الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

فقد يأتي الضيوف...

المصدر: "النهار"
رضا نازه- المغرب
فقد يأتي الضيوف...
فقد يأتي الضيوف...
A+ A-

- خَاصّْكْ تْزور خالْتك لَلَّا كْلثوم آوْلدِي.. سْوّْلاتْ فيك بْززَّافْ!

ظلت أمي تكرر الطلب، تخِزُ مَيليَ المزمنَ للتأجيل والإرجاء حتى انتزعتْ مني عزماً على الزيارة. بلغتُ بابَ بيت لَلَّا كْلثوم وصدى طلبها ما زال يشغل أذني، بينما انشغل أنفي بتيار هواء مُفعم بالخُزامى، هبَّ من جدران الزليج ودرجات السُّلم الصقيلة. كل النوافذ كانت مُشرَعة ليجفّ بللُ آخرِ تنظيف. آخرٍ وليس أخير. يا لطيف. كيف يُعرِّضون المريضة لكل هذا التيار؟ فورَ مروري مرّت خلفي لَلَّا حْلِيمَة بمِنشفتها الكبيرة المثبتة على مِجرَفَة مطاطية، تمحو بها أدنى بصمةٍ، أدنى أثرٍ على الأرض، وتنعش المكان بمحلول الخزامى. لا يصحّ ولا يجوز أن يخبو المُعطر على مدار الساعة. فقد يأتي الضيوف.

هممتُ أن أنعطف يميناً لألج باب الطابق حيث ستكون لَلَّا كلثوم بداهةً في غرفتها الهادئة أو في غرفة الضيوف، إن أُعِدَّتْ لها هناك زاويةٌ مريحة توسيعاً عليها وعلى الضيوف. لكنْ، أشارت إليَّ لَلَّا حْلِيمَة بمواصلة الصعود. استرقتُ النظر في الطابق المفتوح. الأثاث يبدو مُرَتَّبًا ترتيباً رهيباً، والسكون وحده ضيفُ المكان الصامت المقيم، ريثما يأتي الضيوف. بلغتُ الطابقَ الثاني. هممتُ بالانعطاف لأدخل غرفة أخرى للضيوف قد تدلّت فيها ستائر شفّافةٌ جميلة. لكن، أشارت لَلَّا حْلِيمَة بكفّها أعلاه بينما منشفتُها تُواصل محو آثاري أسفله، حتى وصلتُ السطح. هناك في غرفةٍ، أعاليَ البيت، كانت للا كلثوم تنقهُ بعد عملية عَصِيبة اجتازتْها بلطف إلهي. تُرى، كيفَ صعدتِ المريضة كل تلك السلالم؟ والجراحة؟ والقطوب؟ لا بدّ أنها تعبَتْ وأتعبتْ.

وجدتُّها ممدّدة على فراش عتيق بقربِه تَختانِ خشبيان صغيران في غرفة بجوار مطبخ السطح. المطبخ تبدو عليه الخدمة، ليس كمطبخ الطابق الأول الذي رأيت جزءاً منه يشبه غرفة الضيوف في ترتيبها السرمدي، انتظاراً للضيوف.

فرحَت للا كلثوم بزيارتي ونسيت قطوبَها وكادتْ تستوي جالسة لولا أنّ نبَّهَتْها زَهْوَة ابنتُها أن حركة الجلوس البسيطة مستحيلة في حقّها الآن. وسرعان ما عمّ الصمت بيننا. كلماتي عجلى تنفَدُ بسرعة. لم أشعر أن تناولتُ مصحفاً فوق الرفّ وقرأتُ بضعَ صفحاتٍ طرداً لحَرَج السكوت وتطييباً لنفس للا كلثوم. لعلها تحسبُها رُقية. منذ مدة لم أفتح المصحف، وحين فتحته انتابني إحساسٌ غامر لذيذ، على غير عادة. نادراً ما يوافقُ الواردُ الوِرْد. كأنني وجدتُ الله عند المريضة.

حين عدتُ إلى البيت، اطمأنَّت أمي مرتين، على بنت خالتها المريضة، وعلى طلبها الذي لم أهْدِره. وصارت أمي من حين لآخر تأتينا بخبر تحسُّن للا كلثوم المُطّرِد. يوماً بعد يوم. شهراً بعد شهر. عاماً بعد عام. فلا تدري نفسٌ كيف تتعاقب الأعوام وتتوالى بالتقسيط، حتى تلتفت يوماً لتتراءى لها جملة. كنت حينها قد صرتُ معلماً في قرية موغلة في جغرافيا الأرض، أبلغُها بعد استعمال جميع وسائلِ النقل التي عرفها التاريخ وما قبل التاريخ، ختاماً بالمشي على الأقدام، ثم الوصول. ثم أقفُ برهة عند باب المدرسة البعيدة، فيحلُّ الصمت ضيفاً عليَّ، وأحلُّ ضيفاً على الصمت إلا في ساعات الدرس. ثم كان أن أتيتُ بيتنا في إحدى العطل متعباً، فبادرتني أمي من الباب، قبل أن أضع أمتعتي وقبل أن آخذ نفَسي، وفي صوتها بعض الأسى:

- خاصّْكْ تْزور خالْتك لَلَّا كْلثوم آوْلدِي.

هل نسيَتْ أنَّ للا كلثوم سألتْ عني أم أنَّ الخطب جلل؟ ولم تزل تلحّ حتى انتزعتْ مني قراراً بالزيارة، ثم أعطتني نعتَ مَسكن للا كلثوم الجديد. منذ شفائها كان السَّاكْتْ ابنُها الأكبر قد دعاها لتقيمَ في بيته. ذهبت مِن الغد، في بدايةِ العطلة، تفادياً لزحمة نهايتها.

أوصلني النعت لفيلا جميلة من فيلات الضاحية. سمعتُ حركة قريبة وراء البوابة، فطرقتُ تفادياً لاستعمال الجرس. قرأتُ على لوحةِ رخام حائطية: "فيلا سعيدة". لا أدري إن كان ذلك اسمَ زوجة السَّاكْتْ فروسيةً منه، أم اسمَ المالكة الأصلية لم يقتلعه تفاؤلاً. انفتحتْ إحدى الدفتين. بدت للا حْلِيمة. لم تغادر للا حْليمة. للا حليمة تدور مع لَلا كلثوم وجوداً وعدماً. بدل عُبوسها الفطري كانت ملامُحها هذه المرة غير سعيدة، وكانت تحمل منشفة أكبر من الأولى مثبتة أسفل مِجرَفَة أكبر. المسكنُ أكبر. ثم كأن الشريط أعيدَ على نفسه. مروري ومرورُ المنشفة. عبقُ الخُزامى. طابق أرضي فسيح مفروش بأثاث جميل مرتب ترتيباً سرمدياً في انتظار الضيوف. بهو شاسع صقيل. ستائرُ أعلى وأشَفّ من الأولى وأبهى. هل أنعطف يميناً. كلا. لا ليس هناك. لم تشر عليَّ للا حليمة بالصعود هاته المرة، بل بالنزول. ثم مرّت خلفي بالمنشفة.

في طابق تحت الأرض، مؤثثٍ بمتاع بيتها القديم، كانت قد استقرّت للا كلثوم في حجرة تضيئها أنوار بيضاء كأنها بقايا نهارٍ تتسلل من نوافذ القبو المستطيلة القريبة من السقف. لم يكن حال للا كلثوم يبشّر بالخير. لم تعرفني. لم تسمعني. وحينَ عدتُ لبيتنا اطمأنت أمي على تلبيتي طلبَها، لكن لم تطمئن على حال للا كلثوم.

وبينما نحن جلوس في آخر أيام العطلة جاءنا نعْيُ للا كلثوم. سبقني هناك من سبقني رفقة أمي، ولبثتُ أجمع أمتعتي المتناثرة كي أنطلق لعملي فور العودة من بيت العزاء. ثم قصدتُه لوحدي. وصلت. أمام البوابة وجدت شابّاً بزيّ النادل الرسمي ينظّم الدخول والخروج. بدل الدخول أشار إليّ أن أتوجَّه إلى إحدى الخيمتين الكبيرتين المنصوبتين قبالة مدخل الفيلا لاستقبال المُعَزِّين. هناك وجدتُ الضيوف. الضيوفُ أتوا أخيراً. أو أتوا متأخرين. كان مقعدي مقابلاً لباب الفيلا. ومن حين لآخر كانت للا حليمة تمرّ بالرواق حاملةً منشفتها تتعقّب آثار العابرين، لتبقى الأرضية صقيلة. فقد يأتي الضيوف...

اقرأ للكاتب أيضاً: في فنجان

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم