السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

أيُّ إعلامٍ للسلام من دون إعلامٍ للقدس...؟!

القدس (ا ف ب)
القدس (ا ف ب)
A+ A-
د. جوروج كلاس
 
 
إن {إعلام السلام} بمبادئه ومنطلقاته وأهدافه هو بذاته إعلامُ تحدّيات ومبادرات رِهانية جريئة، لا يقوى على اتّخاذها غيرُ المنتصرِ في الحرب؛ بمعنى أنه إعلامٌ يثبِّته الأقوياء وصانعو النصر وأبطال الجهاد النضالي.
 
تتركَّز تحدّياتُ إرساءِ قَواعِدِ {إعلام النصرِ والسلام}، الذي هو في أساسيات استراتيجيات الإعلام السياسي الحديث، حول كيفيّة الانتقالِ من إعلامِ الحرب إلى إعلامِ الهُدْنَةِ، فإعلام النصرِ والسلام، بهدفِ الوصول إلى حالةٍ سلاميّة، يُشكِّل الإعلام أبرزَ أُسُسِها وأسلحتها الاستباقيّة، من حيثُ هي ضرورة مُجتمعيَّةٌ بين مُتنازعين وحالة إنسانية عامة، يُبنى عليها لاستشرافِ المراحل المستقبليّة وإرساء قواعد الأمن الميداني بعيداً عن الفُجائِيَّات ومحاولات الغدر والاستهداف غير المُتَوقَّعة.
إنَّ أبرز التحديات التي يواجهها إعلام السلام في مرحلة ما بعد النصر وتحرير الأرض واستعادة الحَق هي :
١ - تحصين الحالة السلامية، ببُعْدِها التصالحيّ المتوازي، مسؤوليةً وإسهاماً ميدانياً.
٢ -الجهوزية الاستعدادية الدائمة للتَصَّدي لأي مُحاولةٍ استفزازيَّة قد تَطرأ، اختراقاً لوضعيّةِ التوافق على شروط السلام بكلّ مندرجاتها.
٣- تمتين أصول التوافق بين المتفاوضين للانتقال من السلام المرحلي إلى حالة السلام الدائم تأسيساً على نتيجة النصر المُحَقَّق.
٤- الحرص على وضع استراتيجية صلبة لبناءاتِ إعلام السلام، مَنْعاً لأيِّ اهتزازاتٍ مُفَاجِئَة، وتصدّياً لمحاولات افتعالِ أحداثٍ على هامش الهدنة السلاميّة، لزعزعة الأمن الإعلاميّ والنيل من نتائج النصر .
٥- التحوُّلُ التدريجي من {إعلامِ النِزاعَات} وما يَسْتَتبعهُ من تبدُّلٍ مرحلِيٍّ في الأهداف الميدانية {لإعلامِ الأزَمات}، ارتقاءً للوصولِ إلى حَالات عقلانيةٍ للتعاطي الواعي مع فنيَّةِ الصورة وحِرفيَّةِ الكلمة ورصانة الرأي تحصيناً للسلم العام انطلاقاً من {إعلام السلامِ}.
 
حَفَّزتني حالة التضافر الفكريّ والثقافي والشعور بالاعتزاز في حالة صمود غزَّة وساحات القدس والمهد والأقصى لأن أُعطيَ تَقويماً خاصّاً للحالة الإعلامية، التي واكبَتْ مراحل الاعتداء ورافقَتْ ماجريَّاتِ المعركة ونتائجها وقدَّمَتها للناس بِحِرَفيَّةٍ إعلامية راقية ومسؤولة؛ وذلك بالارتكازِ إلى منظورٍ ثلاثيِّ الأبعاد، كَوَّنتُه من خلال خبرتي في مجال النقد الإعلامي وتفكيك النصِّ الخبري وتحليل الصورة الفيلمية ومضامينها :
أ-البُعدُ القومي، وتأثيراتِ النصر على المعنويات.
ب- البُعدُ الإيماني وما تعنيه فلسطينُ والقدسُ تحديداً للأديان السماوية.
ج-البُعدُ الإعلامي، وكيفية الانتقال من (المقاومة بالإعلام) إلى (إعلام النصر) تمهيداً لإرساء قواعد (إعلام السلام)، الذي يؤسّس لقواعد جديدة من النضال والحفاظ على الحق وتحصين النصر بثوابتَ إعلامية ذات استراتيجياتٍ صلبة وواضحة، تتطلّبها مرحلة ما بعدَ الصمود و تَقعيدِ أسس النصر المَرحَلِيِّ وتركيز دعائم الانتصار النهائي.
 
لقد تفاعلتُ شخصيّاً مع هذه المقاربة الإعلامية انطلاقاً من ركيزة مَفهومِيَّةٍ قاعدتُها أن فلسطين هي أرض الأديان الربَّانيَّة وعاصمة الإيمانيّات السماوية، وليسَ لأحدٍ أنْ يَدَّعي مُلكِيَّتَها وتوارثَها وتَوْريثَها أو احتكارِ بركاتها ومحاولة وَضعَ اليَدِ لا عليها ولا على مُستَقبلها.
 
اللَّافتُ في مشهديّاتِ الحرب الأخيرة على غزَّة أن ميدانياتِ القتال ومجالاتِ التقاصفِ التبادليّ، من خلال ما ظهَّرَتْهُ وسائل الإعلام، أرسَت قواعد جديدة في تاريخ الحروب العربية - الإسرائيلية، بمعنى أن التدامُرَ المُتزامِنَ بين لامُتَكافِئَيْنِ أثبتَ صحّة استراتيجية الاستبسال الإيماني والعناد الوطني بالدفاع عن الأرض والعِرْض، من منطوق (أن مَنْ يخسرُ أرضه يخسر إيمانَه ويكون غيرَ مُستحِقٍّ لا لهُوِيَّتِهِ ولا لتُراثه ولا أن يكون ابنَ إيمانه، وغيرَ مُؤَهَّلٍ لأن يكون من أبناء الغدِ و لا من أهل الحرِّيَّة!).
إن نجاح الإعلام بخَوضِ معركةِ الدفاعِ عن غزَّة (كنموذجٍ) في ما قدّمه من مواكباتٍ لحظويةً للوقائع وترويجاً اندفاعِيَّاً للنصر، أكَّدَ وبالقُدراتِ القليلة التي يمتلكها هذا الإعلام قناعَةً مُفادُها: (إِنَّما النصرُ لِلحَقِّ أبداً)، بعيداً عن الادعائيَّةِ والاعتدادِ بهذا الحَقِّ .
والدفاعُ عن الحقِّ كما الإنتصارُ بالحَقِّ ، ظهَرا جَلِيَّاً من خلال تركيز إعلام المرحلة على مستويين من الحَقِّ ، في المجال القتالي الميداني و على مدى الفضاء الإعلامي المفتوحِ على تحديَّاتٍ كَثرَتْ فيها التَشَّعباتُ و المُزايداتُ والتدخُلات :
أ- المستوى الأول من الحَقّ هو (الحق الفلسطيني)، كقضية محوريَّةٍ سياسيَّةٍ وقَوْمِيَّة، غير خاضعة للابتزاز ولا للتنازل ولا للإذعان.
ب- المستوى الثاني، هو (الحَقُ القُدْسِي) كقضيةٍ روحيَّةٍ إيمانيَّةٍ وإنسانيَّةٍ تعني كلَّ الكِتابيين وأبناءَ الديانات الإبراهيمية .
وهذان الحَقَّان هما انتصارانِ مُتكاملانِ، لا يقتلهما زَمَن،ٌ ولا تَغتالُهما لا مُؤتمراتٌ تقسيميّة، ولا تقوى عليهما مؤامراتٌ مَجْزَرِيَّةٌ ولا نِيَّاتٌ أوْ قراراتٌ إبادِيَّةٌ.
 
هذا النصر الجهادي، الذي نجح الإعلام بتظهيره باحترافيةٍ والتزامٍ بالقضية، هو فِعُلٌ تمجيدِيٌّ لانتصار إرادة الدَّم على صواريخ التدمير و سلاح الشرِّ، كَعَتبةٍ لاستكمالِ التحرير وحمايةِ {عِرضنا الروحيّ} واستعادة المقدَّسات المسيحية والإسلامية .
وهذهِ ركيزةٌ أساس في رسمِ استراتيجية تحرُّكٍ روحيّ إيماني وإنساني عام، يساعد على تظهير النصر الميدانيّ و حُسنِ استثمارهِ في وسائل الإعلام، بما يتوافق وظروف الانتصار ونتائجه واستشراف ما بعدَ الانتصار وضرورة متابعة ما بعدَ الصمود والنصر في المحافلِ والأندية الدولية، دفاعاً وشرحاً واستثماراً للإعلام في السلام.
 
إنَّ (مَقتَلَةَ فلسطين) هي عندما يصوِّرها بعضُ الإعلام على أنّها قضيّةُ بعضِ العرب أو بعضِ المسلمين، مع تجاهلٍ قَصدِيٍّ وتجهيلٍ عَمْدِيٍّ لعلاقةِ المسيحية بفلسطين ومعنى فلسطين ودلالاتها الروحية لهم، من حيثُ إنَّها (الأرضُ المُقدَّسة)، وِلادَةً ومَهْداً وبُشرًى وصَلْباً آياتٍ وقيامةً وصعوداً وعنصرةً دائمة، مع تسليمٍ نَوْمِيٍّ أوْ تَغفيلٍ جَهْلِيٍّ من بعْضِ المسيحيين، دُوَلاً ومرجعياتٍ وجماعات، باتوا يعتبرونَ أن أرضَ المسيحية أضحَتْ مَحَجاً سياحياً، يكتفون بزيارتها من دون أن تكون مُرتَكَزَاً إيمانياً أساسيّاً لهم .
 
والخوفُ كلُ الخوف من أَنْ يأتيَ يومٌ تَفْرغُ فيه أرضُ المسيح من المسيحيين؛ إِذَّاكَ لَنْ ندري ماذا سَيَحُلُّ بالمُقَدَّسات، ولا كيف يكون ارتباطُ كنائس العالم بأرضهم الإيمانية المسلوبة!؟ ولا بماذا سيشعر المسيحيون عندما تصبحُ كنائسُ القدسِ أشبَهَ {بِقنصلياتٍ تمثيليةٍ} لمذاهب مسيحية مُغَرَّبة ومُغْتَرِبَة ومهاجرة أوْ مُهجَّرَة من أرضها؟ وهذا ما لَنْ نرتضيهِ ولن نسمحَ به، قناعةً أننا أبناء الأرض وأهلها.
إن مِحوَر انشغالِ الوجدان المسيحي المشرقي وعُمْقِيَّاتِ تفكير الهَمِّ الإنساني العام، ومركزية تطلُّعاتنا اليوم، هو: كيف نُنتجُ موقفاً إعلامياً مركَّزاً، يعرفُ كيف يخاطبُ الغربَ المسيحي، دولاً وشعوباً وجماعات، من خلال تعريفهم بالمسألة الفلسطينية كَحَقٍّ قوميّ ووطنيّ وروحيّ، والعمل المستمرِّ لتحريضهم ودفعهم للتشارك والتفاعل مع القدس، والانتصار للحق والدفاع عن الحقوق الإنسانية والوطنية لأهل البلاد وأصحاب الإيمان وأهل الأرض وأبنائها .
 
إن السُبُلَ مُتاحَةٌ أكثرَ اليوم لتقعيدِ أُسُسِ (إعلامٍ النصر) وترسيخ بناءاتِ (إعلام السلام)، الذي ينطلق من مُقترَحٍ طوباويٍّ، هو أن تكون القُدسُ (مدينة الله) وعاصمة الأديان الربِّيَّة .
و لَيسَ هَمُّنا أن نسأل فقط (كيف عليْنا أن نستعيدَ القدس؟) بل أن نعمل ونسأل (كيف نُعيدُ الله إلى القدس؟!).
 
وهذا محورُ انشغالاتِ (إعلام السلامِ) الذي يتطلَّعُ إلى قابلِ الأيامِ وانتظاراتها من منظورٍ يحملُ رَجاءاتٍ كثيرةً، ويتذكَّرُ دَوْماً عَتيقَ الأيَّامِ بانكساراتها وخَيْبَاتها ونضالاتها وانتِظاراتها ونجاحاتها وانتصاراتها، بما يُحَفِّزُ على بِناءِ (رؤيةٍ) مستقبلية نتَطلَّعُ معاً إلى تَحقيقِ بُنُودِها، وأن نحلمَ بِـ (رؤيا) افتراضية نَسْتَشْرِفُ معها المُستَقبَلَ، مُتحَضِّرينَ لِكلِّ مُفاجاءاته بالأَسوَدِ والأبيض..!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم