الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

يُرمّم الجراح ويُحارب... عندما يُقاوم الطبيب غسان أبو ستّة الجرائم الإسرائيلية

المصدر: "النهار"
ليلي جرجس
ليلي جرجس
غسان أبو ستة.
غسان أبو ستة.
A+ A-
يسابق الوقت بين صاروخ وآخر، قبل أن يعلو الصراخ وتكثر الدماء والجراح وبعد ذلك، فيحاول جاهداً إنقاذ الجميع، بالرغم من أن إجرام الاحتلال الإسرائيلي لا يرحم، فيتحوّل بين الحين والآخر إلى شاهد على ضحيّة فلسطينيّة جديدة تُضاف إلى قائمة ضحايا حرب غزة.
 
بين عمله الجراحي في ترميم جروح وإصابات الجرحى، وانهمار الصواريخ والقذائف منذ أكثر من 15 يوماً، يقف ذلك الطبيب مستقيماً بوجه كلّ هذا الدمار؛ هو الذي تشرّب الصمود والنضال مذ كان صغيراً، حين حمل في قلبه القضية الفلسطينية، وعاد إليها ليطبّب جراحها... جراح وطنه النازف منذ عقود.
 
منذ 7 تشرين وهو يخوض حرباً من نوعٍ أخرى، يعرف عدوّها جيّداً، ويعرف أنّ هذا الأخير مجرم حرب لا يعرف الرحمة. ما شاهدْته عيناه منذ أسبوعين كفيل بتوثيق جرم الجيش الإسرائيلي، لكنه لا يكتفي بالمشاهدة والمساعدة، بل يسعى إلى توثيق كلّ قصّة، كلّ موت، كلّ جرح، يخطّ وجعه على منصّة "إكس" حيث يفضح الصّمت الدولي المريب.
 
في كل مرة يكتب فيها سطوراً صغيرة تحمل دموعاً كثيرة. لكن لا شيء يخفّف فداحة ما يجري. يترجم ما يراه مع الجرحى، خصوصاً الأطفال منهم، ليكون صوتهم المخنوق. بالأمس، كان عداد ضحايا الأطفال "2055 قُتلوا خلال 16 يوماً. إنجاز إسرائيلي!".
 
يعود إلى جرحاه، إلى من يُقاسمهم الألم والخيبة والانكسارات والوطن، يتحدث في تغريدة له، عن ابن الـ16 عاماً الذي يعاني من حروق بليغة في وجهه والأطراف العلوية والسفلية. يصف كيف تعرّض منزلهم للقصف بعد تناوله العشاء مع والديه، وكيف توفي والده الذي كان جالساً بجانبه وكيف اختنقت والدته بسبب الدخان.
 
يواصل ترميم الجروح والتشوهات. يعمد إلى تقطيبها وتجميلها بما أمكن. لكن من يرمم جراحهم النفسية؟ عرف غسان أبو ستّة أن الوجع النفسي والخوف والخسارة والفقدان والموت لا يمكن تخطيها إلا بفضح ما يجري على أرض الواقع. وبما أن بعض الإعلام يتعمّد تضليل الحقائق، قرّر أن يكتب ما يعجز كثيرون عن قوله بكلّ صراحة.
 
رأى من الأشلاء ما لا يمكن تعداده، الدم في كلّ مكان، والعمل تحت أضواء القنابل، وفي ظروف صعبة تزيده عزيمة وإصراراً. يواجه لغة القتل بلغة الترميم والبناء. العدو يقتل، لكن أبو ستّة يداوي الجروح، وإن خانته، في بعض الأحيان، الإصابات، وخرج شبح الموت من جديد.
 
 
على صفحته على "إكس" ينشر قصّة شقيقين "تعرّضا لحروق شديدة جداً. بعد يومين على الإصابة توفّي أحد الشقيقين متأثراً بجروحه. ومنذ ذلك الحين، توقّف شقيقه عن المحاولة. وفي صباح اليوم التالي توفي هو الآخر".
 
تلاحقه الحروق في ممرات المستشفى، يهرب من واحد ليواجه مصيراً أسوأ ووحشاً جديداً من صنع الجيش الإسرائيلي. أطلق صرخته من حنجرة مخنوقة "نفدت لدينا ضمادات الحروق. لدينا أكثر من 70 جريحاً تغطّي الحروق 40 في المئة من أجسادهم، 80 في المئة منهم أطفال".
 
يكتب قهره، يكتب المآسي التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الأطفال والنساء والمدنيين، يكتب من دون ملل أو كلل. يعمل بوظيفة مزدوجة، طبيباً على الأرض، ومحارباً شجاعاً في العالم الافتراضي، عسى من يسمع استغاثته المتواصلة!
 
اليوم، قرّر أن يكتب مأساة هالة، الابنة التي تبلغ من العمر 13 عاماً. يروي: "كنتُ أحاول تهدئة هالة ابنة الـ13 عاماً بعد استيقاظها من البنج، قلتُ لها "كل شيء سيكون على ما يرام، لقد انتهت العملية"، لتجيبني "لن يكون الوضع على ما يرام أبداً، لقد قتلوا أمي وأبي".
 
يقاوم الجسم الطبي في غزة باللحم الحيّ، يجرون العمليات تحت أضواء الهواتف، وفي الممرات والغرف التي ما زالت صامدة بوجه القصف المتوحش.
منذ أيام، نشر صورة للخلّ الأبيض موضحاً: "نستخدم الخلّ الذي اشتريناه من محلّ موجود على الزاوية لتطيهر وعلاج التهابات الجروح البكتيرية الزائفة. لقد وصل بنا الأمر إلى هذا الوضع".
 
 
تراه مصمّماً على عدم إغفال أيّ تفصيل، أي قصّة توثق ما قد لا يراه الناس خلف الأبواب الموصدة. يتذكّر الليلة المشؤومة التي قصفت فيها إسرائيل ساحة المستشفى المعمدانيّ، يشاركنا أولى عملياته بعد ليلة صعبة جداً، حيث بذل جهوداً ليستجمع قواه "كانت أولى عملياتي بعد هذه المجزرة لطفلة تبلغ من العمر 5 سنوات، قُتلت والدتها وشقيقتها. كانت مصابة بجروح بليغة في ذراعها، كانت ضعيفة جداً ووحيدة. كم مرّة يمكن أن ينكسر قلبك؟".
 
بين الحيطان، وبين أشلاء الضحايا والإصابات الشديدة، يواصل معركته ضد العدو الإسرائيلي. وفي كلّ مرة يؤكّد لنا أن لا شيء يمكن أن يُوقفه عن عمله، حتى عندما قامت الشرطة البريطانية بمضايقة عائلته القاطنة هناك، لم يتخلَ عن واجبه ودفاعه عن الحق. وهذا ما أكّده على صفحته "عدتُ إلى إجراء العمليات، لن يكسرنا شيء".
 
مثلك يا دكتور أبو ستّة يُعلّم العالم كيف نواجه الحقد والقتل بنُبلٍ، وأنت تمسح دماء الجرحى، وتذكر هُويّة فاعلها، وتداوي وتوثّق وجع مئات الأطفال والأمهات والمدنيين العُزّل... فأرجوك واصل معركتك من أجل كلّ الذين لا صوت لهم.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم