الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

قمة جدّة... نهاية أم بداية؟

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
قمة جدّة (أ ف ب).
قمة جدّة (أ ف ب).
A+ A-
يروي الأمير محمد الفيصل، في مذكراته، تفاصيلَ لم تنشر عن لقاء الطائف الذي شهده طفلاً بين الملك عبدالعزيز والمجاهد عبدالرحمن باشا عزام، بحضور وزير الخارجية الأمير (الملك) فيصل بن عبدالعزيز عام 1945 حول فكرة الجامعة العربية. كان الملك متوجساً ومتردداً في قبول مشروع بريطاني يجمع دولاً تحت حمايتها مثل العراق والأردن ومصر. فالمملكة العربية السعودية والمملكة المتوكلية اليمنية كانتا في ذلك الوقت الدولتين المستقلتين الوحيدتين في العالم العربي، وخشي الملك أن يكون المشروع محاولة بريطانية للهيمنة.
 

جامعة قومية مستقلة
اقتنع الملك العروبي بالمشروع عندما شرح له المجاهد العربي المطلوب من أكثر من قوة عظمى من بينها بريطانيا لمواجهته للاستعمار في أكثر من بلد عربي، أن الهدف هو الاستيلاء على الجامعة بعد تأسيسها، فالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس إلى غروب بعد الحرب العالمية الثانية، وبإمكان الدول المؤسسة للجامعة أن تتعاون على تحرير الدول التي لازالت تحت نير الاستعمار، وبذلك تصبح الجامعة عربية خالصة، ومؤسسة لكتلة قومية تقف في مواجهة التكتلات الدولية التي أفرزتها الحرب الكونية.

اقتنع الملك بالمشروع ووجه الفيصل بالعمل على تحقيقه، مشترطاً أن يتولى عزام أمانة الجامعة للعمل على تنفيذ رؤيتها لتحرير الأمة وجمع شملها ومواجهة خصومها وضمان أمنها ورخائها وتكاملها.
 

الانقلاب والتقلّب
تحررت البلدان العربية وانضمت إلى الجامعة فور استقلالها، وحدد ميثاقها هويتها ووقعت اتفاقيات تحدد مسارها وشروطها، ومن أبرزها اتفاقية الدفاع العربي المشترك. ثم جاء الثوار، وحكم العسكر، وتقلبت الأحوال ودارت الدنيا، فتقدم متأخرون وتأخر متقدمون. طمع المستعمرون القدامى والجدد، وأطمعوا من ظنوا فيهم الولاء والوفاء، فتباينت الميول شرقاً وغرباً. وعاد بذلك الاستعمار بثوب جديد، وبولاة جدد، يرفعون رايات الوطنية والقومية والدين.

 
قمة التحول
في قمة جده 2023 تحول جديد، فيه عودة إلى الجذور وانطلاقة إلى المستقبل وإجماع على إحياء المشروع الذي وضعه الآباء المؤسسون وتطويره. قمة التضامن والأمن والتنمية كان عنوانها الأساسي ورسالتها الأهم رفض التدخلات والإملاءات الأجنبية، والحياد الإيجابي، والنأي عن القطبية الدولية وتفادي تحول منطقتنا إلى ساحة صراع لغيرنا.

والطريق إلى تحقيق ذلك يبدأ بالتضامن الذي أعاد سوريا إلى الصف العربي رغم الاعتراض الأميركي والِأوروبي. ومعالجة الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية المزمنة، في السودان واليمن وسوريا وليبيا واليمن.
 

إحياء المشروع
وفي نفس الوقت، العمل على إحياء المشروع الأصلي، الذي يبدو أن البيروقراطية المتوارثة والمتراكمة نسيته، أو عجزت عن تحقيقه، بنفض غبار السنين عنه، وإعادة صياغته وتحديثه. فمنظمات الجامعة المنسية، المختصة بالثقافة والصحة والتعليم والتقنية، وغيرها من التخصصات التي يحتاجها العرب، بحاجة إلى إيقاظ وغربلة. والمشاريع التي وضعت للتكامل الاقتصادي والسوق العربية المشتركة بحاجة إلى إعادة توجيه. وتحديات الأمن الغذائي والمائي والسيبراني بحاجة إلى مواجهة. والتعاون في مجالات الطاقة والحرب على الإرهاب والمخدرات العابر للحدود في أشد الحاجة إلى تفعيل.

 
الضارّة النافعة
ولعل التجارب المريرة التي مرت بنا خلال العقد الماضي إبتداءً بمؤامرة "الخريف العربي" ومروراً بوباء كوفيد وانتهاء بأزمة الغذاء والطاقة، ضارّة نافعة. فقد كشفت أن التحالفات والشراكات مع مستعمر الأمس لم تفدنا. وأن السماح للأجنبي بالتدخل في شؤوننا شق صفنا وأشعل الفتنة بيننا. وأن غياب التكامل أفقدنا سلة غذاء العالم العربي في بلاد الرافدين والنيلين.
 
وهكذا، فبعد ثمانين سنة من عمر الجامعة تحررت بلداننا ولم تتحرر. استقلت ولم تستقل. استعادت سيادتها وخسرتها. ولازال أكثرنا يراوح مكانه أو يعود خطوات إلى الوراء في مسيرة التطور والرخاء.
 

نجاحات وإخفاقات
طرحت المذيعة السورية، ربى الحجالي، سؤالاً على أمين عام الجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، حول إخفاقات الماضي وكيف يمكن تفاديها، فرد عليها نافياً التقصير والفشل، ومؤكداً النجاح وثقة المواطن العربي ورضاه.

ومع احترامي وتقديري لجهود الجامعة في وسط الأعاصير العاصفة إقليمياً ودولياً، إلا أن المركب الذي لم تُحدّث آلياته منذ قرابة قرن بحاجة إلى صيانة شاملة. وهذا أمر طبيعي تمر به كل المنظمات صغيرها وكبيرها. فالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة التعاون الِأفريقي ومجلس التعاون الخليجي وغيرها تجدد شباب وحيوية أنظمتها وخططها وقياداتها بين الحين والآخر، بناء على مراجعة دورية للأداء والعطاء ولمواكبة التحولات وإيقاع العصر.
 

أسئلة مشروعة
وطالما أن العبرة بالنتائج، فماذا حققت اتفاقية الدفاع العربي المشترك في مواجهة التغوّل الإيراني والتركي والروسي والأميركي والأوروبي؟ وماذا قدمت منطقة التجارة العربية الحرة الكبرى لتحقيق حلم السوق العربي المشترك؟ وماذا فعلت دول الجامعة للدفاع عن الحقوق المائية للهلال الخصيب وأرض النيل ولبنان والأردن؟ وماهي الخطوات التي قامت بها لاستعادة الجزر الإماراتية الثلاث من إيران؟

والأهم من هذا وذاك، ماذا لمس المواطن العربي من كل "الإنجازات" التي تفاخر بها الجامعة على مائدة طعامه ومقعد دراسته وسرير مستشفاه ومكتب وظيفته أو ورشة عمله؟ وهل زالت الحدود بين بلاد العرب ليتنقل بينها بدون تأشيرة ويعمل أينما شاء بلا رخصة ويستثمر ويتاجر ويقيم بلا إذن؟

الاتحاد الأوروبي بدأ بعدنا وحقق قبلنا كل ما كنا نحلم به، وكل ما خطط له الآباء المؤسسون. ثم جاء مجلس التعاون الخليجي ومنظمة شنغهاي وآسيان ومجموعة الدول الصناعية السبع ومجموعة العشرين، ونجحت هذه التكتلات في توجيه الطاقات وتوحيدها لخدمة الشعوب، وبقينا نصدّر الإدانات والوعود والشعارات، ونستورد كل شيء آخر من الإبرة إلى الصاروخ.
 

قمة جدة
قمة جدة لم تنتهِ يوم الجمعة الماضية، بل بدأت في اليوم التالي. فأسلوب القيادة السعودية هو التحضير، التنفيذ، المتابعة. وطريقتها المفضلة العمل الجماعي بين اللجان وفرق العمل لكافة الأجهزة المعنية، وعلى جميع المستويات مندوبين ووكلاء وسفراء ووزراء وزعماء.

والقمة وضعت خارطة طريق وخطة عمل وبوصلة اتجاه لقطار العمل العربي المشترك الذي ستقوده خلال رئاستها للقمة يوماً بيوم، وساعة بساعة، حتى تصل به إلى المحطات المستهدفة، واحدة بعد الأخرى.
 

تضامن، أمن، تنمية
على أن اليد الواحدة لا تصفق. وفي بيئة التغيير هناك قيادات وهناك معوّقات. فإن غلبت الأولى على الثانية، تحقق المأمول. وظني أن دروس الماضي تلهم الحاضر. وأن إرادة الخروج من دائرة الأزمة إلى دائرة الحل، قيادياً وشعبياً باتت اليوم أقوى. وأن النور في آخر النفق أصبح أكثر وضوحاً وواقعية مع نجاح مشاريع التغيير والتطوير في البلدان الناجية، وأبرزها السعودية ودول الخليج.

قمة التضامن والأمن والتنمية قدمت طوق نجاة. إلا أن قرار القفز من المراكب الغارقة إلى مركب الإنقاذ لا يُفرض على من فقد الرغبة في الحياة. أما الذين اختاروا النجاة، فهم شركاء التغيير والتطوير، النماء والرخاء، وجودة الحياة.
 
 * أستاذ بجامعة الفيصل
@kbatarfi
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم