السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

حالة السودان… يأس أم أمل؟

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
دبابة في السودان (أ ف ب).
دبابة في السودان (أ ف ب).
A+ A-
تمرّ كلّ حالة مرضيّة، بمراحل، يتفاوت فيها تقدير الشفاء بين أمل ويأس. فمرض السرطان يمرّ بأربع مراحل، الأولى والثانية منها قابلتان للعلاج بنسبة جيّدة. والثالثة، شبه مستحيلة. أمّا الرابعة فترفضها المستشفيات ويتحاشاها الأطبّاء،  لأنّ الأمل في الشفاء يكاد يكون صفراً، وتكلفة العلاج خرافيّة، وعذاب المريض من الجلسات الكيميائيّة والعمليات الجراحيّة المتلاحقة لمطاردة انتشار المرض في الأعضاء لا يطاق.
 
وعليه، يوصى في هذه المرحلة باستخدام العلاج التلطيفيّ، وهو عبارة عن مسكّنات ومهدّئات ومعالجة الآثار الجانبيّة الموجعة، وأن يتمّ ذلك في المنزل حتى يقضي المريض آخر أيّامه بين أسرته وأحبابه.
 
سودان الانقلاب الأبيض
وحالة السودان في العقود الماضية كانت تتأرجح بين المرحلتين الأولى والثانية من مرض مستعصٍ، مزمن. فخلال سبعة عقود، أي منذ الاستقلال عام 1955، وجلاء آخر بريطانيّ، والصراع على العرش بين الأحزاب والعسكر يحول دون تفرّغ الحكومات والبرلمانات لواجبها الأساسيّ في تنمية الوطن وخدمة الأمّة. وهكذا هبط البلد الذي يُعدّ ثالث أكبر الدول الأفريقية والعربية مساحة، ومن أعظمها موارد زراعية ونهرية ومعدنية، والمحظوظ بنخبة متعلّمة، مثقّفة، وخبرات مهنية متقدّمة، من أعلى القائمة الأفريقية الى أدناها نموّاً واستقراراً وديمقراطية.
 
إلّا أنّ الملاحظ في كلّ هذه المراحل أنّ الانقلابات كانت بيضاء، والصراعات كانت بلا دماء. فالشعب السودانيّ يتميّز بحضارته وإنسانيّته وتصوّفه، ومهما كانت الخلافات السياسية والشخصية لم تكن لتنتهيَ بأكثر من الحبس أو النفي. وهكذا كان حسن الترابي مؤسّس الحركة الإسلامية ووزير العدل والخارجية ورئيس البرلمان في السجن، مطلع الألفية الثانية، عندما كان صهره الصادق المهديّ، على رأس حزب الأمّة القوميّ، وكان تلميذه وحليفه عمر البشير، على رأس السلطة، وكان يستقبل الزوّار بانتظام، من سجنه، ويتلقّى الطعام الذي تبعث به أخته ويحمله صهره.
 
إرادة الأمّة
كلّ هذا تغيّر في الحالة الأخيرة، والتي بلغ فيها المرض المزمن المرحلة الثالثة. فالبشير واجه الشعب بالحديد والنار. والجيش والميليشيا الذين أعاناه انقلبا عليه وعلى الشعب الذي يدعون تمثيله وتحقيق رغباته في الحرية والديمقراطية وسلطة القانون. وحالات التسلّط والتخلّف والفساد التي أنقلب عليها هذا وذاك، تبعتهم الى العروش التي استولوا عليها، وأبوا أن يفارقوها. والجديد في هذا كلّه مستوى العنف الذي تعاملوا من خلاله مع الخصوم، وضحايا الصراع من الأبرياء مواطنين وغرباء.
 
ورغم ذلك، فلست مع المتشائمين بوصول الحالة السودانية الى المرحلة الرابعة، التي لا شفاء منها. فالشعوب تستيقظ وتثور وتتعلّم من أخطائها. والذين راهنوا على ضعف المواطن الأعزل نسوا أنّ الأمّة أعظم من فئة أو قبيلة، وأقوى من حاكم وجلّاد، وأقدر على مواجهة القوّة الغاشمة إذا حُشرت في الزاوية، واستبدّ بها اليأس، ولم يعد لديها ما تخسره.
 
ميزان القوّة
كما أنّ الصراع ليس بين متكافئين. فالجيش السودانيّ يمثّل الدولة والشعب، وقوّات الدعم السريع تمثّل عشيرة متمرّدة، من قبيلة تتوزّع بين ِأكثر من بلد. وتقودها عصابة من قطّاع الطرق تلوّثت أياديهم بدماء قبائل دارفور الأفريقية في جرائم تطهير عرقيّ، مرتكبوها مطلوبون في محكمة الجنايات الدولية، كما طلب مجلس الأمن حكومة البشير في 2004 "نزع أسلحة مليشيا الجنجويد وضرورة تعقّب الضالعين في القتل والنهب والاغتصاب."
 
وانشغال المليشيا في شوارع الخرطوم كشف ظهرها في موطنها الأصليّ أمام القبائل الأفريقية المنافسة. وحصرها داخل الأحياء، بعد أن ضرب الطيران قواعدهم المكشوفة خارجها. وانقطاع الاتصالات بين أعضائها، وعدم وجود غرفة عمليات مركزية تدير المعارك، وضعف الكفاءة التنظيمية، واعتمادها على الزعامة الشخصية، أدّت الى تفكّك أجزائها ولجوء أفرادها الى النهب والسلب والاعتداء على الأسر والبيوت. وأفقدها بالتالي أيّ تعاطف شعبيّ، ووحّد الموقف المجتمعيّ ضدّها.
 
"يمننة" السودان
والصراع ليس حرباً أهلية مدعومة من قوى دولية كتلك التي تلتهم ليبيا، بل هي أقرب إلى حالة اليمن التي تواجه فيه الحكومة والشعب ومعهما الإقليم والمجتمع الدوليّ تمرّداً مدعوماً من الخارج، انقلب على السلطة بعد أن كان جزءاً منها، ويمثّل فئة مناطقية وعرقية ومذهبية محدودة في تعدادها ومكانتها وقدراتها، تعاني من عقد التهميش والإقصاء والنقص. وعليه، فإنّ الطريق الوحيد الى الشرعية هو مسار السلام، وللسلطة صناديق الاقتراع، وللثراء الوسائل القانونية.
 
ولأنّ البلد المعنيّ هو السودان الذي يحاذي تسع دول أفريقية وعربية ( مصر، وتشاد، وكينيا، وإثيوبيا، وليبيا، وأوغندا، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وإرتريا، وجمهورية الكونغو الديمقراطي)،
 
وعلى البحر الأحمر سبع دول (السعودية ومصر والأردن وإسرائيل شمالاً، واليمن وإرتريا وجيبوتي جنوباً). ولأنّه يقع في منطقة تشتعل فيها نيران الصراعات والإرهاب، وتنشط فيها عصابات التهريب والسطو، فإنّ ضعف الدولة المركزية والجيش يفتح حدودها ويحوّل أراضيها ممرّات للمجرمين من كلّ صوب.
 
تدويل الصراع
أمّا دخول روسيا على الخطّ، من خلال مشاركة مرتزقة "فاغنر" في الصراع الدائر، واحتمال تدخّل أثيوبيا، فمدعاة لتدخّل الغرب، وخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل. ولن تقف الصين وهي أكبر المستثمرين في السودان، والدول الخليجية والعربية، وخاصّة السعودية ومصر، والأفارقة، موقف المتفرّج على تفكّك البلاد أو تقسيمها، وتدمير فرص النموّ والاستثمار والاستقرار فيها.
 
ولأنّ الفريقين المتصارعين في حاجة الى الشرعية الدولية للوصول الى السلطة وحماية الأصول المالية والمصالح الشخصية، فإنّهما سيعملان ما بوسعهما لتفادي العقوبات الدولية التي ستطبّق حتماً على الطرف المتمرّد على الإرادة الدولية والمجتمع الأمميّ.
 
بصيص الأمل
لهذا الأسباب وغيرها أرى بأنّ ما يجري اليوم رغم مؤشّراته المخيفة، من نزوح اللاجئين، وخروج الجاليات والبعثات الدبلوماسية، وهو الأمر الذي لم يحدث على هذا النحو من قبل، مخاض عسير، لولادة قادمة، لا أرى في مساحتها مكاناً لقطّاع الطرق، والصراعات المسلحة. فما يحدث لا يتّفق مع تاريخ السودان وطبائع أهله، ولا يوافق مصالح القوى المعنية، بما في ذلك الأحزاب والحراك الشعبيّ والقوّات المسلحة.
 
وفي تصوّري، أنّ الأزمة لن تطول، فبضعة أسابيع، أو ربما شهور، قد تدمّر وتقتل وتحرق، إلّا أنّها في نهاية اليوم العصيب مجرّد إعصار، لا بدّ له أن يتوقّف عند حدّ. وتكاتف المجتمع السوداني والأممي على إنهاء الأزمة، وعودة سلطان الدولة والقانون، ومعاقبة المفسدين في الأرض، سيضمن استئصال السرطان الناشئ، وعودة الحال الى ما كان عليه قبل الأزمة الأخيرة: تنافس سياسيّ على السلطة، بوساطة وإشراف دوليّين، بلا حديد ونار.
 
* أستاذ في جامعة الفيصل
 
@KBATARFI
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم