السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

في ذكرى حرب نيسان (المشؤومة): تسلّط الذاكرة الجمعية على الذاكرة الفردية في سرديات الحرب اللبنانية

المصدر: "النهار"
Bookmark
من آثار الحرب الأهلية (تصوير حسام شبارو).
من آثار الحرب الأهلية (تصوير حسام شبارو).
A+ A-
أ.د. محمّد شيا*"معظم الناس لا يعترفون أن بلادهم على شفا حرب أهلية... حتى تقع" (باربرا والتر، "الحروب الأهلية") لن يتوقف على الأرجح البحث والكلام في الحرب اللبنانية الأخيرة (الأهلية وغير الأهلية)، 1975-1990، أسبابها، الفاعلون فيها من قوى وأحزاب وحركات وميليشيات داخلية، ودول وقوى إقليمية وربما أبعد، ويومياتها الطاحنة التي دمّرت لبنان العمران والدولة، وربما أسوأ من ذلك، دمرت حياة اللبنانيين الفردية والعامة، وارتهنتها حتى الآن، وبكل المعايير. لكن الورقة هذه، وبين إشكاليات وموضوعات كثيرة تنتظر البحث، ستحصر عملها البحثي في أمر واحد، سيكون في حقل تداعيات الحرب اللبنانية المختلفة الأوجه والتسميات، المستمرة حتى الآن، وهو: "تسلّط  الذاكرة الجمعية على الذاكرة الفردية، في سرديات الحرب تلك – أي إعادة بناء ’صورة’ الحرب تلك في أذهان المواطنين". وفي اعتقادي، أنها واحدة من بين الإشكاليات المهمة التي لم تتعرض كثيراً حتى الآن لمجهر البحث ومقص النقد.  غاية الورقة، تعميق البحث العلمي والموضوعي في الإشكالية- الموضوع أعلاه، باتجاه قيام فهم أعمق لدور الآليات (الكامنة غالباً) التي تستعيد صورة  الحرب (اللعينة) تلك، على نحو أيديولوجي ممنهج، قصدي؛ وهي من القوة بحيث تستطيع "تبرير" الحرب تلك، وجعلها مقبولة، بل "أخلاقية"، أي يمكنها التأسيس الأخلاقي والنفسي لحرب جديدة مشابهة إن لم يجر فضح الأغراض الحقيقية منها؛ أي فضح  "صورها" المتقابلة، الأيديولوجية، المزيّفة، والمنتشرة في الثقافة الراهنة لغير جماعة وبيئة من مجتمعنا اللبناني. باختصار: كيف يجري بكل الوسائل فرض "النسيان" الفردي، impressive forgetting خطوة ضرورية لتشكيل "الذاكرة الجمعية" المتطابقة في كل جماعة؟  كيف يظهر التذكّر الجمعي الأيديولوجي المشغول أو "المصنّع"، ذاك، ضروريا لاستمرار التعبئة والحشد و"الاستنفار" داخل كل جماعة لبنانية، كاحتياط emotional reserve لكل الخيارات السيئة – لا سمح الله؟في التعريف المعجمي، الذاكرة الجمعية هي "الطريقة التي تتذكر بها جماعة ما تاريخها"، وتسرد بالتالي تاريخها، مجموع "الثقافة المشتركة" للجماعة، وما تتذكره من ماضٍ يخص الجماعة ككل، ومن أحداث بارزة في الماضي ذاك، (كواقعة الحرب الأهلية التي مرّت يها الجماعة، موضوع الورقة هذه)، ومن مواقف مشتركة حيالها.  هي ليست إذن ذاكرة فردية، ولا فعلاً فردياً، خاصاً بالفرد، مستقلاً بنفسه إلا في حدود ضيّقة (أي في حدود ما يظهر الفردي تعبيراً أو تجسيداً لمطالب الجمعي). وأخيراً، عمل الذاكرة الجمعية شاق، ويلزمه الكثير من الجهد الأيديولوجي في حال وجود تاريخ موضوعي متوافق عليه لأحداث مكان ما، في حقبة ما، فكيف حين تكون أحداث الحقبة المعنية موضع نزاع بين المؤرخين أنفسهم (كحال الكثير من حقب تاريخ لبنان)، فيغيب التاريخ العلمي والموضوعي لأحداث الحقبة موضوع التذكّر، وتزدهر بسهولة مشاريع الذاكرة الأيديولوجية لدى كل جماعة (أي ذاكرات جمعية متقابلة).                                  IIانطلاقاً من تعريف الذاكرة الجمعية ، كيف جرى، ويجري، إذن، بناء سردية "الحرب الأهلية اللبنانية" (وغير الأهلية في آن معاً)، ونعني بها صورة الحرب (اللعينة) التي دارت في لبنان، (13 نيسان 1975- 30 تشرين أول 1990)، بين اللبنانيين، وبين اللبنانيين وآخرين، ثم فرضها "ذاكرة جمعية" متطابقة لدى الجماعة؟ قبل الدخول في الحالة اللبنانية المعاصرة بل الراهنة لتسلّط الذاكرة الجمعية على الذاكرة الفردية، حتى درجة الإمّحاء أحياناً؛ – ومن باب المقارنة التاريخية - المرور بحالات مماثلة تقريباً من تجارب عدة في التاريخ، على سبيل المثال لا الحصر:   "أرض الميعاد" اليهودية كذاكرة جمعية مركّبة، والذاكرة الفلسطينية الجمعية المقابلة   تجربة ألمانيا النازية1932-1945  تجربة روسيا (السوفياتية) في سردية :الحرب الوطنية العظمى" تجربة إيران "الثورية" والذاكرة الجمعية "الأيديولوجية"الأمثلة تلك  شديدة الوضوح ولا تحتاج إلى كثير من الشرح والبيان في كيفية إنجاز محوٍ قسري تدريجي للذاكرة الفردية لدى أفراد الجماعة المعنية، واستبدالها تدريجاً، من خلال جهد كبير ثقافي- أيديولوجي، ومادي، بذاكرة جمعية واحدة لدى سائر أفراد الجماعة، تقريباً، تقترح سردية واحدة، هي السردية الرسمية المعتمدة، وعلى حساب السرديات الفردية التي سبق وعاشها ويتذكرها الفرد، بمرّها قبل حلوها.لا مكان الآن، بالتدريج، وبخاصة لدى الناشئة، لأية ذاكرة فردية، ولأية سردية لما حدث، غير تلك التي تقترحها (يعني تفرضها بوسائل عدة) الجهة المسيطرة والتي تملك السلطة وخطابها الأيديولوجي.  في النماذج الأربعة أعلاه من محو الذاكرة الفردية لصالح إنتاج وتصنيع ذاكرة جمعية بديلا للفردي وأعلى منه، ملمحان اثنان مشتركان، وسيكونان مشتركين مع الحالة اللبنانية أيضاً وهما: الأول، الدور البارز بل الحاسم ل"الثقافة" في تصنيع الذاكرة الجمعية على حساب الذاكرة الفردية، والثاني، "الاستبداد"، باشكاله المختلفة، الاحتياط الضروري الحاضر عند الحاجة لإنجاز تدمير الذاكرة الفردية، (وكجزء من تدمير شخصية الفرد المستقلة نفسها)، فلا يبقى غير الذاكرة الجمعية الإلزامية Obligatory Collective Memory "حقيقة ثابتة" مشتركة لكل أفراد الجماعة. في الملمح المشترك الأول، الدور البارز بل الحاسم أحياناً للثقافة، يمكن من دون صعوبة تتبع سلسلة العناصر أو المكوّنات الثقافية التي تحتل حجماً لا بأس به في بنيان الذاكرة الجمعية المشغول عليها.  تلعب الثقافة بشكليها الدور أعلاه: الثقافة (المادية)، والثقافة (غير المادية)، أي الكتابية، الشفوية، الدينية، الروحية، الرموز، الإشارات، المصطلحات، إلخ.  تقدّم الثقافة في شكليها أعلاها العناصر التي يجب أن يراها الفرد في الجماعة، بل يجب أن لا تغيب عن بصره، في كل مكان وأوان؛ فتترسخ الأيديولوجيا المفروضة مضموناً للذاكرة الجمعية، ولا تغيب عن البصر؛ فيما تغيب بالمقابل ذاكرته الفردية تدريجاً. أظهرُ مظاهرِ هذا الملمح هو انتشار الصور واللوحات التصويرية في كل كتاب أو مدوّنة أو منشور، وبخاصة في كتب التاريخ والتربية – لهذا تقاتلوا ثم اتفقوا ثم اختلفوا على عدد بل ووحجم صور "ابطال" لبنان التي يجب أن يتضمنها كتاب التاريخ المشترك، الذي لم تكتب له الولادة رغم سنوات من الاشتغال عليه. إلاّ أن الملمح ذاك يصبح أكثر مباشرة وقوة حين تكون عناصر الثقافة المادية تلك، من صور ولوحات وتماثيل (الآن) مرفوعة في كل مدينة، بل في كل ساحة، لتقترح، بل تفرض، المضمون الأيديولوجي المراد جعله مضمون الذاكرة الفردية. ليس ذلك فحسب، بل يجب أن تكون الصور واللوحات باحجام ضخمة – ربما كانت بحجم الشارع نفسه، أو الساحة نفسها، بهدف إحداث الأثر النفسي المطلوب. وما قد ينقص الصور واللوحات، يجب أن لا ينقص التماثيل أبداً: فعلى رموز الثقافة السياسية والدينية والتاريخية تلك...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم