الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

قراءة اجتماعية... لماذا يحرق فقراء من طرابلس أملاك مدينتهم؟

المصدر: النهار
A+ A-
تُشكّل طرابلس هذا التناقض المخيف الذي تعيشه المدينة بين الفقر والعوز والميسورين الذين يعيشون حياتهم برفاهية. استغلال الجوع والعوز ليس جديداً، فلطالما لجأت بعض الجهات إلى استخدام الطرابلسيين كوقود لتوجيه رسائل سياسية. التوقيت يفرض علامات استفهام إلا أن الأكيد أن المدينة تزداد فقراً والحلول معدومة. لم يكن تمديد الإغلاق العام سوى ذريعة، لكن ما جرى يكشف الكثير عن دوافع اجتماعية وسياسية تجعل من هذه المدينة مستغلَّة وصورةً متطرفة تؤدي إلى إخراجها وعزلها عن لبنان.
يشرح أستاذ الديموغرافيا في الجامعة اللبنانية الدكتور شوقي عطيه لـ"النهار" أنه "بالنسبة إلى علم الاجتماع كل فعل يُقابله رد فعل، والنتيجة يكون خلفَها سبب، وما شاهدناه في الأيام الأخيرة كان نتيجة. الكل يعرف مدى سوء الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها مدينة طرابلس، التي تعتبر من أكثر المدن حرماناً حيث هناك تفاوت اجتماعي بين مكوناتها، هذا التفاوت الكبير والفاضح. ما حصل بالأمس قد يكون نتيجة الفقر والعوز والسياسات العشوائية للدولة، وهي نتيجة تراكمية بسبب الوضع الاقتصادي والغلاء المعيشي وسعر صرف الدولار الذي أثقل كاهل شريحة كبيرة من المواطنين، وما زاد الوضع سوءاً اللجوء إلى الإغلاق العام الذي أنهى أسبوعه الثالث في ظل غياب أي خطة لدعم الفقراء".
ويلفت عطيه إلى أنه "علينا ألا ننسى أن قسماً كبيراً من الطرابلسيين يعتاشون من عملهم اليوميّ، وحرَمَهم الإقفال المستمر من الدخل اليومي الذي يحصلون عليه، وفي المقابل لم تؤمّن الدولة أي بديل. وبالرغم من انتشار الجائحة في لبنان ما زالت الدولة تتحدث عن توزيع مساعدات على العائلات، ومع أن قيمتها لم تعد تساوي الكثير اليوم، إلا أنها لم توزعها بعد.
الوجه الظاهري للتظاهرات هو العوز والفقر والغضب الشديد تجاه الدولة وتخبط المسؤولين فيها، فيما لسان حال السكان "الموت من كورونا وليس الموت من الجوع". لقد وصل الطرابلسيون إلى حالة من عدم المبالاة لصحتهم ونزل الشباب إلى الشارع دون أدنى إجراءات وقائية. وعلى الناس أن تُميز بين من نزل من أجل لقمة عيشه والظروف الاقتصادية الصعبة، وبين الذين سهروا ليلة رأس السنة لتمضية أوقات جميلة وللتسلية. الأوضاع في طرابلس مزرية جداً، ومن لم يزرها لا يعرف معاناتها. الحالة الاجتماعية صعبة وموجعة".
 

ويؤكد "أن التعليم حق للجميع ومتوافر، إلا أنه لم يعط للجميع فرصةً للتعلّم، واضطر قسم من الشباب إلى ترك المدرسة حتى يساعدوا عائلاتهم. وهذا التسرب الدراسي يؤدي إلى ارتفاع مستويات الجهل والأمية وبالتالي يؤثر على تفاقم الفقر ويزيد التفاوت الاجتماعي بين الطبقة الفقيرة والغنية. ويعتبر خط البوليفار (من الجهة الغربية لطرابلس) وساحة عبد الحميد كرامة، الحد الفاصل بين الشارعين، بين ميسوري الحال والفقراء. ويشعر الشخص الفقير بحالة غضب وحقد ونقمة على الأشخاص الذين يعيشون أفضل منه. ولقد سمعنا بالأمس صرخات منددة ليس فقط تجاه السلطة وإنما تجاه الأشخاص الأغنياء، وهذه السلوكيات أخطر لأننا أمام مواجهة اجتماعية طبقية شاملة بين الفقراء والأغنياء، لا علاقة لها بالثورة الماركسية".
مضيفاً: "هذا بالنسبة إلى الوجه الظاهري، أما عن الوجه المستتر، فهناك من استغل هذه الدوافع والفوارق الاجتماعية. إذاً سلوك الشباب مفهوم حتى لو كان خاطئاً، إلا أنه ناتج عن الحرمان وغياب الاهتمام الاجتماعي وفرص العمل، وفي الوقت نفسه استخدامهم كوقود سواء في المعارك التي حصلت في جبل محسن- باب التبانة أو بالتحركات والتظاهرات، حيث كان بعضهم موعوداً بمكافآت معينة.
أما بالنسبة إلى حرق المباني العلمية والرمزية ، وبالرغم من أن البعض اعتبر تحطيم المباني ممنهجاً، فأنا لديّ وجهة نظر مختلفة، لأن المحتجين حاولوا بداية تحطيم السرايا وقصر العدل، ونجحوا في مكان معين. كما حاولوا الهجوم على منازل بعض الوزراء والنواب ولم ينجحوا، وبالتالي الهجوم على بلدية طرابلس قد يكون بريئاً وهو مبنى رسمي غير محروس. كذلك كان التعدي على جامعة العزم التي تعود إلى أحد رموز السلطة، في ظل غياب الحراسة المشددة، كما هي الحال مع المباني الأخرى.
الأكيد هو وجود غضب عارم، وهناك جهات تُسيّر هذا الغضب وفق مصالح معينة لتوجيه رسائل لجهات محلية ودولية. والمقصود هو التخريب وتدمير كل شيء، وفي السابق تم استهداف المصارف، والهدف منها إحداث التخريب".
إذاً وفق عطية ما يجري في طرابلس هو "مزيج من السيناريو المفتعل وغير المفتعل، فهي أشبه بالحطب الذي قد يشتعل عند أي شرارة. ولأن الناس موجوعة وجائعة، يمكن العزف على أوجاعها لتحريكها بسهولة. قلّة التنظيم تشير إلى عدم القدرة على ضبط الشارع، أو عدم الرغبة في ضبطه، ونحن نعلم أن أي تظاهرة يجب أن تكون منظمة حتى لا تخرج عن أهدافها والسيطرة عليها. وما جرى بالأمس ليس تظاهرة منظمة، وبالتالي مبنى البلدية كان ضحية هذا الغضب لا أكثر. وعليه، التظاهرات التي تختفي وتظهر بين الحين والآخر هي نتيجة الضغوطات الإقتصادية أولاً ومن ثم الضغوطات السياسية التي ظهرت فترة ومن ثم اختفت بعد حدوث تغييرات سياسية في لبنان. وهذا ما يؤكد نظرية أن هناك جهة تُحرك الشارع الطرابلسي.
أما عن توقيت التظاهرات، فقد يكون التذرع بتمديد الإقفال ممكناً بهدف توجيه رسائل إقليمية ومحلية، وقد تمّ استغلال الفرصة الأولى لإحداث شرارة هذه التظاهرة ، ويتم استغلال هذه التحركات الناتجة عن الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية".
ويشدد عطية على أن "الفقر والجوع يُولدان التطرف، ولأن الفقراء يكونون متقبلين لأي حلّ يُعرض أمامهم. وعادة من يقدّم هذه الحلول لا يعرض حلولاً وسطية وإنما لخدمة مصالح أو أفكار معينة تسلك منحى التطرف. الظروف الإقتصادية والصحية التي تعيشها أحياء طرابلس ليست قادرة فقط على تغيير معالم المدينة بل قادرة على تغير المدينة ككل. وعليه، يمتد الفقر أكثر فأكثر في طرابلس، وقد تغيرت بعض الزعامات السياسية إذ عادة هناك احساس دائم في الغبن والخذلان وأن هذه الزعامات السياسية خذلت شعبها ما يؤدي إلى تبعية شخص آخر وزعامة أخرى قادرة على تلبية خدمات معنوية أو مادية (رمزية). مع العلم أن الزعامات السياسية لم تقم بأي مشاريع إنتاجية او إنمائية بل خدماتية وهي غير قادرة على القضاء على الفقر. لا وجود لمعامل وشركات إنتاجية مستدامة تؤمّن دخلاً مستمراً للعاملين والسكان.
وفي العودة إلى الماضي، يبدو واضحاً ان طرابلس تشهد أحداثاً دائمة، ولم تكن المدينة على علاقة جيدة مع الدولة. وهذه العلاقة المتوترة بينهما تكشف مدى انفصال طرابلس عن لبنان خصوصاً في جولات العنف.
ويختم عطيه قائلاً: "المدينة تزيد نقمتها يوماً بعد يوم على الدولة والسلطة، وهذا التخوف من أن تصبح خارج سيطرة الدولة وفصلها عن لبنان تُقابله نقمة من الطرابلسيين على الدولة والسلطة. هناك استغلال كبير لمشاعر الطرابلسيين وطيبة قلبهم. لذلك أتخوف في حال بقي الوضع لما عليه في طرابلس، أن تُعاود هذه الشرارة في الاندلاع بالرغم من فرض السلطة الأمنية في الوقت الحاضر. ويبقى الحل الوحيد أن تنظر الدولة إلى طرابلس على أنها جزء من لبنان، وإجراء تنمية فعلية للمدينة وليس من باب المساعدات، وخلق مشاريع تنموية تؤمّن مصادر دائمة، وإعطاؤهم الكرامة وإمكانية الحياة الكريمة للعيش بشكل جيد بعيداً من الاستلازم".
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم