السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

حين كانت طرابلس تحتفي بعيد الأضحى على ضفاف "أبو علي"

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
مراجيح العيد على أطراف نهر أبو علي سنة 1976. (أرشيفية)
مراجيح العيد على أطراف نهر أبو علي سنة 1976. (أرشيفية)
A+ A-

القول إن الأعياد والأضاحي محتجبة عن طرابلس وكلّ لبنان قولٌ ليس بالجديد؛ غير أنّ طرابلس تفرح بتطرّف، وتعاني بتطرّف. هي "ماكيت" الرّغد والبؤس في لبنان لأنه من السهل أن تلتقط العين مؤشّراته. ونرى أنها تتجلّى بوضوح على ضفاف نهر "أبو علي"، الذي شكّل على طوله العمود الفقريّ لنشأة طرابلس المملوكيّة، واتّخذته شرياناً لأعيادها، خصوصاً الأضحى.

الهدف من اختيار النهر ليس لجعله تحفة والبكاء على ضفافه. السبب هو أن طرابلس معروفة بهويّتها البحريّة. لكن في الالتفات إلى طرابلس النهريّة، التي أسماها الباحث الراحل طلال المنجّد في دراسته الأنتروبولوجية بـ"مجتمع النهر"، نكتشف أن طرابلس خصّت الأضحى بشعائر "جفّ ماؤها" مع إهمال النهر، وارتحلت بعدما تحوّل أبو علي إلى حزام بؤس منذ الحرب الأهليّة.


أضاحي اللحامين والدباغة

في موسم الأضحى، كانت دورة الحياة تتجدّد عند النهر بفضل الأضاحي. فهنا كان اللّحامون والدبّاغون يقيمون محلّتهم. وأعطت هذه المهن أسماءها للمكان، فنشأ "جسر اللّحامين" و"محلّ الدباغة". وتأسس المسلخ البلدي قبل أن يأمر محافظ الشمال نور الدين الرفاعي في العام 1950 بنقله إلى الميناء. وهكذا كانت تشكّل ثلاثية اللّحامين- الدبّاغين- المسلخ، باللغة الاقتصادية، حلقة إنتاجيّة متكاملة، ينفخ فيها الأضحى الروح لأكثر من شهر، يبدأ من أسبوع الأضحى، ويمتدّ حتى عودة الحجّاج ليُستقبلوا مجدّداً بالذبائح.


نهر أبو علي يشقّ طرابلس في خمسينيّات القرن الماضي.


تقول الروايات إنّ نهر أبو علي يصطبغ بالأحمر منذ صبيحة الأضحى، ولكن غزارة المياه حينذاك كانت تجعله يشطف الدماء بسرعة ويستعيد لونه. ويشرف المؤمنون على ذبائحهم منذ الصباح الباكر، بعدما يؤدّون صلوات العيد عند الجوامع الكثيرة قرب ضفافه، وأجملها البرطاسي، وأقدمها التوبة.
ثمّ يعرّج كثيرون على سوق اللّحامين لتناول ترويقة العيد، وهي بالنسبة لهم اللحم والمعلاق المشوي من أضاحيهم الطازجة، والبعض يفضّلها للغداء. واشتهر المكان بوجود الرواسين الذين يبيعون أطراف الذبائح وأحشاءها. وكان أشهرهم الحاج سعيد الشعار الرواس المختصّ ببيع رؤوس الغنم نيئة أو مشوية أو مطبوخة مع الأرز والفتة.

وفي حين لم يعد المسلخ المجال الذي تُذبح فيه الأضاحي، فقد كان عبارة عن ساحة تمرّ مياه جدول نهريّ خاصّ من تحتها، وإليه تسيل دماء الذبائح وفضلاتها، وكان له أثر سلبيّ في التسبّب بروائح تُزكم الأنوف.

وكان الدبّاغون، وعددهم فاق المئة، ينتظرون الأضحى للاستفادة من جلود الأضاحي، فيستلمون من المسلخ الجلد دمويّاً، ويغسلونه بماء النهر وببعض العناصر الكيمياوية، ثمّ يدوسون الجلد بأقدامهم لتطريته، ثمّ ينشّفونه بتعريضه للهواء أو الشمس. وبعد تنقيته من الفضلات، يكشطون الصّوف والشّعيرات عنه، ويعدّونه للتصنيع المحلي أو للتصدير إلى المدن المجاورة والخارج.

مقاهي العائلات والشباب

ويذكر المنجّد أنّ أهالي طرابلس والضيع المجاورة وسوريا أيضاً، كانوا يقصدون المقاهي المنتشرة على ضفاف النهر خلال فسحة العيد، وأشهرها "مقهى البحصة" بحديقته الفسيحة، حيث يتظلّل الروّاد بأشجار الكينا والفلفل التي انقرضت من طرابلس، فضلاً عن زهر الياسمين والتمر حنه والورد، والأضاليا والزنبق الموسميين. ويستمتع الرواد بمشاهدة مسرح خيال الظلّ الناشط في العيد، الذي ابتدعه الحاج محمود الحارس، فيما يسترخون على الكراسي المصنوعة من الخيزران الدمشقي.

نهر أبو علي سنة 1862.

وعلى جانب جسر اللّحامين، يطلّ "مقهى جهير"، وكان له حكواتيّ ولعبة مصارعة حصريّة باسم "صراع"، فيحتدم الحماس بين متبارزين يتباريان على إيقاع الدربكة، وقد يقيم المشاهدون المراهنات.

وشكّل "مقهى الدباغة" واحة رطبة للمعيدين في الربيع، حيث يبلغ دفق ماء النهر ذروته، وينتقل رذاذه إلى المقهى فينعش روّاده صيفاً، وعرف بخضار تؤمّنه أشجار الدلب وعريشة العنب. في الأضحى، تحوّل المقهى إلى مطعم يزورونه من الريف وسوريا، ويطلبون وجبات اللحم المشوي أو رؤوس النيفا من سوق اللّحامين المجاور لهم.

أراجيح ومراكب العيد

يغتبط الأطفال بالأضحى حين يسمعون سبع طلقات من المدفع المثبت في أعلى القلعة ليلة حلوله، وطلقتين عند كلّ أذان حتى عصر يومه الرابع، لأنهم يعرفون أنّ لهواً وتسليات كثيرة فتحت لهم على مصراعيها، فكانوا يقصدون ساحة البحصة حيث تنتصب أراجيح وشقليبات العيد و"الدوّيخة".

ويأتي إلى السّاحة مروّضو السّعادين والدّببة التي كانوا يتولّون ترقيصها، كما يقصدها أيضاً صاحب صندوق الفرجة، الذي يتقاضى بدلاً نقديّاً بقيمة خمسة قروش، وأحياناً يقبل رغيف خبز أو بيضة.

 وتتحوّل في العيد مراكب صيادي الأسماك النهرية إلى وسيلة نقل للأطفال، فيذهبون إلى رحلة نهريّة شائقة ولطيفة من ضفة إلى أخرى.

وكان الأهل يحبّون بائع السمسميّة الكريم الذي حطّ رحاله بجانب مسجد البرطاسي. يقدّم في الأعياد قطعة سمسميّة للأطفال مع رؤية فيلم مصوّر في "الناضور"، فيرتع خيال الطفل في عوالم لا يمكن أن يراها كلّ يوم، أمثال زورو، السندباد، ران تان تان، سابو، أبطال ديزني وغيرهم.

الجفاف

هل يمكن الجزم بأن العيد جفّ ماؤه فيما ماء أبو علي تأخذ بالجفاف؟  ليس "الدولار" وحده المسؤول، ولا أزمة الوقود؛ فتقهقُر العيد على ضفاف النهر بدأ تدريجيّاً مع بداية إغلاق مقاهيه في النصف الثاني من القرن الماضي بدليل أنّ "مقهى البحصة" اتّخذه رشيد كرامي منبراً لإعلان ترشّحه للنيابة في العام 1951. ثمّ دمّرت الحرب الأهلية كلّ هذه المداميك الحيوية، ولم يأتِ بديلاً لها، فظلّت هويّة النهر ضائعة بل أصبحت محصورة في مكبّ للنفايات وقبالته سوق الخضار، وحوله حزام البؤس يتمدّد سُمكَه ويشتدّ خناقه. وجاء مشروع "الإرث الثقافي" ليدفن آخر مظاهر الحياة على النهر بالمعنيين المادي والمعنوي للكلمة. المشروع الذي طمح إلى تحويل طرابلس لبرشلونة ثانية، تُرجم بسقف النهر بالإسمنت، وحطّت على السطح بسطات البالات وأكثرها للأحذية.

اليوم، لم يبقَ لأطفال العيد على ضفاف النهر سوى بضع مراجيح، وأن يعيشوا العيد، ولو بهزالة أمر زاده الغلاء تعقيداً، وجعلته ضرباً من المستحيل. أكثر أطفال العيد في هذه الأنحاء يزاولون مهمّاتهم الموسميّة في تنظيف وتشكيل مثابر التبانة المجاورة للنهر. وما عادت المقاهي المنتشرة في المدينة الحديثة متنفّساً متاحاً لذويهم ولا لأغلبيّة العائلات الطرابلسية التي ابتلع الفقر قدراتها الشرائيّة، ويستمرّ تحليق "الدولار" بقتل النفوس والمتنفّسات.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم