السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

من قَتلَ ركاب الزورق قبالة طرابلس؟

المصدر: النهار
مشهد من تشييع طفلة ووالدتها من ضحايا "زورق الموت" في التبانة (حسام شبارو).
مشهد من تشييع طفلة ووالدتها من ضحايا "زورق الموت" في التبانة (حسام شبارو).
A+ A-
غسان صليبي

كان بوّد المسؤولين الإجابة تلقائيًّا عن السؤال الذي يطرحه العنوان، بأن "الحق عالطليان"، فالزورق كان متوجّهًا الى إيطاليا، حاملاً على متنه لبنانيين وسوريين وفلسطينيين هاربين من العيش في لبنان. لكن المسؤولين يفضّلون "انتظار التحقيق"، كما يردّدون منذ انفجار المرفأ، رغم أنهم يتمنون أن يكونوا بجرأة حسن نصر الله، ويسمّون غرق المركب بالحادثة كما فعل هو في شأن انفجار المرفأ.
 
اتّهم بعض الناجين زورقًا للجيش بالتسبب بغرق المركب، نتيجة اصطدامه به وهو يحاول منعهم من إكمال الرحلة، فيما نفى الجيش هذا الأمر مؤكّدًا أن قبطان المركب "اتخذ قرارًا بتنفيذ مناورات للهروب من خفر السواحل، مما أدّى الى ارتطامه بالخافرة"، مضيفًاً أن "الحمل المسموح للمركب هو عشرة أشخاص فقط، والغرق كان محتّمًا ولا مهرب منه" لأن عدد الذين كانوا على متنه هو أكثر من 70 شخصًا.
 
بالإستناد الى أقوال الكثير من الناجين، على الارجح ان الجيش يتحمل بعضا من المسؤوليّة عن غرق المركب، لكن ما يجب معرفته هو ان الجيش كان يقوم بواجبه بمنع الزوارق غير الشرعيّة من عبور المياه الإقليميّة، وهو بذلك يطبّق قانونًا تفرضه جميع الدول. وإذا كان هناك من يتحمّل المسؤوليّة الكبرى عن غرق الناس، فهي القوانين التي تنظّم العلاقات بين الدول وتعرّض العمالة المهاجرة الفقيرة للخطر.
 
الرؤساء الثلاثة طالبوا بفتح تحقيق بما جرى. بري وميقاتي أشارا الى مسؤولية "عصابات تستغلّ الأوضاع الإجتماعيّة" ويقع ضحيتها اللبنانيون "على أيدي المجرمين من تجّار الأزمات". لكن بري طالب "بمقاربة حقيقيّة تضع حدًّا لحرمان هذه المنطقة العزيزة من لبنان".
 
يتحمّل المهرّبون بالتأكيد جزءًا من المسؤوليّة أيضًا بسبب مخالفتهم القانون كما بسبب إهمالهم شروط السلامة ومخاطرتهم بنقل عدد أكبر من الركاب طمعًا بالمال. لكن ما يجب عدم إغفاله هو ان المهربين لا يهرّبون سلعًا أو موادّ غير شرعيّة، بل بشرًا صعدوا الى المركب بملء إرادتهم ورغم جميع الأخطار والتكاليف الباهظة. حتى أن صاحب المركب نفسه اصطحب معه عائلته.
 
ميقاتي اعترف "بالأوضاع الإجتماعيّة" وبرّي "بالحرمان في المنطقة" كسببين مواكبين لما حدث، لكنهما ركّزا على مسؤوليّة المهرّبين في الدرجة الأولى. ميقاتي لم يستخدم كلمة "فقر" لوصف الأوضاع الإجتماعيّة، وبرّي فضّل استخدام كلمة "حرمان" كرئيس لــ"حركة المحرومين"، وكأننا لا نزال في مرحلة حرمان مناطق أو طوائف ولم يصبح لبنان كلّه، باقتصاده وشعبه، فقيرًا.
 
لم يعد الفقر في لبنان "ظاهرة" تتطلّب المعالجة، أكان ذلك من خلال خطّة 2030 للأمم المتّحدة أو من طريق "التنمية المستدامة" ومشاريع البنك الدولي "للقضاء على الفقر". فبحسب تعريفات الفقر المختلفة، يشكّل فقراء لبنان بين 60 و 80 بالمئة من الشعب اللبناني. هذه لم تعد ظاهرة اجتماعيّة بل حالة وطنيّة شاملة تتطلّب إنقاذًا وطنيًّا.
 
لطالما كان فقراء طرابلس الأكثر فقرًا من بين فقراء لبنان، ولطالما قيل ان طرابلس هي المدينة الأكثر فقرًا على المتوسط، لكن ظاهرة مراكب الموت لم تتوسع إلاّ في الفترة الأخيرة أي عندما أصبح شعب لبنان فقيرًا في معظمه. كم تنطبق مقولة "العدّو وراءنا والبحر أمامنا" على راكبي الزورق غير الشرعي الهاربين من بلادهم. فالعدّو هو بلادهم التي احتلّها الفقر وتحكمها مجموعة من القتلة والسارقين.
 
إنما ليس الفقر وحده هو ما دفع الناس الى المخاطرة بحياتهم من أجل الهرب من البلاد. انه أيضًا وأساسًا انقطاع الأمل. حتى إن أحد الناجين أكّد انه لم يصبح فقيرًا بعد لكنّه يريد ان يؤمّن مستقبلاً لأولاده الذين كانوا لا يزالون مفقودين مع زوجته عند إدلائه بتصريحه. كما أن معلومات أفادت أن الركاب ليسوا جميعهم فقراء.
 
انقطاع الأمل، يعني أولاً عدم الثقة بالمسؤولين. قال أحد الناجين انه "لم يعد يستطيع العيش معهم" وقال آخر "لم نعد نستطيع ان نرى وجوههم". إحدى الناجيات، كانت لا تزال تنتظر العثور على ابنتيها المفقودتين، أكّدت أنها ستعاود الكرّة في أول فرصة وستحاول الهرب. لم يبدُ عليها التعب ولا القلق على ابنتيها. كانت فقط غاضبة على الجيش الذي منعها من الهرب. الهرب هاجسها ولا شيء آخر.
 
الذي لا يشعر أنه يغرق بالوحل وهو يعيش على أرض لبنان دون أمل بالإنقاذ، لا يستطيع أن يفهم هؤلاء الذين يركبون البحر ويخاطرون بحياتهم، لكن مع بارقة أمل بالوصول الى بلد يُحترم فيه الإنسان ويُرتسم فيه مستقبل. لعل الذين قضوا غرقًا كانوا يغنّون وهم على متن القارب: "قوّي قلبك وهجوم، يا بتوصل على الموت، يا بتوصل عالحرية". للأسف الموت كان أقرب من الحريّة، ومن يدري ربما كان الموت بالنسبة لهم تحرّرًا من الذل اليومي.
 
وأنا أختم مقالي علمت انه في اليوم التالي من الفاجعة:
 
- انطلق مركب غير شرعي آخر اسمه "إيمان" من أحد المرافئ غير طرابلس متوجّهًا الى قبرص ووصل بسلام.
 
- انطلقت صواريخ غير شرعيّة من جنوب لبنان في اتجاه إسرائيل ولم يعترض أي مسؤول على ذلك.
 
- اطلق أحد الوزراء العنان لـ"قابليته" للأكل والشرب ليلاً في أحد مطاعم بيروت، ولم يجد أي حرج في ذلك، كمسؤول في حكومة "معًا للإنقاذ"، من المفترض انها كانت تشرف على عمليّة "إنقاذ" ركّاب الزورق الذي غرق في طرابلس.
 
هل من فائدة عملية بعد للتساؤل مَن قتل ركاب الزورق قبالة طرابلس؟
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم