الأربعاء - 15 أيار 2024

إعلان

تأملات في جريمة أنصار

في عزاء الضحايا. (أرشيف "النهار").
في عزاء الضحايا. (أرشيف "النهار").
A+ A-
غسان صليبي

راسكولينكوف، بطل رواية "الجريمة والعقاب" الشهيرة لدوستويفسكي- وهو الشاب والطالب الجامعي السابق، القابع في العوز- وتحت تأثير وضعه وصراعه الداخلي المتقلب، عمد إلى قتل جارته المرابية العجوز إيفانوفنا وسرقة أموالها بهدف التحرر من الفقر الذي يكبله وأسرته، مضيفا الى فعلته هدفا ساميا هو نيته عمل الخير من خلال مساعدة الآخرين بالاموال المسروقة. لكنه بمجرد ارتكابه الجريمة، يدخل في صراع ومعاناة نفسية تفكك مبرراته الأولية تباعا وتُدخله في متاهات عقلية وجسدية يحاول من خلالها المؤلف ربط الظروف الإجتماعية التي قد تدفع الشخص لارتكاب الجرائم بالحسابات المعقدة التي تعتمل داخل النفس البشرية.
لم يستكن راسكولينكوف الا بعدما سلّم نفسه واعترف بجريمته.

لم يستطع دوستويفسكي، الأديب الروسي العبقري، رغم براعته الأدبية والسيكولوجية، أن يقنع الكثيرين من البشر، والشعب الروسي وشعوبنا العربية في طليعتهم اليوم، أن القتل جريمة ولو تزيّن بأهداف سامية. على العكس من ذلك، بدل أن يكون القتل جريمة تستحق العقاب، أصبح عقابا مُستَحَقّاً للقتيل. إذ كيف يمكن أن نفسر كل هذه التبريرات للغزو الروسي لأوكرانيا؟ ألا يكمن في خلفيتها، أن أوكرانيا تستحق العقاب بعدما توخّت الالتحاق بالناتو، وما قتلُ الاوكرانيين وتدمير بلادهم الا هذا العقاب على خطأ جسيم ارتكبوه بأنفسهم؟

عندما تُغتصب امرأة أو تُقتَل أو تُضرَب، يتساءل كثيرون ببديهية مرعبة، عن "الخطأ" الذي ارتكبته، في لباسها أو سلوكها أو معتقداتها. يركّز النقد الاجتماعي لهذه الظاهرة على كون المجتمع الذكوري يضع دائما "الحق على المرأة" ويبرر أفعال الرجل ضدها. اي ان النقد يطال التمييز ضد المرأة وما يستتبعه ذلك من تبرير للعنف الذي يطال النساء بشكل عام.
اريد ان أتجاوز هذا النقد الجندري، الذي أوافق عليه، إلى نقد من نوع آخر، يمس نظرة قسم كبير من البشرية إلى القتل، ومن بينهم نحن مواطني البلدان العربية.

نحن شعوب تُعرَف بانتشار التدين في اوساطها. أكثريتنا مسلمون، وقليل منا مسيحيون، والقليل القليل منا يهود، إلى جانب بعض المواطنين الذين يعتنقون ديانات أخرى. الأديان السماوية الثلاثة موافقة على الوصايا العشر ومن بينها "لا تقتل"، لكن الأديان الثلاثة بررت القتل واستخدمته تنفيذا لمشيئة الله. فمارست القتل على انه "عقاب" يستحقه القتيل لارتكابه "خطيئة" بحسب تعاليم الله.

العقائد السياسية مارست القتل وبرّرته أيضا، لكن ليس تنفيذا لمشيئة الله، بل باسم مبادئ وقيم عليا اعتنقتها، فقتلت بعض الناس من أجل تطبيقها. فهؤلاء القتلى يستحقون ما أصابهم، لأنهم إما يرفضون هذه المبادئ العليا، وإما يقفون في وجه تطبيقها.

راودتني هذه الأفكار حول النظرة إلى القتل، لا كجريمة ارتكبها قاتل بل كعقاب يستحقه القتيل، إثر مقتل امرأة مطلّقة وبناتها الثلاث من بلدة انصار. فقد سرت بعض الشائعات حول أسباب الجريمة، ملمِّحةً ولو بخجل فرضه هول الجريمة، الى "تورط" ما للنساء الأربع أدى إلى قتلهن. ورغم أن اهالي البلدة جميعهم استنكروا الجريمة وشيّعوا القتلى وفي مقدمهم الزوج السابق للام القتيلة ووالد البنات الثلاث، مطالبين بإعدام القاتل، إلا أن سلوك القضاء وتصريحات بعض رجال الدين يستدعي التأمل، لخطورته.

لوحظ تلكؤ القضاء في متابعة قضية اختفاء النساء الأربع وعدم توقفه عند بعض المؤشرات التي تثير الشكوك بالقاتل رغم مثوله أمام القاضية المعنية، التي على ما يبدو لم تعر الاهتمام اللازم للمعطيات التي توفرت، بل أطلقت سراح المتهم إلى حين تدخل مخابرات الجيش بطلب من الزوج والأهالي.

أميل إلى الاعتقاد أن ليس وراء تلكؤ القضاء أسبابا سياسية أو تدخلات، بل شيئا من الاستهتار بمقتل النساء. ولأن القاضي المعني امرأة، يذهب ظني إلى أن القاضية، التي كان من المفترض ان تنتفض مبدئيا لنصرة النساء، كانت هي أيضا تحت تأثير اعتقاد عام مفاده أن أسباب الاختفاء لا بد أن تكون "عائلية" أو "تورطا" نسائيا ما، وهذه أمور "تعلو" على الاعتبارات القضائية الصرف، ويعجز القضاء عن مواجهتها بقوانينه المدنية، ويحاول الا يتورط فيها. وخصوصا إذا كان القاضي أو القاضية من مذهب مختلف عن مذهب البيئة التي حل فيها الإختفاء، كما هي الحال في القضية التي تشغلنا.

مواقف بعض رجال الدين اوضح في هذا الاتجاه. اخترتُ من بينها موقفا عبّر عنه أحد رجال الدين مباشرة بعد العثور على الجثث وبروز اسم المتهم. لا يمثل هذا الموقف بالطبع مواقف رجال الدين اجمعين، لكنه بالتأكيد يعكس واحدا من المواقف السائدة. وتكمن أهميته أيضا في أن صاحبه هو اختصاصي في الإرشاد الأسري وله فيديوهات عدة في هذا الخصوص.

كتب الشيخ مباشرة بعد العثور على جثث الام وبناتها الثلاث: "في بلدة انصار جريمة مروعة ذهبت ضحيتها الام وبناتها الثلاث رحمة الله عليهن ولعن الله القاتل وأنزل الله عليه عذابه في الدنيا والآخرة... ورأيي ان أحد أسباب هذه الجريمة هو التفكك الأسري وفقدان الحنان والعطف والابتعاد عن الدين والضوابط الشرعية... عودوا الى ديننا وأخلاقنا وأعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا، وانبذوا ما يسمى بالتحرر والانفتاح وعادات وتقاليد الغرب التي هي سبب لمثل هذه الجرائم... وحاولوا الحفاظ على الأسرة فهي مصدر الامان لهذا المجتمع".

فلنتمعن قليلا في ما قاله الشيخ، الذي تعوّد إرشاد الآخرين وبالتالي التأني في اختيار كلماته وصياغة أفكاره.

الشيخ يعوّل على الله لرحمة القتلى ومعاقبة القاتل في الدنيا والآخرة. لافتٌ انه لا يدعو القضاء إلى تحمل مسؤوليته في التحري وإنزال العقاب.

الشيخ يسمّي ما حصل بـ"الجريمة المروعة" وليس بالعقاب للقتلى. يظن المرء للحظة أن موقفه حاسم بشأن إدانة القتل.

لكنه سرعان ما يخيّب ظنك عندما يتكلم عن أسباب الجريمة، فيقول إن أحد الأسباب في رأيه هو "التفكك الأسري وفقدان العطف والحنان، الخ.". تعتقد أنه يقصد القاتل عندما يتكلم عن فقدان العطف والحنان والتفكك الاسري، فهذه عوامل تغذي اللجوء إلى العنف عند الذين يختبرونها، بحسب الأبحاث الاجتماعية والنفسية. لكنه يقصد دون أدنى شك القتلى، فهو يعرف انهن يعشن في عائلة "مفككة" بفعل طلاق الزوج والزوجة، وربما يمارسن بعض تقاليد الغرب "التي هي سبب لمثل هذه الجرائم". هكذا يفاجأ القارئ أن الشيخ، الذي كان قد أدان القتل، إنما يعتبره ضمنيا كعقاب للذين يعيشون "التفكك الاسري" ويتبعون تقاليد الغرب.

ستتوضح قريبا ملابسات الجريمة ودوافعها، لكني أشك في أن تتمكن هذه الوقائع من تغيير موقف الذين يعتبرون القتل عقابا للقتيل على أفكاره أو سلوكه. فالقضاء عاجز في ظروفنا، عن منافسة عقيدة "القضاء والقدر". وقد حرص رجل الدين المذكور اعلاه، على اصدار حكمه قبل اتساع التحقيقات وصدور الحكم القضائي، وذلك لحسم الامر مسبقا لصالح معتقداته.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم