع متابعة تحصيله العلمي والخضوع لامتحانات رسمية من دون أوراق ثبوتية، كما لا يستطيع تسجيل زواجه والسفر، حتى إنه يحرم من قيادة السيارة والتحرك بحرية؛ فمن دون أوراق ثبوتية يكون عرضة لملاحقة القوى الأمنية، ما يجعل الخوف الدائم رفيقه في مختلف تفاصيل حياته"، بحسب ما أكدته رئيسة لجنة معالجة أوضاع الأطفال المكتومي القيد المحامية أليس كيروز لـ"النهار".


قسمان من المكتومين
الاحصاء الاداري الاخير المثبت للجنسية اللبنانية جرى في العام 1932، ومع ذلك يقدر عدد مكتومي القيد اللبنانيين بنحو 80 ألفاً، وهو عدد غير رسمي ويمكن أن يكون الرقم في الواقع أكبر، وتشير كيروز إلى أن "هناك قسمين من مكتومي القيد، بعضهم اطفال لبنانيون وبعضهم الآخر غير لبنانيين، بالنسبة إلينا نحن نعمل على معالجة أوضاع الاطفال المكتومي القيد من والدين لبنانيين أهملوا تسجيلهم في دوائر النفوس. فهؤلاء موجودون في الواقع لكن قانوناً ليس لديهم اية شخصية قانونية ولا يتمتعون بأي حقوق. وبعد أن لمسنا حجم المأساة التي يعانونها قمنا كتجمع هيئات لحقوق الطفل بتشكيل لجنة مشتركة تمت تسميتها لجنة معالجة أوضاع الاطفال لتجمع الهيئات من اجل حقوق الطفل، وذلك بالاشتراك بين القطاعين العام والخاص حيث اشركنا الوزارات المعنية، كي نحل لهم مشاكلهم ".
بدأت اللجنة حملات توعية للأهل على ضرورة تسجيل أطفالهم لتنتقل بعد ذلك الى المساعدة العملية لكل مكتوم قيد لبناني، وتوضح كيروز أن "في البدء على الأهل التصريح عن الطفل المولود في لبنان لدى المختار خلال 30 يوماً من تاريخ الولادة، تحت طائلة الغرامة، أما بعد عمر السنة فلا يمكن تسجيل الطفل المكتوم القيد الا بقرار صادر عن القضاء المختص ".


تسهيلات
تلفت كيروز إلى أن" الأمن العام يحاول اليوم اعطاء مكتومي القيد حق مرور لتسهيل تنقلهم، كما أن وزارة التربية بدأت تتساهل معهم من خلال قبول تسجيلهم في المدارس لكن من دون أن يكون لهم الحق في الحصول على شهادات رسمية، فعلاً هؤلاء أشخاص مغلوب على أمرهم، ما يجعل بعضهم يفضل الانتحار والبعض الآخر أن يكون مشروع مجرم أو منحرف عدا عن امكانية الاتجار بهم".


ملف جوزفين القضائي
هم المنبوذون في مجتمع يتغنى بالانفتاح، وفي عالم يتغنى بحقوق الإنسان، لكن، ويا للأسف حقوق لا تزال حبراً على ورق. المحامية دينا الشنتيري أكدت أنها اطلعت على ملف جوزفين وهي بانتظار أن تحصل على ورقة توكيل رسمي من جوزفين كي تباشر في قضيتها العالقة بسبب ضمها لملف أشقائها الذين يعانون من المشكلة عينها لكن أمورهم أكثر تعقيداً، لذلك "الخطوة الأولى التي سأقوم بها هي اعادة انعاش القضية بجعل ملفها منفرداً عن باقي أفراد عائلتها"، وعما إذا كان من الممكن أن تصل القضية إلى خواتيم سعيدة، أجابت: "بالتأكيد فكل ما تحتاج إليه دعوة جديدة باسمها ومتابعة كي نأخذ حكماً من محكمة الاحوال الشخصية لنقوم بعدها بتنفيذه في دائرة النفوس لكن القصة بدها طول نفس".


الخوف من كل يدور حولهم
تخشى جوزفين كل ما يدور حولها، تخشى التنقل والمرض، والمستقبل والارتباط، فهي لا تريد أن تورث أولادها وجعها. فعلى رغم ارتباطها بشاب إلا أن فكرة الزواج مؤجلة حتى اشعار آخر، فالحل ليس في يدها بل تنتظر صدور حكم القضاء والبت بقضية أوراقها التي لا تزال عالقة.
المعالجة النفسية استير ابي أنطون اعتبرت أن "حرمان انسان ما من بطاقة الهوية التي هي مستند رسمي تسمح بالتعرّف الى شخص ما يختلف عن غيره من حيث الاسم والعمر والشكل ومكان الولادة له تأثيرات سلبية على نفسيته كون هذه البطاقة سبباً في جعل حاملها يشعر أنه ينتمي إلى مكان ما وإلى مجتمع ما، مما يمنحه الشعور بالاستقرار والأمان". وعن التأثيرات السلبية تقول أبي أنطون: "مع الوقت يبدأ الشعور لدى مكتوم القيد بعدم الانتماء الى مجتمع ما يسبب له قلقاً وخوفاً على وجوده، وتالياً الشعور بعدم الاستقرار، ما يرفع نسبة الخوف والاحباط والشعور بالعدوانية تجاه الآخرين، فقد يشعر الفرد الذي لا يملك هوية بأنّه مهمّش أو غير مرغوب فيه من المجتمع الذي يعيش فيه، إذاً منبوذ ممن حوله".
مطلب جوزفين الوحيد هو "أن يشعر كل مسؤول في هذه الدولة مع من يلهث وراء اثبات وجوده، إذ تكفي سبعة وعشرون سنة من السجن خارج القبضان".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم