الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

وصَدَح المزمار بعدَ الثورة... "الآن سأجاهد في سبيل الله والشهادة عُرسي"

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
وصَدَح المزمار بعدَ الثورة... "الآن سأجاهد في سبيل الله والشهادة عُرسي"
وصَدَح المزمار بعدَ الثورة... "الآن سأجاهد في سبيل الله والشهادة عُرسي"
A+ A-

بِداية شهر آب 2014، عاد التهامي من فرنسا ليقضي عطلة الصيف في بلدته الصغيرة. تعوَّد أن يزورها مرة كلَّ سنتيْن ويبقى فيها شهرًا للاستجمام. بعد رحلةٍ مُنهكةٍ، وصل إلى بيت والديْه المتواضع، وبزهوٍ ركَنَ سيارته الفاخرة أمام الباب. دلف إلى الصالون بصعوبةٍ بالغةوسط زغاريد أمه وازدحام مُستقبليه من الأقارب وأطفالهم الذي اصطفوا للقائه ولبثوا ينتظرون هدية فرنسا: شوكولا وقمصاناً رياضية. لم يغادروا إلا بعد منتصف الليل. 

في صبيحة الغد، زار التهامي مقهى البلدة ليلتقي بأصدقائه ومعارفه الكُثر. هَرع الجميع للسلام عليه طمعًا في سجائر فرنسية أو شيء من سِلع الخارج. وفي مجاملة روتينية، طلبوا منه رقم هاتفه المحلي.تهرَّب في البداية، ولكنه استسلم أمام إلحاحهم. في اليوم الموالي، رنَّ الهاتف:

- سي التهامي. مرحبًا بك. نَوَّرتَ البلدة.

- مرحبًا. مَن معي؟ سامحني ما تذكرت صوتك.

- أنا مختار السالمي، قائد "الحزب" (فرقة غناء وعَزف شعبي)، وكم غنيتَمعنا حين كنتَ صبيًا.

- آه سيدي مختار، يا حسرة على أيام زمان. كيف أخبارك؟

- سي التهامي، أنا في ورطة كبيرة. غادرنا من يومين العازف الأساسي. قيل إنه "هاجر" إلى سوريا والتَحق بالمحاربين هناك. جَرفته الثورة فشارك في أحداثها. وما لبث أن أعلن توبته من حياته الماضية، ونَقَمَ على المعازف والمزامير لأنها من "الموبقات". هاتَف أسرته من الحدود التركية قائلا: "الآن سأجاهد في سبيل الله. والشهادة عُرسي".

- وكيف يمكنني أن أساعدك؟

- قبضتُ عُربون هذا الحفل من أيامٍ، فَإن لم أحضر غدًا قد أدفع غرامة كبرى. قد أسجن! وقد ينتقم مني أصحاب الحفل بِعِصيِّهم وسيوفهم. صار بلدنا اليوم دون قانون ولا دولة. أفسدت الثورة كل شيءٍ حتى الأعراس.

- لكنَّني لم أعزف من أيام العمل معك في الفرقة. والله، نَسيت كل الأغاني والألحان. سامحني.

- سي التهامي، أرجوك لا تبخل عليَّ بهذه المساعدة. أتَذكرُ أيام زمان؟ حين ضاق العيش بوالدك بعد أن قتل النظام البائد أخاك. أنقذني من هذه الورطة. أتَرَجَّاك برحمة أخيك.

- إيه، رحم الله أخي الشهيد...

- في المقهى، تحكي الناس عن إبداعك عزفًا وغناءً. يقولون إنك تغني في أكبر نوادي باريس وتربح الملايين؟

- أغني في نوادي باريس؟ واضح سي مختار.ولكن هذه آخر مرة. سأعزف فقط لأنَّك تَرحمت على أخي.

- أمرُّ عليك غدًا بعد العصر.

 في الموعد المقرر، جاء مُختار يقود شاحنة متهالكة، ازدحم فيها أعضاء الفرقة السبعة وقد تقلد كل واحدٍ منهم طبلاً أو مزمارًا. وسارت في اتجاه بلدةٍريفية حيث سيقام الحفل، وهي عين البلدة التي اندلعت منها الثورة من أربع سنواتٍ. كانت الشاحنة تؤز بمحركها البالي وتقطع مسالك اسفلتية. لعلها من بقايا الاستعمار الذي عبَّدها لتيسير استغلال الأراضي الزراعية؟

وعند الوصول إلى باحة الحفل، تفاجأت الفرقة بصياح الحاضرين وجلبتهم العنيفة. قَدِم أهل العروس لتوهم بالزَفَّة وبيارقهم وأعلامهم الملونة وبقوا متجمعين يموجون أمام البيت. يرفض والد الفتاة إقامة حفل يضم العازفين، يختلط فيه الرجال بالنساء ويَسْكر الشباب خُفية... أقسَمَ ألا تنزل العروس من الجَحْفَة (الهَودَج) حتى يُلغى "الحفل الماجن". حاول الحاضرون تهدئته ولكنه ظل يُزبد ويقسم بشرف ابنته ألا تنزل. اقترح شابٌ ملتحٍ أن تؤدي الفرقة بعض الأناشيد الدينية كحلٍّ وسط.

وقف التهامي حائرًا وسط هذا الهُياج: قبل الهجرة إلى فرنسا وجفاف مصادر العيش في القرية، كان يعشق المزمار وكان يغني في الأعراس ويمتع الناس بأنغامه. أضنى الفقر والده، فاضطُرَّ إلى فصله من المدرسة ليساعده على طلب الرزق.وافق مُختار السالمي على إلحاقه بالفرقة ليساعد أعضاءها على تسخين الدفوف والطبول مقابل دراهم معدودة. وحين تعلم بالسماع طبوعَ الموسيقى صار ينشد ملحمة الجازية الهلالية وترانيم الهوى الممنوع... فاجأه مختار بصوته المتوتر:

- سي التهامي! هل تحفظ بعض الأناشيد الدينية؟

 سؤال غريبٌ. هو يعلم أن فرقته لا تؤدي هذا اللون من الغناء ولا تستسيغه. لا تميل الناس في الأعراس إلا لأخبار الهوى والخلاعة. لا يطربهم سوى ملحمة الجازية الهلالية وأخبار عشقها...

 أجبر أهلُ العريس والدَ العروس على القبول بالحفل وهددوه بتطليق البنت ليلة زفافها. رضخت الأم بحزن لأنها تعلم أنَّ ابنتَها حامل منذ ستة أسابيع. اغتُصبت خلسة على هامش الاعتصامات التي اندلعت في المدينة وشاركت فيها بحماسة. وأذعن الأب حين رأى دموعَ ابنته وزوجته. وانطلق التهامي يصدح برنته البدوية يستعيد سيرة بني هلال وأخبار "الجازية الـمُخَبَّلة في شعورها" فأغدق عليه الحاضرون من الورقات النقدية ما ملأ جيوبه. وكان بين الحين والآخر، يأخذ جرعةً من عصير البرتقال الممزوج خلسةً بالفودكا. وبابتهاج، تراقص مختار مستذكرًا أيام كان التهامي صبيًا يُسخِّن الدفوف ويشارك بأهازيج البادية...

 مع أولى أشعة الفجر الصيفية، غادرت الشاحنة باحة الحفل. في المقعد الأمامي، جلس التهامي ثَمِلاً مخمورًا، بعد أن غنَّى طيلة الليل. فجأة، أوقفت مجموعةٌ من المسلحين الملثمين الشاحنةَ وقد أشهروا سيوفًا وخناجر وسواطير. "براكاج". طالب قائدُهم بتسليم ما معهم من المال أو الذبح. ناوله التهامي كلَّ ما غنمه في ليلته. وواصلت الشاحنة سيرها تؤز بمحركها.لم يستوعب أعضاء الفرقة ما حصل وظلوا بين ثُمالة ونَوم وارتعادٍ حتى وصلوا بلدتهم صباحًا. وأما مختار فكان يَغط في نوم عميق.

 من يومها، لم يتوقف هاتف التهامي عن الرنين. يطلب منه مختار إحياء الأعراس والحفلات ويستعطفه بحق أخيه الشهيد.ما كان يقدر على التهرب. كلَّ ليلة، يغني ويَشرب على نَخْب الثورة وذكرى الشهادة.

نهاية آب 2014، وصل إلى فرنسا بسيارته الفارهة فوجد "مقاولته" الصغيرة جدًا وقد امتلأ صندوق بريدها فواتير ووثائق استخلاص ضرائب. سيبيع السيارة ليسدد ديونه ويتخلص من تأميناتها الباهظة. كان قد اشتَراها قُبيل أيامٍ من رحلته ليفاخر بها أبناء العمومة ويُظهر لهم أن التهامي، الذي كان صَبِي فِرقة شعبية، أصبح من أعيان باريس.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم