في العام 1975، اندلعت حرب أهليّة في بلدي الأمّ لبنان، فاضطرّ والداي إلى ترك المدرسة في المرحلة الثانويّة. وإذ لم تُتح لهما فرصة العودة إلى المدرسة، علّماني وأخي أن نقدّر العلم ونجعله من أولويّاتنا. لطالما ردّدا لنا: "علمُكما سبيلُ نجاحكما مدى الحياة". وهذا العام، بعد مرور نصف قرن على الحرب وعبوري المحيط نحو النصف الآخر من العالم، أتيحت لي فرصة تصميم أوّل رقاقة دوائر متكاملة (Integrated Circuit) من الألف إلى الياء. وأودّ مشاركة كلّ الذي تعلّمته خلال هذه المسيرة معكم.
في العام 2019، غادرت لبنان وعائلتي وأصدقائي سعيًا وراء تحقيق حلمي، محتفظة في وجداني بالإيمان العظيم الذي يميّز شعبي. كنت أوّل فرد في عائلتي يقدم على خطوة الدّراسة في الخارج، حاملة معي ذكريات ضيعتي "ممنع" في عكار- شمال لبنان. وها قد وصلت إلى بلد جديد، وكنت على استعداد لبدء فصل جديد من حياتي كعضوة في قسم مينغ هشيه (Ming Hsieh) للهندسة الكهربائيّة وهندسة الحاسوب في جامعة جنوب كاليفورنيا (USC Viterbi).
انضممت إلى مختبر الدّوائر التناظريّة والراديويّة المتكاملة والنّظم الميكروويّة والموجات الكهرومغناطيسيّة (ACME) تحت إشراف البروفيسور قسطنطين سيديريس، حيث أعمل على مشاريع التطبيقات اللّاسلكيّة والطبيّة الحيويّة. كان عامي الأوّل مليئًا بالتحدّيات، وسرعان ما انطلقت في العمل على أبحاثي. باشرت العمل في مشروع مختبرنا للأقراص الذكيّة. في أثناء تنقّل الأقراص عبر الجهاز الهضميّ للمريض، تجمع عادةً البيانات الآنيّة وترسلها لاسلكيًا خارج الجسم، فتُتيح هذه التقنيّة فرصة تشخيص المريض في أيّ مكان وزمان من دون الحاجة إلى الخضوع لإجراءات جراحيّة تستغرق وقتًا طويلاً كتنظير القولون أو لاختبارات التصوير الشعاعيّة.
لكنّ الرقاقة التي صمّمتها تمنح هذه الأقراص قدرة لم تحظَ بها يومًا. ركّزنا على تطوير الجانب المتعلّق بتمركز الأقراص - أي مدى سهولة عثور الأطباء على القرص في داخل الجسم أثناء هضمه. فكلّما ازدادت دقّة تحديد موقع القرص، ازدادت معها فرصة التوصّل إلى تشخيص أفضل. وتُعدّ التقنية الجديدة التي طوّرناها لتحديد موقع القرص الأقلّ استهلاكًا للطّاقة، والأكثر دقّة على الإطلاق. فباستخدام الرقاقة التي صمّمتها، يُمكننا تحديد موقع القرص في داخل الجسم بدقّة تبلغ 1 ملّيمتر. ينتج من ذلك ببساطة أدقّ قرص ذكيّ سبق أن صُمّم!
إنّ تصميم رقائق الدّوائر المتكاملة عمليّة معقّدة تستغرق وقتًا طويلاً، لكنّها عمليّة وقعتُ في حبّها؛ وهي تبدأ بتصميم على مستوى النّظام لكتلة الدّوائر التي تشكّل الرّقاقة، ثمّ نتابع بعمليّات محاكاة المخطّطات وخريطة الهيكلة، وما بعد خريطة الهيكلة والمحاكاة العامّة. بالنسبة إليّ، إنّ خريطة الهيكلة هي أكثر المراحل متعة في العمليّة، وأنا أعتبرها فنًّا بذاتها، يتطلّب كمًّا من الصبر والإبداع. وأخيرًا، تصبح الرّقاقة جاهزة للإرسال إلى المصنع للتصنيع.
لقد زوّدني هذا المشروع بخبرة عظيمة ومهارات واسعة في تصميم الكتل التناظريّة والمختلطة الإشارات والمحاكاة الكهرومغناطيسيّة وتصميم الدّوائر المطبوعة، إضافة إلى مهارات الاختبار والتحقّق. وتُعتبر كلّ منها مهارات عمليّة لا تنحصر أهميّتها بمستقبلنا فقط، بل يشتدّ الطلب عليها كذلك. وما يحفّزني هو مجرّد التفكير بأنّ لهذا القرص القدرة على تطوير الاختبار والتشخيص من نقطة الرعاية. بالنسبة إليّ، هنا تكمن القيمة الحقيقيّة للهندسة الكهربائيّة وهندسة الحاسوب: وهي القدرة على معالجة المشاكل التي تواجهها البشرية والتأثير فيها.
ولكن ليس البحث وحده ما يحفّزني. فبالنسبة إليّ، هناك الكثير على المحكّ.
في بلدي الأمّ، يكاد يغيب قطاع الدّوائر المتكاملة عن سوق العمل. هدفي أن أستخدم خبرتي الدراسيّة الاستثنائيّة لدعم الطلّاب اللّبنانيّين الشّباب ومساعدة بلدي. فالحياة في لبنان قد تكون مليئة بالتحديّات وبما هو غير متوقّع. وتعلّمت من كوني لبنانيّة أن أكون قويّة لأواجه أيّ تحدّ، ومرنة للتكيّف مع الصعاب. لكنّني لست بمفردي؛ فالشّباب اللّبنانيّ جميعه يتحلّى بهذه العقليّة. إنّه لا يحتاج سوى لبعض الدّعم وفرصة لإبراز ما لديه من قدرات.
لآرديم باتابوتيان، الأرمنيّ اللبنانيّ الحائز على جائزة نوبل للعام 2021 مقولة تستحضر مشاعري: "علّمني لبنان أن أكون صلبًا، وهذا ما ساعدني في أميركا، سواء في الحياة أو في العلوم".
لم أكن لأبلغ هذه المرحلة في مسيرتي المهنيّة من دون دعم مرشدي البروفيسور سيديريس. فعلى الرّغم من جدول أعماله الضيّق، إنّه حاضر دومًا لتحفيزنا. وإنّني ممتنّة فعلًا لثقته وتوجيهه. فلولا نصائحه وتعليماته الواضحة والثّاقبة، لما بلغ قرصي مرحلته الأخيرة. فلقد رعى بيئة صحيّة وآمنة في “ACME” تدعم عملي.
كان انضمامي إلى (USC) وفرع الهندسة الكهربائيّة وهندسة الحاسوب (ECE) أفضل قرار أقدمت عليه في حياتي. فإلى جانب نموّي على الصعيد الشّخصي، هناك رابط قويّ غير قابل للكسر يربط عائلة طراودة معًا. وإليكم نصيحتي لجميع الطلّاب: كونوا أمناء، أكاديميّين، حاذقين، شجعان وطموحين. ثابروا في الطريق الذي اخترتموه، وقودوا بشغفٍ وتفانٍ حتى تحقّقوا أهدافكم المنشودة. إنّني أتطلّع إلى المستقبل لتحقيق إنجازات كبيرة والمساهمة في المجتمع البحثي. السّماء حدودنا. فثابروا!
ميشيلّا بطرس رستم حائزة على منحة أننبرغ (Annenberg Fellow) وطالبة دكتوراه في السنة الثالثة في مختبر (ACME) للبروفيسور قسطنطين سيديريس. ويظهر كلاهما مع رقاقتها في الصورة أعلاه. قُبِل بحثها بعنوان“Wireless Frequency-Division Multiplexed 3D Magnetic Localization for Low Power Sub-mm Precision Capsule Endoscopy” في مؤتمر الدّوائر المتكاملة المخصّصة (CICC 2022) لجمعيّة مهندسي الكهرباء والإلكترونيّات (IEEE). وهي حائزة على المنحة (Cadence Women in Technology) الدّراسيّة للنّساء في التّكنولوجيا للعام 2021 التي تدعم النّساء اللّواتي يُعتَبرن رائدات مستقبليّات في مجال التّكنولوجيا، كما كانت مرشدة في برنامج (SHINE) في جامعة (USC Viterbi) لطلّاب المدارس الثّانويّة المهتمّين بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيّات.