السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

هل يأتي الخلاص من مسلمي الشَّتات؟

المصدر: "النهار"
الأب صلاح أبوجوده اليسوعي- أستاذ في جامعة القديس يوسف
هل يأتي الخلاص من مسلمي الشَّتات؟
هل يأتي الخلاص من مسلمي الشَّتات؟
A+ A-

"مع انقضاء الزمن، نلاحظ ان أعظم مظاهر التقدم الإنساني حصلت بفضل مفكرين أحرار كانت لديهم الجرأة، في لحظة من التاريخ، ليطرحوا أفكارًا كانت بمثابة عِثار" (ألبرت بايِّه).


يتنازع النقاشاتِ الجارية حالياً في الأوساط السياسية والفكرية في أوروبا بشأن ما بات يُسمّى بــ"مسألة الإسلام"، موقفان متعارضان: أول يتلاقى وخطاب الشريحة الكبرى من المسلمين في الشرق والغرب على السواء، ينفي عن الإسلام تهمة التطرف والعنف والإرهاب؛ وثانٍ يرى أن ثمة عنفاً ملازماً الإسلام في شكله الراهن.



وبصرف النظر عن توظيف المسألة سياسياً، ولا سيما في البلدان الأوروبية التي تستعد لإجراء انتخابات رئاسية أو نيابية، وعن المخاوف الأمنية المشروعة في أعقاب الاعتداءات الإرهابية الأخيرة، وهما عاملان يؤثران سلباً في مقاربة المسألة مقاربةً موضوعيةً رصينة وعلمية، فإنّ الموقفَين المذكورين يتمحوران بالعمق على سؤال قديم جديد يتّصل بقدرة الإسلام التقليدي الأكثري على القيام بنقد ذاتي متطلّب، وتبنّي مبادئ الحداثة الغربية الشمولية أو التكيف معها. إذ إن الخطاب الرسمي التقليدي الذي يصوّر الإسلام دينَ إخاء وسلام وتسامح، يبدو مراوحاً في قوالب فكرية موروثة تجعله في موقع متحفظ إزاء كل مبادرة إصلاحية، وإزاء مبادئ الحداثة، وبالتالي يُبقي بديهياً على عناصر التشدد أو التطرف كامنة فيه.



لقد سبق وأشار عبد الرزاق سيادي (مجلّة "دراسات" الفرنسية، 5/2011) إلى أن الغزارة الفكرية طبعت المدارس الإسلامية، وتميّز التقليد الإسلامي بغنى كبير حتى القرنين التاسع والعاشر. وألّفت مصادر التشريع الأربعة التي صاغها الشافعي، تبعاً لسيادي، ينبوع تفكير وتطوير للحق لا ينضُب. كما أكسب "الإجماعُ" و"الاجتهادُ" التشريعَ حيويةً وقدرة على التجدد. غير أن التغيير المأسوي حصل في ظل الحكم العباسي، إذ مُنع تيار المعتزلة العقلي، وتحولت الحنبلية من تيار لاهوتي وضيع إلى عقيدة الدولة الرسمية. وانتهج الفكر الإسلامي منذ ذلك الحين نهجاً يشدد على ضرورة اتّباع النصوص المقدسة التأسيسية اتباعاً دقيقاً وحرفياً، وفُضِّلت آيات قرآنية على آيات أُخَر بغية تمتين هذا التوجه الذي بدأ يبحث في النصوص المقدسة من دون سواها عن أجوبة عن كل سؤال يمكن البشر أن يسألوه، أو عن حل لأي وضع قد يطرأ في حياة الفرد أو المجتمع أو الدولة. غير أن كفاية هذه النصوص بصفتها تحمل الحقيقة الكاملة والمطلقة، جعلت أن يُنعتَ كل فكر جديد أو مسعى إصلاحي بالضلالي. وفي الواقع، يتواجه ضمن هذا الإطار الفكري المغلق الخطاب الرسمي الذي ينادي بالتسامح والاعتدال والانفتاح على الثقافات، والخطاب المتشدد ومنه تنبع التيارات الجهادية؛ فكلا الخطابَين يغرفان من المصادر نفسها مع اختلافٍ في تفسيرها ضمن الحدود المرسومة التي لا يمكن تجاوزها.



لقد أنتج التطور التاريخي نظاماً دينياً يشمل كل حقول الحياة التي بات دورها أن تعكس الحقيقة الإلهية المطلقة؛ فالبشر هم في موقع مَن يتلقنون ويسعون ليتكيفوا مع تلك الحقيقة التي تفرضها فرضاً السلطة المؤتمنة عليها. فلا عجب أن يصبح المجتمع وكأنّه خارج التاريخ، يدور دوراناً لامتناهياً في حلقة مفرغة، إذ لا يمكنه أن يبحث عن تطوره، ولا أن يفهم أحداثه، إلا من خلال نظرته إلى ماضٍ مثاليّ ضائع. ولكن لا يمكن هذه الخلفية الثقافية الدينية أن تتبنى مبادئ الحداثة أو تتكيف معها. إذ إن الحداثة قامت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وصاعداً على تحرير قدرة التفكير من هيمنة السلطة الدينية المتمثلة آنذاك بالكنيستَين الكاثوليكية والبروتستانتية، وربطت البحث عن الحقيقة بمعايير المعرفة البشرية وطرائقها. فانطبعت الحقيقة بالعقلانية، وبالتالي بالنسبية التي تطبع حكماً كل بحث بشري؛ وارتبط التقدم والتطور بالانعتاق من سطوة الدين المتمسك بالحقيقة الكاملة المطلقة التي توقف مسار الزمن.
بالطبع، لم تغب عن العالم الإسلامي حركات الإصلاح التي تأثرت بشكل أو بآخر بتطوّر أوروبا منذ القرن الثامن عشر، ومنها، على سبيل المثال الحركة السنوسية التي نشأت نتيجة الشعور بتأخر المسلمين عن الغرب علمياً وسياسياً واجتماعياً. غير أن تلك الحركات بقيت أسيرة النظرة التقليدية إلى الماضي، وحصرت بحثها عن عناصر التقدم والتطور في التقليد الإسلامي، أي لم تترك فسحة لبروز تفكير خارج إطار المعرفة الدينية، ولم تأتِ بالنتيجة المرجوة.



وثمة حركات إصلاحية أخرى رأت أن ثمة إمكانية للإفادة من تقدم الغرب التقني والعلمي مع إهمال النظام الديموقراطي، والحق في الحريات الفردية والجماعية التي تواكب التطور العملي، ولكنها اصطدمت بتحدّيين أساسيّين: الأول أن استيراد العلوم والتقنيات يحمل معه أفكاراً أخرى تشمل الحقل الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، ويفترض ضمناً قدرة الفرد على التفكير الحرّ والإبداع؛ والثاني أن التطور العلمي والتقني نفسه يتطلب تطوير نظام الحكم بحيث يمكنه مواكبة دينامية التطور المتواصلة وما تستلزمه من أطر سياسية واقتصادية واجتماعية ملائمة، تضمن ثقة الشعب ومشاركته. لذا، بقيت مساهمات هذه الحركات خجولة يعكسها واقعُ التربية والتقدمُ العلمي والتقني الواهنان في البلدان الإسلامية. أما الأفراد الذين تجرأوا على طرح أفكار جديدة هدفها تبني مبادئ الحداثة بلا تحفظ أو التحرر من سجن الماضي، أمثال محمود محمد طه صاحب "الرسالة الثانية من الإسلام" وغيره، فكان مصيرهم التهميش أو الاتهام بالردّة أو الإعدام.



لا شك في أن الإطار السلبي الذي رافق وقع الحداثة على العالم الإسلامي، وتحديداً العربي الإسلامي، كان له نتائج سلبية على استعداد النخب الإسلامية الفكرية للتفاعل موضوعياً مع مبادئ الحداثة؛ إذ ترافق الأمر مع تزايد نفوذ القوى الأوروبية داخل الإمبراطورية العثمانية، ومن ثمّ زمن الاستعمار وتأسيس دولة إسرائيل والحروب التي أعقبتها. فتم الربط أحياناً كثيرة بين مبادئ الحداثة وسياسات الغرب الخارجية المكيافيلية. ولكن الفصل بين الأمرَين ضروري لكي يستطيع الفكر الإسلامي التقليدي أن يواجه متطلبات الحداثة بموضوعية، ويعطي الفكر الإصلاحي مكانته الضرورية. غير أن تراجع الآمال الديموقراطية التي عُقدت على "الربيع العربي"، باستثناء تونس إلى حد ما، وتراجع الديموقراطية التركية المأسوي، واشتداد المواجهة السنية - الشيعية، والحروب المتعددة الأوجه في غير بلد عربي، لا توفر المناخ الملائم لإطلاق ورشة نقد ذاتي بشأن الحد من حرية الفكر في الإسلام، ولا سيما منذ أواخر القرون الوسطى، وطرائق استيعاب مبادئ الحداثة التي اكتسبت بعداً شمولياً. ولكن هذا المناخ يوافق تماماً مسلمي الشتات، وتحديداً في أوروبا. إذ إن تلك الجماعات تجد نفسها مضطرة إلى أن لا تكتفي بنظرتها التقليدية إلى نصوصها الدينية لتلاقي منزلتها ودورها في المجتمعات الأوروبية، بل إنها مدعوة إلى التأقلم في بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية تضع الحقيقة الدينية، وهي تقليديا خارجة عن كل إمكانية نقاش، موضع تساؤل بشأن مطلقيتها وصلاحيتها في إطار زمنيّ يقوم على العقلانية والتطور. فهل سينتج مسلمو الشتات نموذجاً فكرياً يحطم أغلال الماضي ويلحق بركب الحداثة؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم