الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كأنّ "الثورة" لم تمرّ من طرابلس...

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
من مشاهد طرابلس خلال انتفاضة تشرين. (أرشيفية).
من مشاهد طرابلس خلال انتفاضة تشرين. (أرشيفية).
A+ A-

بحلول سنتين، تعيش طرابلس حضيض ما خاضته بحماسة وجمال مفرطين جعلاها "عروس الثورة"، فيما هي اليوم تتطبّع مع انهيار دراماتيكيّ، لا يختلف اثنان على أنّه الأقسى لبنانيّاً، في ظلّ أزمة وطنية تضاف لأزمان من تهميش طرابلس وأمنها المتروك لقدره. موتٌ سريريّ ثقيل، كأنّ طرابلس أرخت جفنيها على شريط حياة سابقة، مستعيدة على وقع موسيقى "التكنو" الأغاني الوطنية ومشاهد الدبكة والأعلام وألوان الغرافيتي وخيم الحوارات. خارج هذه الفقاعة الزمنية، يخترق الأجواء أزيز الرصاص ودوي القنابل ليلاً، أو محاولات قتل ونهب على موتوسيكلات تسري في أحياء أقفلت محالها بعدما أحكم حزام البؤس خناقه عليها، واستسلم أهاليها للإفلاس، فاختاروا الانكفاء في بيوتهم ليتّقوا شرّ الشوارع.

الثورة مرّت من طرابلس كأنّها لم تمرّ. واعدة ثمّ مخيّبة. وإذا كانت الثورة عنونت نفسها بإسقاط رموز السلطة، أين تقع فرصة الانتخابات النيابية في معادلة طرابلس؟

 

نشطاء وباحثون يتناولون هذه المسائل.

 
 

رامي أسوم (ناشط سياسي): شاشات "الثورة العقيمة"

اتّضح أنّ الفولكلوريات الثورية التي أبهرت الرأي العام، كانت "مدفوشة" من المستفيدين من غياب بوصلة ثورية جدية، وهي في كلّ الأحوال من دعائم الثورة وليست للثورة بحدّ ذاتها. من الضروري الحديث عن وسائل الإعلام المرئية التي حرفت ساحة طرابلس عن المسار التغييري، سواء  في تكريس لقب "عروس الثورة"، لأنّ طرابلس التي بقيت خارج المشروع الوطني منذ تأسيس لبنان، سيفرح أهلها بهذا اللقب أيّما فرح، ويتوقّف طموحهم عند هذا الحدّ، أو من خلال انتقائيتها باستضافة وجوه كانت متزلمة للسلطة وبعضها غير فاعل، فظهّرت الثورة بعناوين فضفاضة كأنّ ما من شيء مهم سوى "إسقاط النظام"، وقُمِعت مجموعات تناولت مفاصل متخصّصة لمعالجة هموم الناس، فخوّنوها واستبعدوها، فيما كانت تُرتَكب أكبرعملية سرقة في التاريخ.

 
 

من مشاهد طرابلس خلال انتفاضة تشرين. (أرشيفية).

 

لم نرَ ثورة طرابلس في أيّ من المفاصل الآتية:

خطّة الحكومة للإنقاذ المالي التي توزّع الخسائر بين مختلف طبقات المجتمع، مراسيم مصرف لبنان العشوائية، مشروع الكابيتال كونترول الذي ضاع في متاهات المجلس النيابي. والمؤشّر الدامغ لعقم ثورة طرابلس أظهرته الانتخابات النقابية التي يخوضها مهنيون مفترض بهم أنّهم يشكّلون نواة الوعي، إذ فاز بالأكثرية الساحقة في انتخابات الأطباء والمحامين والمهندسين ممثلون من أحزاب السلطة. لقد بقيت "نخبة طرابلس" مكبّلة بعصبيات حزبية وطائفية، ولا أظنّ أنّ نتيجة الانتخابات النيابية القادمة ستقلب المعادلة.

 

ضياع "الثورة بدون قيادة"

أضف إلى الكيديّات المتبادلة بين المجموعات الثورية، أنّ النرجسيّات هيمنت في قلب المجموعة الواحدة، فطغى التنافس على التعاون وتفتّت معظمها، وابتلع الساحة الشبيحة والعمال المزدوجون. رفضت الثورة أن تنتج لنفسها قيادة، وهذا ما طرحناه خلال أسبوعين من بدئها من خلال "هيئة تنسيقية"، فشُنّت حرب ضدّنا، وتمسّك النشطاء بمعتقد "الثورة لا تحتاج إلى قيادة"، ثمّ عادوا بعد شهور لاقتراح خلق قيادة لكنّهم فشلوا، فـ"الثوريون" فقدوا الثقة ببعضهم بعضاً وظلوا هاربين من النقد الذاتي.

 

زينة الحلو (باحثة وعضو مكتب سياسي في حزب "لنا"): خيّبنا أمل طرابلس

إذا لم تستطع "الثورة" إسقاط النظام، فهي نعم قد فشلت. لكن، من قال أنّ الثورات تتّخذ هذا المسار لقلب الأنظمة، ومن جزم أنّ 17 تشرين الأول 2019 هو "ثورة"؟ أطرح هذه الأسئلة لأقول أنّ 17 تشرين هي لحظة مفصلية تراكم على ما قبلها وتؤسّس لما بعدها. في لبنان ثمّة ثورة بدأت العام 2005، وهي تتدحرج لتشكّل حالة سياسية أكبر، ومجموعها يؤسّس لوعي مجتمعي سيؤدي حتماً الى تغيير سياسي.

من هذا المنطلق، لا نستطيع الحكم على فشل الثورة أو نجاحها في طرابلس، لكنّ المدينة كانت حاضنة أساسية للثورة، عبّرت من خلالها عن حاجة بأن تكون جزءاً من مشروع وطني لطالما طالبت بالعودة الى حضنه. وهذا ما يجعلنا نقول وبحزم، أنّه لا يحقّ لأحد الحديث عن خيبة أمل من طرابلس، بل نحن من خيّبنا آمالها. وبالـ"نحن" أعني المتمسّكين بمركزية التحرّكات ولا نبذل مجهوداً للخروج من بيروت.

 

إذاً، هل بقي لطرابلس أمل "ثوري" في الانتخابات؟

لم تستطع الانتخابات إلا نادراً أن تحدث تغييراً جذرياً في المجتمعات، أقله ليس في آخر 50 سنة. الانتخابات التي يراد بها تكريس الديمقراطية غالبا ما تكون أداة قمعية في أيدي الأنظمة. ينبغي عليناً إذاً عدم مقاربة الانتخابات كلحظة مفصلية. إنّها محطّة من جملة محطّات في مسار التغيير. ومن الواضح أنّ الصراع محتدم في لبنان بين التغيير بمختلف أشكاله، وبين ما يسمى  بالـ"status quo" أو الحفاظ على الوضع القائم.

لن تقلب الانتخابات المعادلة لكن يجب أن تنَظّم، ويجب أن تخوضها القوى السياسية الناشئة وليس باسم الثورة، لأنّ الثورة لكل الناس وهي ليست لأحد في آن معاً. لا أحد اليوم يستطيع القول أنّه يمثّل الثورة، لأنها لم ترقَ إلى مشروع سياسي، وأظهرت فقط رفضاً للواقع. هذه الرفضية يلتقي عندها كثيرون، لكن الخلاف يقع عند طرح البدائل التي قد تكون متناقضة.

 

طه ناجي (باحث سوسيولوجي): طبقيّات في ثورة

لا شكّ أن "اللحظة" وحّدت الأدبيّات بين الشرائح "الأوفر حظاً"، وتلك المسحوقة التي تعيش في الأحياء الشعبية. ولا شكّ أنّها أحدثت سقوطاً أخلاقياً مدوّياً للطبقة السياسية التي تشكّل واجهة النظام، الّذي تبيّن أنّه يقيس نبض الشارع ويوجّهه بمهارات تتفوّق على أيّ سوسيولوجيّ أو عالم نفس، فلعبت الأجهزة مهمّتها الطبيعية في تفتيت الساحة لحماية النظام.  

الميسورون وخياراتهم التقليديّة

لم تغيّر "الثورة" خيار نسبة واسعة من عائلات طرابلس الميسورة، في تفويض أمرها لزعماء تقليديين يمثلون مصالحها الخاصة. فهي تعتبر أنّ رموز السلطة مدخلها للمال والأعمال وحتّى الزيجات. تخلّت هذه الفئة عن الأحياء الشعبية بالتدرّج، وكرّست انقساماً جغرافياً بأبعاد اجتماعية، منذ ثورة 1958، مروراً بـ"دولة المطلوبين"، "إمارة التوحيد" وحصار الجيش السوري.

لقد حاكى صيت "عروس الثورة" هاجس هذه الفئة في إثبات براءة طرابلس من "غوغائية" لا يُظهر الإعلام سواها. الفصام متواصل منذ أحداث التبانة - جبل محسن، حين أطلقت حملة بشعارات مثل "طرابلس بدا ترجع تسهر"، فعبّرت عن هموم شطر المدينة المحظيّ، بينما كان سكّان محاور القتال محاصرين، يحصد رصاص القنّاصة أرواحهم.

ماذا عن دور النشطاء؟

الجدير بالانتباه أنّ مجموعات التثقيف نصبت خيمها على هامش الساحة، كأنها تجسّد نزوحها نحو جنوب غرب طرابلس وربّما إلى خارجها، لأنّ المركز لم يعد يشبهها. حين تتحيّن الفرصة لهؤلاء الشباب، يتركون لبنان لأنّ التضحيات صعبة، لكنّها ضرورية في معركتهم ضدّ السلطة. كما أنّ وجوهاً عديدة تشبه المنظومة في فوقيتها وأسلوب الـ"وان مان شو". لذلك لا أرى أن هذه المجموعات أفرزت بدائل، والقانون الانتخابي يكرس الشرذمة لأنه لا يسمح بالتكتيل على مستوى لبنان.

البؤساء في "الثورة"

على هذه المجموعات المتعاطفة مع الشريحة المسحوقة، أن تدرك عجزها عن تحديد قواعد سلوك الثورة والأهم تصدّرها، لأنّ الثورة هي أيضاً ثورة طبقية على نخب لم تستطع أن تتماهى مع هموم الشارع الذي يتوق لأن تترجّل من أحيائه أصوات تمثّله. وريثما يصدح هذا الصوت، يبقى المشهد مجمّداً في فورة مدفوعة بحماسة "ثورية"، يمتهن استثمارها مختصّون في توجيه الشريحة المسحوقة وتعبئتها.

 

سامر حجار (أستاذ جامعيّ): افتقار للغة السياسيّة

أعتقد أنّ "الثورة" عانت خللاً بنيوياً منذ اللحظة الأولى حين أسميت بـ"الثورة". الاندفاع العاطفي كان أكبر من الاندفاع البراغماتي، إذ تمسّكت الساحة بشعار "إسقاط النظام" دون التفكير في أنّ هذا النوع من التّغيير عادة ما يستهدف الأنظمة العسكريّة والملكيّة.

غياب الخبرة

الأهداف غير الواقعية أفرزها ضعف التجربة السياسيّة، وطرابلس من أكثر المناطق الّتي احتجب عنها النقاش السياسي. فقبل عام 2005، كانت أوركسترا النظام السوري تدير اللعبة، ثم اندفعت طرابلس لتلتحق بـ14 آذار لكنها لم تشكّل من داخلها قوى سياسية معارضة. نجحت "الثورة" في فتح النقاش السياسي على مصراعيه، لكنّ التحدي اليوم كيف تكتّل مجموعاتها، وكيف تبلور مشروعاً يدخل في صلب أولويات الغالبية الفقيرة من أبناء المدينة، بالأخصّ في هذه الظروف الاقتصادية القاهرة التي ضخّمت مثلاً قيمة السلة الغذائية بنسبة 450 بالمئة.

تسرّب السلطة الى المستقلّين؟

بمنظور الانتخابات النيابية لقد تأخّرت "الثورة" في استقطاب أبناء طرابلس. لم تتكتّل في أيّ كيان، ولم تكوّن مشروعاً سياسيّاً، ولا تزال التحضيرات اللوجستية غائبة، لذلك أتوقع أن تعيد إنتاج نفس أساليب المجتمع المدني في العام 2018، في مقابل حنكة مرشحي السلطة في مخاطبة الناخبين على أوتار لا تزال مشحونة، وإمكاناتها المادية الهائلة، إلى جانب اجتهاد بعض الوجوه السابقة في السلطة أو كوادر بعض الزعماء السياسيين في إعادة إنتاج علامة تجارية مستقلة لتخوض الانتخابات تحت مسمّيات المعارضة. الرهان المتبقّي على المزاج العام في رفضه للواقع، إلّا أنّ حدوده لا تتخطى حدود الرفض، وأدوات التعبير محصورة بالورقة البيضاء أو الامتناع عن التصويت.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم