الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حرب الكرات الملوّنة

المصدر: النهار - عبد الرازق أحمد الشاعر
حين تجد نفسك فجأة في خندق غريب مع أناس لا تعرفهم، لتدافع عن أرض ليست لك، تحت راية لا تُشبه رايتك
حين تجد نفسك فجأة في خندق غريب مع أناس لا تعرفهم، لتدافع عن أرض ليست لك، تحت راية لا تُشبه رايتك
A+ A-
حين تجد نفسك فجأة في خندق غريب مع أناس لا تعرفهم، لتدافع عن أرض ليست لك، تحت راية لا تُشبه رايتك؛ وحين يقف الجند لترديد أناشيد وطنيّة لا تعرف لغتها، فاعلم أنك قد صرت طرفاً من دون أن تدري في حرب عالمية أخيرة، لن تُبقي ولن تذر. وإن حدث ما لا يُحمد تخيّله، أنصحك بألا تبالغ – أيّها العربي البائس - في القصف، فكلا الطرفين عدو، وإن اختلف لون البشرة واتّساع العينين، وألا تفرج بين إصبعيك، إن أصبت أسفل منتصف الهدف، لأن الغنائم في النهاية لن تكون لك حتى، وإن كان النصر حليفك. أما الذين يستبعدون سيناريو دخولنا الحرب بالوكالة ويستخفّون به، ويعتبرونه نوعاً من الفانتازيا، فأدعوهم إلى التريّث طويلاً حتى تضع الحرب أوزارها – إن كانت حقاً ستضع.
ذات يوم، قرأت في أحد الكتب نظريّة أثارت إعجابي، ولا أعرف إن كانت من بنات أفكار الكاتب أم أنه اقتبسها؛ ولذلك لن أورد اسمه هنا، وسأكتفي بالإشارة إلى هذه النظرية باختصار. يشبِّه الرجل الناس بمجموعة من الكرات الملوّنة فوق طاولة البلياردو. تلك الكرات التي لا تملك لنفسها دفعاً ولا صرفاً، ولا يمكنها أن تتحرّك إلا إذا ارتطمت بها الكرة البيضاء، التي تستهدفها دوماً عصا اللاعب الطويلة. فإذا ارتطمت الكرة البيضاء بالكرات المتراصّة، تناثرت فوق الطاولة في كلّ حدب، حسب قوة الضربة وزاوية الاحتكاك بينها وبين الكرات المجاورة. أي أنّ الكرات الملوّنة تكتسب قوّة دافعة، تحرّكها نحو الكرات الأخرى، فتؤثر وتتأثر بالصدمات والاحتكاك في ما بينها وبين قماش الطاولة. ولأن قوى الدفع الواقعة تختلف من كرة إلى أخرى، ستجد بعض الكرات قد انحدرت إلى داخل إحدى الحفر، أو وقفت على شفيرها، أو توارت إلى جوار رفيقاتها حتى تعود إلى السكون التامّ.
ثمّ يدعونا الكاتب المبدع إلى تخيّل أن تلك الكرات لها قوى ذاتية وإرادات مستقلّة، تمكنها من مقاومة الصدمات واختيار مواقعها فوق الطاولة. حينها، لن يكون بإمكاننا التنبؤ بما يُمكن أن تسفر عنه أيّ ضربة، من هنا أو هناك، لأن قوى المقاومة ستحدّد حتماً مصير كلّ كرة، ومصير ما حولها من كرات، حتى أننا لن نتمكّن من التكهّن بنتيجة المعركة بين هذه الكرات ذاتيّة الدفع، أو أين سينتهي المطاف بكلّ واحدة منها. كلّ ما سيتعيّن علينا فعله هو الإمساك بالعصا وتوجيهها بزاوية معيّنة بعد رصّ الكرات، ثمّ التحكم في قوة الضربة، وهو بالضبط ما فعله بوتين.
ولأن بوتين يُجيد لعبة الشطرنج، فقد استطاع أن يختار التوقيت المناسب للتحرّك نحو الطاولة، ولأنّه يملك قلباً من فولاذ، استطاع أن يتّخذ قرار الضربة الموجعة. قام بوتين برصّ الأهداف، وطرق الكرة البيضاء بكلّ ما أوتي من عنف تعلّمه من لعبة الكونغ فو. ولأنه رجل شديد التهوّر، استطاع أن يلوّح باستخدام أسلحة الدمار الشامل لتهديد كل اللاعبين الملتفّين حول طاولة البلياردو في انتظار أيّ هفوة يرتكبها الدّب العجوز.
لكن بوتين لم يعلم أنّ الألعاب لا تتشابه، وأن مراقبة تحرّكات الخصم قد تمكّنه من الفوز فوق قطعة الشطرنج، لكنّها لن تحسم بالضرورة انتصاره فوق طاولة البلياردو، لأن لكل لعبة فنونها، ولأن أهل أوكرانيا أدرى بشعابها من الروس والبيلاروس ومن والاهم من الصينيّين والكوريّين.
استطاع بوتين أن يكون صاحب الضربة الأولى، وأن يتحدّى قوى الشر، التي هو جزء منها، وبدأت الكرات فوق الطاولة في الانتشار السريع وإعادة التموضع فوق الخريطة. لكن تلك الكرات التي يملك بعضها القدرة على الهيمنة على كراتنا الهشّة المنبعجة، وتلك الكرات التي يمكنها أن تدهس مصائرنا من دون شفقة لن تفوّت فرصة تجييش ما تستطيع من جيوش في منطقتنا المغلوبة على ضعفها، ولن تترك لنا رفاهية الوقوف فوق طاولة الحرب الملتهبة، ونحن ننعم بالأمان.
تزداد الأمور تعقيداً كلّ يوم، ويزداد العالم ضيقاً ورعباً بالدبابات والصواريخ والطائرات المتدفّقة على رومانيا من كلّ حدب. ويزداد قلقنا على مصير هذا الكوكب كلّ صباح، بعدما انتقلت دفّة العالم الحائرة إلى أيدي حفنة من القساة والمعتوهين، الذين يستطيعون اتّخاذ قرار إفناء هذا العالم بضغطة زر غبيّة في أيّ وقت.
ما طرحته هنا ليس من الفانتازيا في شيء.
الفانتازيا أن تشاهد الحرب التي تقف في أتونها بإحدى قدميك، وأنت تغمض عن لهيبها عينيك، وكأنّك تشاهد فيلماً من أفلام الخيال غير العلميّ.
الفانتازيا أن تدّعي أنّك محايد، وأنت لا تملك رفاهية اتخاذ قرار الحياد في حرب قد تنتقل إلى حدودك بين تصريح وآخر.
الفانتازيا ألا تكون مستعداً لاختيار موقعك فوق طاولة قابلة للاشتعال عند أيّ صافرة.
والفانتازيا أن تكون فوق طاولة الحرب، وأنت تعتقد أنك في منأى من الاصطدام بأيّ كرة ملوّنة قد تقرّر أن تغيّر مسارها فجأة لتصطدم بك.




الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم