السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

ألبير المغوار السابق في سجن اليونان بسبب الهجرة غير الشرعية... والهواري "ضائع"

المصدر: "النهار"
رولا حميد
ألبير المغوار السابق في سجن اليونان بسبب الهجرة غير الشرعية... والهواري "ضائع"
ألبير المغوار السابق في سجن اليونان بسبب الهجرة غير الشرعية... والهواري "ضائع"
A+ A-

في معمعة الهجرة السائرة على قدم وساق من الشرق إلى دول أوروبا، تتتالى روايات المآسي وما يرافقها من تشتت وضياع ونزاع داخلي.
إعلام المهاجرين الذين وصلوا إلى مرادهم كان مؤثرًا بفعالية، وأظهر لمن لم يفكّر بالهجرة أن المآل ليس اقل من الجنة، وأن حلم الحياة والمستقبل يكمن في عبور خط تركيا – اليونان - بلدان اوروبا، ولم يتحدّث عن مجاهل أوروبا التي ليست أقل وعورة وخطورة - على المستوى الاجتماعي الانساني - من مجاهل أفريقيا والأمازون - على مستوى الطبيعة.


 


"مغوار في الجيش"
وصلت الأنباء السارة إلى ألبير كيال من أبناء الميناء في طرابلس. مثله مثل كثيرين من اللبنانيين، يعاني صعوبات باتت معروفة للجميع. وجد في الأنباء المتواردة أمل العثور على حياة أفضل. لم يتردد. "طبيعته صلبة، فهو متدرّب على القساوة يوم كان مغوارًا في الجيش، ويؤثر الظهور بمظهر القبضاي"، كما وصفه شقيقه كارلو.
أبلغ ألبير مدير المدرسة التي يعمل فيها عقب تقاعده من الجيش لأسباب خاصة، برغبته بالاستقالة لأنه يريد السفر إلى أوروبا. تمسّك مديره به، وحاول إقناعه بالبقاء، لكنه لم يفلح. حصل على تعويض خمسة آلاف دولار عن عمله في المدرسة، وسافر مع أحد أصدقائه من مدينته، وخلال سفره أرسل صورة عبر الـ"واتسآب" وكتب عليها: "بكل أسف وتواضع بعتذر من الجميع أخوتي، بس خلص قرفت عيش بأحلى بلد بالعالم." ويشتم حكامه.


من تركيا إلى اليونان، تبدأ روايات الإثارة. يصل الاثنان إلى الشواطىء اليونانية التي باتت معروفة لدى المهربين على خط تركيا اليونان. تعتقل السلطات اليونانية صديقه، فيتضامن معه، وينتظر إطلاق سراحه. أيام، وترجعهما السلطات اليونانية إلى لبنان، لكنهما يمكثان في تركيا في انتظار خطوة ما سيتخذانها، العودة إلى لبنان، أم المحاولة من جديد باتجاه اوروبا، وذلك على ما نقل كارلو عن أصدقاء شقيقه الذين يتواصلون معه عبر الهاتف.


 


الخوف على المصير


يقرر صديقه المضي مجددا برحلته، رافضًا العودة إلى لبنان، فهو لم يصدق أنه سيتمكن من الخروج من الضيق الذي يعيش، وحلمه المتكون حديثا بحياة فضلى لم يتحقق بعد لكي يستكين ويتروى.
يصرّ على السفر، يتابعه، ويصل إلى مبتغاه، "ألمانيا أو السويد"، لا يتذكر كارلو الى اي بلد وصل صديق شقيقه وهو يروي قصتهما، ويقنع ألبير باللحاق به، "المصير جيّد، والمكان لائق، لم نعشه مرة في حياتنا في لبنان"، قالها الصديق لألبير.


لم يكن ألبير في انتظار أكثر من إشارة ليواصل رحلة حلمه. من السهل العثور على مركب يقلّه إلى اليونان مجددًا. انطلق المركب، وأظهر ألبير شجاعته في ركوب البحر الذي اعتاد عليه مثل كل أبناء الميناء، فما كان من قائد الزورق إلا أن ترك له قيادة الزورق.
يَظهر البرُّ اليوناني، هدف الزورق. قليلا بعد ذلك، يقفز السائق- صاحب الزورق - في المياه، ويغيب. ثم يظهر مركب يوناني متقدّم باتجاه زورق المهاجرين. إنه تابع لشرطة البحر اليونانية، يتقدم إلى الزورق رجال الشرطة، ويلقون القبض على السائق "ألبير"، ويودعونه السجن بتهمة تهريب الأجانب إلى اليونان، ومخالفة القوانين اليونانية والدولية.
ألبير في السجن، وعائلته- والداه وزوجته وأطفاله الثلاثة- في خوف على مصيره، بحسب كارلو. الولدان مثل كل الآباء والأمهات، لا يريدون لابنهم أن يبتعد عنهم، وقد قسموا منزلهم ليخصصوا له شقة صغيرة يسكنها وعائلته. فكيف يتحمّلون اعتقاله وهو بعيد عنهم في سجون مجهولة المصير؟


يقول كارلو: "نخشى عليه لأننا عرفنا أنه مسجون في سجون الجرائم الكبرى، وليس في سجن موقت ريثما تحقّقوا من مبتغاه. نحن قلقون عليه، ونناشد السلطات اللبنانية مساعدتنا لإنقاذه".


يضيف كارلو: "لم يكن أخي مذنبًا بوحشة الواقع. هو عاش هذه الوحشة، ولم يصنعها. وهرب ليس لأنه لا يحبّ بلده، بل لأنه مثل كثيرين، يبحث عن أفق لحياة أفضل له ولعائلته، مما هو غير متوافر في بلده".
وينهي كلامه: "نطلب المساعدة، ويكفي أخي، وكثيرين أمثاله، التشتت والضياع، إن في بلده أم في الخارج".


 


تمزق داخلي
في المنطقة عينها، تتكرر الروايات والمآسي المتعلقة باللجوء واللاجئين. ينضم محمود هواري إلى الهاربين من الواقع المزري الذي يعيش. منذ أقل من شهر، حزم أمتعته، واشترى تذكرة سفر إلى تركيا. خرج إليها بالطائرة من مطار بيروت، يحمل على ظهره محفظته وبعض أغراض، ووجهته المآل المعروف: إحدى الدول الأوروبية، أي دولة، لا هم.
وهواري سوري، لكنه ولد في لبنان، ومتزوج من لبنانية، ولهما ثلاثة اولاد. لكل سوري من أم لبنانية، أو متزوج من لبنانية الحق بإقامة تدعى "إقامة مجاملة". تحق "المجاملة" لمحمود، فأبوه ولد في لبنان، وتزوج لبنانية، ويكاد لا يعرف مسقط رأسه السوري.



يقضي محمود يومه في جزءين بعد اليقظة من النوم: ما قبل الظهيرة، وحتى الرابعة تقريبًا، يحضر بضاعته التي يعرضها على عربة على شاطئ الميناء: "بَليلة وذُرة الهواري"، واحدة من العربات التراثية التي تزين الرصيف، وتنضم إلى الفوضى الجميلة التي يتمتع بها كورنيش الميناء. وبعد الرابعة، يركن عربته على الرصيف القريب من الحمام المقلوب، يقضي وقته حتى منتصف الليل يبيع عرانيس الذرة، يقصها بناء على طلب الزبائن، والحبوب المسلوقة المتحولة على يده إلى بَليلة لذيذة مع حامض الليمون والكمون، وكذلك الترمس. عربة طولها لا يزيد على المتر، وعرضها لا يزيد على السبعين سنتمتراً، يفترض أن تكفي محمود، وتغطي نفقات عائلته: زوجة وأولاد ثلاثة.


وهو سوري، لكن مولده ونشأته، ومكوثه، وحياته كانت في لبنان. لن تكون له جنسية في لبنان، ولن يعود إلى بلد لم يعرفه، ولم يعش فيه هو بلده الأصلي سوريا. يعيش نزاعا داخليا وتمزقا، واقعه المتأرجح والضائع بين وطن غير حقيقي، ووطن مفترض، جعله في ضياع دائم، وتوتر مستمر، وسؤال مقلق عن المصير. وإذ تحلّ مسألة الهجرة إلى أوروبا بقوة بين الناس، يجد محمود فيها ملاذا له، واحتمال إنقاذ لعائلته التي ستظل بلا جنسية، مجهولة المستقبل، والمصير فيما لو بقيت هنا.


أقفل محمود على عربته، وانطفأت أضواؤها المشعشة الليلية، وحمل أغراضه وسافر إلى تركيا، وحيدا، تاركا عائلته على أمل تدبير إقامة لها بعد وصوله. لكنه شعر بالوحدة في تركيا، وقض مضجعه الرحيل من دون الأولاد والزوجة. فأقفل عائدا إلى الميناء، ولم يكمل رحلته، وخسر بطاقة السفر وتكاليف الانتقال التي زادت على الخمسماية دولار أميركي، وكتب لهم على الـ"واتس أب": "رجعت كرمال محمد روحي، ومجد عيوني، وأمجد قلبي، وأم محمد حياتي كلها".


 


وما هي إلا ساعات، حتى عاد استحقاق المستقبل يقرع على رأسه، ويزيد من بلبلته. عاد إلى عربته، يتابع ما درج عليه منذ طفولته، لكنه لم يكتف. سمع عن مجموعة جديدة من المهاجرين المختلطين من لبنان وسوريا وفلسطين، فانضم إليهم، محاولاً الرحيل من جديد، وقطع بطاقة السفر بأربعماية دولار.
عن خوفه من المجهول، وغرق البحار، قال: "لا شيء لديّ أخسره، ولا أمل لي ببناء مستقبل لأبنائي على العربة. الرحيل أو الموت".
وعن ضمان قدرته على تحمل الغربة مرة ثانية، قال:"كنت وحيدًا في المرة الأولى، فشدّني الحنين إلى عائلتي، وبيئتي، لكنني اليوم أسافر مع مجموعة آمل أن أجد فيها السلوى التي تعوّض عليّ افتقاد العائلة ريثما أتدبر أمر إقامتها حيث سأصل وأقيم".
لكن محمود يقع فريسة الضياع والتنازع الداخلي من جديد، هل يترك أولاده، ويرحل؟ ما المصير؟ فكرة تأخذه وأخرى تردّه، ولا يحسم أمره، وينقضي موعد الرحلة، ولا يرحل، ويخسر بطاقة سفره الجديدة، ولسان حاله يقول: "هنا ضائع، وهناك ضائع، ولا أعرف ماذا يجب عليّ أن أعمل".


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم