الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

سعر الصرف: الإشكاليّة الكبرى في الأزمة اللبنانيّة راهناً ومستقبلاً

د. ايمن عمر- باحث في الشؤون السياسية والاقتصادية
سعر الصرف: الإشكاليّة الكبرى في الأزمة اللبنانيّة راهناً ومستقبلاً
سعر الصرف: الإشكاليّة الكبرى في الأزمة اللبنانيّة راهناً ومستقبلاً
A+ A-

يُعتبر سعر الصرف (هو عدد الوحدات من عملة نقدية أجنبية التي يمكن الحصول عليها مقابل وحدة من العملة الوطنية) من أهم أدوات السياسة النقدية التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق النمو الاقتصادي وتخفيض البطالة وتحقيق الاستقرار في الأسعار ولجم التضخم، وتخفيض أسعار المنتجات الوطنية في التبادلات الدولية، فيشجع على زيادة التصدير ويسهم في إعادة التوازن للميزان التجاري وميزان المدفوعات، هذا على مستوى الاقتصاد الكليّ. أما على مستوى الاقتصاد الجزئي فينعكس سعر الصرف على السلوك الاقتصادي للأفراد عبر تأثيره على قدرتهم الشرائية ومستوى استهلاكهم، وعلى السلوك الاقتصادي للمنتجين والتجار عبر تأثيره على حجم تكاليفهم وخاصة في تحديد أسعار السلع وعوامل الإنتاج المستوردة، وبالتالي في تحديد حجم أرباحهم وقدرتهم على الاستمرار.

ويقوم مصرف لبنان منذ العام 1964 بمهمة الحفاظ على ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية بالاتفاق مع وزارة المالية بحسب المادة 75 من قانون النقد والتسليف. وقد تضمّن قانون النقد والتسليف تحديداً لسعر الصرف الرسمي للعملة اللبنانية سُمّي "السعر الانتقالي القانوني" لليرة اللبنانية. وحددت المادة 229 منه هذا السعر بالنسبة إلى الدولار الاميركي على أساس أن يكون "أقرب ما يكون من سعر السوق الحرّة".

ما أشبه 1992 باليوم!

إن المتتبع لانهيار الليرة اللبنانية في العام 1992 يجد العديد من المسبّبات والخلفيات هي نفسها اليوم مع فارق وحيد وهو الحرب الأهلية اللبنانية والدمار الهائل على مستوى البنية التحتية والقاعدة الإنتاجية. بدأ انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية في العام 1984 بسبب تهافت شراء اللبنانيين العملات الأجنبية وتنامي عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات. وعمدت الحكومة للاقتراض من المصارف التجارية ومن المصرف المركزي لتمويل إنفاقها. وقد أمكن لها أن تستدين قدر ما تشاء من المصارف التجارية، مستندة في ذلك إلى حق أعطتها إياه قوانين الموازنة ابتداء من العام 1980. أما الاقتراض من المصرف المركزي، فأجازته اتفاقية عقدت بين وزارة المالية والمصرف المركزي في العام 1977، سمحت للحكومة بأن تحصل على قروض استثنائية بغية تمويل تسيير أجهزة الدولة وإعادة الإعمار. كذلك أدّت الطريقة التي اتُّبعت لشراء أسلحة للجيش إلى إضعاف الاحتياطي الرسمي بالعملات الصعبة لدى المصرف المركزي بدرجة كبيرة. وكانت المصارف قد زادت بقوة تمويلها للإنفاق العام ابتداءً من العام 1982. ومثّلت التسليفات للقطاع العام نسبة 20 % من ميزانية المصارف السبعة الأولى في بيروت في العام 1983. وتدنّى مستوى هذا الاحتياطي إلى 600 مليون دولار بنهاية العام 1984، في حين أنه كان يربو على الثلاثة مليارات دولار في نهاية العام 1981. وتدهور سعر الصرف من 6.8 ل ل/دولار في العام 1984 ليصل إلى 455 ل ل/دولار في العام 1987 ليزداد حوالى 67 ضعفاً، ويختتم انهياره في أيار 1992 ليصل إلى 2825 ل ل/دولار.

صندوق النقد الدولي وسعر الصرف

تلجأ الدول بحكم المجبرة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قروض تستخدم عادة في تسديد الدين العام أو لتصحيح الخلل في الموازنة العامة وفي ميزان المدفوعات وفي إعادة التوازن للاقتصاد الوطني. ولكن تُفرض بالمقابل شروط إصلاحية للحصول على هذه القروض تندرج ضمن ما يُسمى سياسات الإصلاح والتثبيت الهيكلي، ويكون تحرير سعر صرف العملة الوطنية أحد أهم أعمدة هذه السياسات وهذه الشروط. وتحرير سعر الصرف، بحسب صندوق النقد، هو تخفيض قيمة العملات الوطنية مقابل الدولار وليس خضوعه لقواعد العرض والطلب. وتقدّم هذه السياسات نفسها على أنها عملية إعادة هيكلة الاقتصاد برمته بهدف تعزيز قدراته التنافسية من أجل تخفيض الاستيراد وزيادة التصدير. إلا أن التجارب التاريخية أثبتت أن سياسات التصحيح الهيكلي وخاصة عند تحرير سعر الصرف انعكست انكماشاً اقتصادياً في أغلب البلدان التي طبّقتها. ومن أخطر تداعيات هذه السياسات هي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية الكارثية التي تولّدها، ومثالها البرازيل التي خضعت لشروط صندوق النقد الدولي ما أدى إلى تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين بخلاف إلغاء دعم طلاب المدارس، ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، وفرض البنك الدولي على الدولة أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد، تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية. ومثالها الحديث اليونان، وما حصل فيها ليس بخافٍ على أحد.

إن تخفيض سعر الصرف كما هو مطروح اليوم دون بناء قاعدة إنتاجية تحمي العملة الوطنية، له تداعيات اجتماعية واقتصادية خطيرة على كافة المستويات، منها:

* ارتفاع الأسعار وتضخم مالي يسمى "التضخم المستورد Imported Inflation" وارتفاع كلفة السلّة الغذائية بسبب ارتفاع حجم الاستيراد.

* انخفاض القدرة الشرائية للرواتب والأجور، ما سينعكس على زيادة نسبة الفقر وتخطيها معدل 60%. وهذا سيؤثر على استهلاك الأسر بنسبة لا تقل عن 32%، وارتفاع خط الفقر عن الثلث.

* إرهاق أصحاب القروض بالدولار من خلال زيادة ما سيدفعونه بالليرة، وتعثّر العديد عن سداد القروض وبالتالي زيادة نسبة الديون الهالكة في المصارف.

* انخفاض قيمة الودائع المجمدة بالليرة اللبنانية وضياع المدخرات، وانخفاض في قيمة تعويضات الصناديق الضامنة مثل تعويضات نهاية الخدمة.

* ارتفاع فاتورة التعليم الخاص والتسرب الكبير من الجامعات والمدارس الخاصة إلى الرسمي، والتأثير على نوعيته لضعف قدرة القطاع التعليمي الرسمي على الاستيعاب.

* اهتزاز الأمن الصحي والغذائي في حال توقف مصرف لبنان عن توفير 90% من فاتورة استيراد النفط ومشتقاته والأدوية والقمح بالدولار.

نظام الصرف الأفضل للبنان

يمكن التمييز بين 3 أنظمة لسعر الصرف:

- نظام الصرف الثابت: تقوم السلطات النقدية بتحديد أسعار صرف عملتها الوطنية مقابل العملات الأجنبية (تتغير حسب الظروف) بواسطة قرار ملزم لجميع المتعاملين في سوق القطع، وتلتزم المصارف الوطنية بإجراء عمليات التحويل من وإلى الخارج بناء على أسعار الصرف المحددة.

- نظام التعويم الحر أو الكامل: لا تتدخل السلطات النقدية لتحديد أسعار الصرف، وإنما تتحدد بشكل كامل من خلال آليات العرض والطلب.

- نظام التعويم المُدار(أو المرن): وهو نظام يختلف عن التعويم الحر أو الكامل فقط من حيث درجة تدخل البنك المركزي في السوق. وفي الواقع، نجد البلدان التي لجأت إلى تحرير أسعار الصرف واعتمدت أسعار الصرف المرنة تتدخل بشكل غير مباشر في تحديد قيمة عملاتها مقابل العملات الأجنبية من خلال عمليات شراء وبيع النقد الأجنبي التي تقوم بها مصارفها المركزية، وذلك بُغية الإبقاء على أسعار الصرف عند مستويات معينة.

إن أفضل نظام صرف والذي يضمن الحفاظ على قيمة العملة الوطنية هو نظام التعويم المدار، وهو ما يجعله تحت السيطرة ويتناسب مع التغيرات في العرض والطلب بشرط أن يكون سعر الصرف انعكاساً حقيقياً لحجم الاقتصاد وبما يتناسب مع وضع المالية العامة، عبر اقتصاد إنتاجي نحمي به الليرة اللبنانية فيكسبها المناعة الذاتية ويجعلها غير معرّضة للتقلبات عند الأزمات الاقتصادية والسياسية. وأن يتحول سعر الصرف من هدف وحيد - تُسخّر في سبيل تحقيقه جميع إمكانات الدولة كما حدث منذ 1992- إلى أداة من أدوات السياسة النقدية، والتي يجب أن تتماهى مع السياسة المالية والسياسات الاقتصادية لتحقيق أهداف الاقتصاد الكلي: زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي وتخفيض البطالة ومكافحة التضخم وإعادة التوازن لميزان المدفوعات للوصول في النهاية إلى الهدف الأسمى وهو زيادة مستوى المعيشة وتحقيق السعادة والرفاه للمواطنين.

كيفيّة الحفاظ على قيمة العملة الوطنية

إن ضرورة الحفاظ على قيمة العملة الوطنية بمقوّمات ذاتية وحقيقية وليست وهمية يتكشّف زيفها عند حدوث أول اهتزاز سياسي أو اقتصادي كما هو حاصل اليوم، هو ضرورة اقتصادية واجتماعية وطنية. ويتطلب ذلك حماية الليرة بالإنتاج الوطني وبناء اقتصاد إنتاجيّ مستدام (وردت دعائمه ضمن رؤية اقتصادية متكاملة تم نشرها سابقاً).

ثم يأتي التحكم والتأثير بالمتغيرات التي تطرأ على العرض والطلب على العملات كمقوّمات أساسية في سبيل الحصول على ذلك، ويحدث هذا الأمر من خلال ما يلي:

- تصحيح عمليات الاستيراد والتشجيع على التصدير: وتخفيض كلفتها والتي بلغت في نهاية العام 2019 حوالي 19.2 مليار دولار بينما التصدير 3.7 مليارات مع عجز تجاري 15.5 مليار دولار، وإعادة هيكلة بنيتها عبر توفير بدائل محلية وتنميتها بأفضل الوسائل الممكنة المتاحة.

- إن الفاتورة النفطية تبلغ حوالي 5 مليارات دولار لجهة لزوم معامل الكهرباء أو حاجات المؤسسات والأفراد للمشتقات النفطية، وهو ما يشكل العامل الأول في استعمال المصرف المركزي للدولار من أجل تمويل استيراد هذا المنتج الحيوي. ويمكن عن طريق مصفاتي دير عمار والزهراني توفير البديل في تأمين المشتقات النفطية دون نزف في احتياطي مصرف لبنان من الدولارات. فالدراسات تشير إلى أن المصفاتين تستطيع تكرار 52 ألف برميل يومياً فيما نحتاج إلى 90 ألف برميل، وتزداد طاقتهما الإنتاجية بعد تطويرهما. وإن بناء مصافي نفط جديدة في طرابلس والزهراني سيتيح قدرة إنتاجية 200 ألف برميل يومياً، ما يزيد عن حاجة السوق المحلية والقدرة على التصدير والحصول على مزيد من الدولارات.

- تبلغ فاتورة استيراد الأدوية والمواد الطبية 1.9 مليار دولار، ويؤدي ذلك إلى مزيد من استنزاف الدولارات. يبلغ عدد مصانع الأدوية في لبنان أحد عشر مصنعاً ينتج الأدوية والأمصال والحقن والمستحضرات الطبية، وتسهم في إنتاج 7% من حاجة السوق المحلية فحسب. ويتمتع لبنان برأسمال بشري ماهر في هذا القطاع يمكن البناء عليه مع توفير تمويل لهذا القطاع وتنميته وزيادة مساهمته في تلبية الحاجات المحلية بل وفي التصدير.

- بل إن أبسط مقوّمات الأمن الغذائي غير متوافرة، إذ لا ينتج لبنان سوى 20% من حاجاته من الحبوب، ويبلغ استيراد القمح حوالي 150 مليون دولار و20 مليون دولار من الطحين، من هنا ضرورة دعم زراعة القمح وجميع أنواع الحبوب. المساحة المزروعة بالقمح لهذا الموسم بلغت حوالي 25000 هكتار، أما الإنتاج المحلي منه فهو مقدر لهذا الموسم بحوالي 90000 طن، بينما يحتاج لبنان ما يقارب الـ 800000 طن أي إن الإنتاج المحلي لا يشكل سوى 11% من حاجة لبنان، علماً أن حاجة لبنان قبل النزوح السوري كانت 450000 طن.

- إعادة الدور الحقيقي للقطاع المصرفي بعد هيكلته وهو دور الوسيط بين المدخر والمستثمر والمستهلك، عبر إعادة ضخ فوائض الأموال المودعة في المصارف في الدورة الاقتصادية من خلال قروض استثمارية للقطاع الخاص أو قروض استهلاكية للقطاع العائلي، وتخلّيها عن دور المقرض للدولة.

- جذب الرساميل والاستثمارات الأجنبية عبر مشاريع BOT ( الإنشاء- الاستغلال والتملك) أو DBOT ( التصميم- الإنشاء- الاستغلال والتملك).

- سنّ تشريعات تلغي الاحتكارات وتعزّز التنافسية بين القطاعات عبر المحفّزات الضريبية، وتفعيل الحماية الجمركية للمنتجات المحلية وخاصة الزراعية وللصناعات الناشئة.

- اتخاذ الإجراءات المناسبة من قوانين ومراسيم ونشر الوعي الوطني لـ "لبننة الاقتصاد"، وهو ما يشكل التحدي الأساسي في خطوات الحلّ، حيث بلغت الدولرة 77.6% في نهاية شباط 2020.

إن كل ما ورد أعلاه من إجراءات ووسائل لتحقيق الاستقرار في سعر صرف الليرة لا يعدو أن يبقى في الإطار النظري ما لم يتوافر العنصر الأساسي في ذلك وهو الاستقرار الأمني والسياسي، الذي هو مسؤولية كل القوى السياسية دون استثناء موالاةً ومعارضة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم