السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

ذاكرة "عين الرمّانة" تندلع... سلاح القاتل على مين؟

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
مشهد من عين الرمّانة اليوم (نبيل إسماعيل)
مشهد من عين الرمّانة اليوم (نبيل إسماعيل)
A+ A-

بين 14 تشرين الأول 2021  و"13 نيسان"، أكثر من 46 سنة وآلاف السنين الضوئيّة من الأحداث، إلّا أنّ اللبنانيين لم يفهموا عبرة واحدة من التاريخ المشؤوم، الذي عاد شبحه اليوم ليقول بأنّه لم يمحَ، فها هو يكرّر نفسه في عين الرمّانة، وإن تغيّر ظاهر الوجوه والأسباب. موت لا يرحم أحداً، وقنّاصون يحكمون على البلد بالعنف الذي يعيد إنتاج نفسه.

 

عند الظهيرة، هرج ومرج في الطيونة. أطفال المدارس في فرن الشباك التهمهم الخوف. الكولا مغلقة. الأرواح تزهق، وجرحى يُنقلون الى مستشفيات. لكنّ بيروت كلّها ليست بخير. فيما تختنق "الحمرا" بزحمة سير فجائيّة، سيّدة في أحد الدكاكين تهاتف زوجها.

أنقذت منذ قليل طفليها من رصاص القنص الذي حاصر مدرسة في الطيّونة، "نحن بخير. الأولاد في المنزل، وأنا أعاود تشريج هاتفي. ليا خافت وتبوّلت في ثيابها".

تلتفت السيدة الأربعينيّة إلينا: "تذكّرت طفولتي. حين كانت إدارة المدرسة تتصل بأهلي لنعود إلى المنزل، فألملم أغراضي على عجلة، ولا أعرف كيف نصل سالمين الى المنزل تحت الرصاص والصواريخ".

 

هل "التاريخ يعيد نفسه؟"

برأي المناضلة اللاعنفيّة الدكتورة أوغاريت يونان، أنّ "التاريخ لا يعيد نفسه، إنّما نحن من يصنعه ونعيد صناعته. أصبحنا مقتنعين بهذه المقولة لأنّنا عموماً، نعيش في مجتمعات حيث التغيير بطيء، وحيث المشهد يوحي للناس بأنّه لا يوجد إمكانيّة لتصحيح المسار. وفي لبنان تحديداً، بقيت تنشئة النفوس هي نفسها تقريباً، وظلّت الوجوه نفسها تستلم زمام السلطة".

 
(نبيل إسماعيل)
 

نحن شاهدنا مجدّداً الحرب الأهليّة في الشوارع وعلى شاشاتنا، "لأنّ الحرب الأهلية توقفت، هي لم تلغ أو تنته. ومن بعدها، لم نضع "أمراء" الحرب وميليشياتها أمام مسؤولياتهم، بل أعيد انتخابهم، وتصدّروا مواقع السلطة ومقدّرات الدولة، والسلاح الذي جرى مصادرته لم يصادر إلّا جزئيّاً، وبقي جزء آخر، فتسلّحت الميليشيات مجدّداً وباعتراف منها".  

 

حقيقة الأمر، أنّه "ما من شيء ثابت في الحياة، والتحوّل المستمرّ هو القاعدة. التاريخ ليس فيلماً نعاود استعراضه، لكنّ المشاهد ستبقى نفسها، إن تمسّكنا بالوجوه نفسها والذهنية عينها، لتحول دون صناعة تاريخ آخر. أضيفي أنّه بنشرنا لمعتقد "التاريخ يعيد نفسه"، نحيّد أنفسنا عن المعادلة، فنرفع المسؤولية عن ذاتنا، ونتصوّر كأنّ التاريخ كائن مستقلّ يكرّر نفسه."

 

لا لقانون العفو العامّ

ما تقدّم هو نتيجة لخطأ تاريخيّ، بدأ "بدون أدنى شكّ في العام 1991، حين صدر قانون العفو العامّ. هذا القانون، عفا فيه زعماء الميليشيات عن أنفسهم، فتنصّلوا من المحاسبة من خلال صيغة ديمقراطيّة، معتمدين التصويت البرلماني. هذا القانون هو ضربة قاضية سلّطها رموز الميليشيات والأحزاب الطائفية ضدّ أيّ تغيير. فحين تقع لحظة تاريخيّة مثل الحرب الأهليّة ولا نحاسب مرتكبيها، كيف نأمل أن نعيش تاريخاً مختلفاً في الأيام اللاحقة؟"

من المؤكّد "أنّ معظم اللبنانيين يرفضون تكرار القتل والعنف، ويشكّلون ما نسمّيه بـ"الأكثرية الصامتة"، غير أنّهم رفعوا أصواتهم ضدّ الحرب من خلال قوى مدنيّة وتظاهرات شعبية صنعت انتفاضة، على شكل عصيان في وجه التاريخ الحاصل". إلّا أنّنا اليوم أمام معطيات "تثبت أنّ قانون العفو العامّ يستحقّ ثورة جديدة تطالب إلغاءه".

 

المطلوب اليوم "ليس مواجهة العنف بالعنف. ونحن فخورون بعدم صدور حكم للإعدام في لبنان منذ العام 2014"، فـ"هناك طرق عديدة لمحاسبة مرتكبي العنف والحروب، من بينها منعهم من استئناف العمل السياسيّ لفترة زمنية طويلة، دهم بيوتهم ومصادرة ممتلكاتهم التي تضمّ الأسلحة، وحرمانهم من حقوقهم المدنية والسياسية".

 

وإزاء انسداد المحاسبة القانونيّة، "يجب أن يصار إلى محاسبة ضخمة من الناس الذين انتفضوا في الساحات وهتفوا "كلّن يعني كلّن". أمامهم لحظة تاريخية جديدة عليهم أن يدمجوها في شعارهم ليتجنّبوا تكرار هذا النهار الأليم، فيصبح: القضاء على "السلاح كلّو يعني كلّو"، لأنّ العنف يستدرج عنفاً آخر، ومن الخطأ تجاهل اعتماد الاستنسابيّة في نزع السلاح عن ميليشيا دون أخرى".

 

مقاومة لا عنفيّة

الحديث عن السلاح الداخليّ يطرح مسألة المقاومة بالسلاح. إلّا أنّ ثمة آراء "تتمسّك بمقاومة الاحتلال الخارجيّ لكن ليس بالسلاح. هذه النظريّة التي أثبتت فعاليّتها عبر التاريخ، تناولها أحد روّاد اللاعنف في المنطقة، المفكّر وليد صليبي في كتابه "نعم للمقاومة لا للعنف"، حيث لا يقول أنّ المقاومة ليست واجبة، لكنّ المقاومة السلميّة ضروريّة، لأنّها بدون تكلفة كالتي ندفعها اليوم".

 

وتعود يونان للتأكيد بأنّ "لا انفلات من حلقة العنف، سوى بمصادرة السلاح من كلّ الأماكن والمقرّات التي تضمّها، على النحو الذي تداهم فيه القوى المعنيّة مستودعات الأدوية الفاسدة أو المخدّرات وأوكار الإرهابيين والأصوليين. عليها أن تداهم كلّ أماكن تخزين الأسلحة، لأنّه الخطر الأكبر على لبنان".

 

القتل المزدوج

وفي تكرار مشاهد الحرب، تظهر مجدّداً "عوارض" العبثيّة على أفعال حملة السلاح والقنّاصين. نرى في الفيديوهات المتداولة كثيرين لا يستهدفون ضحية محدّدة، فيرشّون الرصاص كيفما اتّفق، في الفضاء، ونحو الأبنية السكنية ومجموعات من العزل أو المسلّحين، ما يحمل المشاهد على سؤال: أنتم تشهرون سلاحكم على من؟

 
(نبيل إسماعيل)

من وجهة نظر الباحثة "علينا ألّا ننسى التدخّلات السياسية الكبيرة التي تصبّ في لبنان وتريد الهلاك له، بصرف النظر عن النتيجة، ففي الحرب تسيطر معادلة: ممكن لخصمك أن يفتح الحرب على مصراعيها، لا مشكلة. الأهمّ هو أن تعيش البلد بلبلة. وأرضيّة استتباب هذه العبثيّة مهيّأة في لبنان، حيث القرارات الداخليّة تابعة لحسابات الخارج، والنفوس جاهزة، لذلك نجد ساحة العنف متجانسة جدّاً بين القوى المتصارعة".

أمّا على مستوى السلوك الفرديّ، "المسلّحون الذين نزلوا اليوم الى عين الرمّانة وأمثالهم في محطّات كثيرة سابقة، هم يشعرون بالرضى عن النفس، لأنّهم يتبعون الزعيم الميليشياويّ عن عمى، ولا يتردّدون في تنفيذ الأوامر".

 

ألا يخشى هؤلاء الموت أو أن يقضي قريب أو عزيز برصاصة؟

على مدى التاريخ، "من يخوض الحرب يتسلّح أوّلاً بمبدأ "قاتل أو مقتول". إنّه خيار عنف مزدوج، وهو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الهدف الأسمى، ونتيجة أن يُقتل أو يَقتل هي في الحالتين بطولة أو شجاعة. في حلقة العنف، لا يحقّق الفرد غايته سوى عبر قتل الآخر. ثم يردّ الأخير عليه، ولو كلّفه الأمر نفسه أو عائلته. العنف دوّامة مفرغة ولا مجال للتحرّر منه سوى باللا عنف".

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم