السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

موازنة معاً للضرائب والرسوم وتكريس ضياع الودائع

الدولار والليرة اللبنانية (نبيل اسماعيل).
الدولار والليرة اللبنانية (نبيل اسماعيل).
A+ A-
الدكتور أيمن عمر

من المفترض أن تأتي موازنات الدول عادة لتعبّر عن طموحات الشعوب الاقتصادية والاجتماعية وحلّاً لمشاكلها وأزماتها. وما جاء به مشروع موازنة العام 2022 على العكس تماماً، فهي بموادها وبنودها ستعمق أكثر وأكثر من معاناة الشعب اللبناني لما تتضمنه من ضرائب ورسوم مرهقة على كاهله. وما زالت نفس العقلية المالية والاقتصادية تتحكم بأهم عمل دستوري ومالي يشكل الركيزة الأولى للدول والمؤسسات. وقد خلا مشروع الموازنة من أي رؤية إصلاحية أو بنود إنقاذية تتناسب مع الانهيار الحاصل، ولم يأتِ مشروع الموازنة على قدر هموم اللبنانيين وأزماتهم في ظل هذه الأزمات المأساوية التي قلّ نظيرها في التاريخ البشري. تضمّن مشروع الموازنة الإيرادات المتوقعة 39.154 ألف مليار والنفقات المتوقعة 49,416 ألف مليار مع عجز 10,262 آلاف مليار بنسبة 20.77%. هذا مع العلم أن الموازنة لم تلحظ قيمة الناتج المحلي المتوقع للعام 2022 لصعوبة تقديره، وبالتالي مؤشرات عديدة وهي مهمة جداً لا يمكن تقديرها، أهمها نسبة العجز المالي إلى الناتج المحلي، نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، نسبة الإيرادات والنفقات العامة إلى الناتج المحلي. وهي النسب الأساس التي كان يطالب صندوق النقد الدولي بتخفيضها من أجل تحقيق الإصلاح والنهوض الاقتصادي.

موازنة الضرائب والرسوم

لم يكن يكفي الشعب اللبناني حالة الفقر بل والفقر المدقع الذي أصبح السمة الرئيسية للمجتمع ولا تدهور قدرته الشرائية والارتفاع الهائل في الأسعار، بل أتت مواد الموازنة المقترحة لتفرض مزيداً من الأعباء عليه ولتعمق حالة الانكسار المعنوي والتلظّي الاجتماعي. تضمن مشروع الموازنة المقترح في فصلها الثالث تحت عنوان " التعديلات الضريبية" 95 مادة - من أصل 139 هي مواد الموازنة - تقترح فيها زيادة أو تعديلات ضرائب ورسوم. قدّر مشروع موازنة 2021 الرسوم الداخلية على السلع بقيمة 3766,749 مليار في حين مشروع موازنة 2022 يقدرها بقيمة 19737,572 مليار أي زيادة بحوالى 5 أضعاف وهي رسوم تتحملها الطبقة الفقيرة والمتوسطة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرسوم على التجارة والمبادلات الدولية المنوي تحصيلها من 470.96 ملياراً في العام 2021 إلى 3382.389 ملياراً أي زيادة 7 أضعاف، ومن المعروف أن اللبناني يعتمد في 90% من معيشته واستهلاكه على الاستيراد من الخارج. وإذا جئنا إلى الرسوم والعائدات الإدارية والمبيعات التي تتضمن رسوم الطوابع والغرامات والتسجيل في المدارس والثانويات والجامعة اللبنانية وغيرها والتي تتحملها أيضاً الطبقة الفقيرة، فقد ارتفعت تقديراتها من 589,216 ملياراً إلى 2857,883 ملياراً أي 4.7 أضعاف، وغيرها وغيرها من الرسوم والضرائب.

سعر الصرف: غموض وتحايل

الإشكالية الأهم في الموازنة هي سعر الصرف الدولار مقابل الليرة، إذ لم يرد في الموازنة سعر الصرف المعتمد في تقديرات الإيرادات والنفقات. وكما سُرّب فإنّ السعر المعتمد هو بين 15000 و20000، وفي حال صحّ ذلك من يضمن ضبط سعر الصرف لمدة سنة كاملة عند هذا السعر؟ وفي حال تدهور سعر الصرف من جديد فإن تقدير العديد من بنود الموازنة وخاصة المرتبط بالنفقات التشغيلية ستختلف عما هو مقدّر ونكون امام موازنة وهمية. والأهم من ذلك كله، تشريع الإبقاء على تعدد أسعار الصرف وهذا ما يناقض خطة التعافي المرجوة والتي من المفترض أن تقوم بتوحيد أسعار الصرف أقله على المدى القصير والمتوسط، مع أنه يجب أن تتماهى الموازنة مع خطة التعافي. ويبدو التحايل جلياً في مشروع الموازنة عندما تجيز المادة 33 منها للحكومة أو لوزير المالية تحديد سعر تحويل العملات الاجنبية إلى الليرة اللبنانية من أجل استيفاء الضرائب والرسوم، وفي ذلك محاولة لتجنّب تضمين الموازنة عناصر تفجيرها، وكذلك اتباع سياسة التدرّج في رفع الدعم لتخفيف من حدّة تداعياته على المواطنين وتجنّب نقمتهم وغضبهم وتحركاتهم في الشارع. وفي ذلك ذكاء عبر جعل سعر صرف الضرائب والرسوم غير ثابت حيث باستطاعة وزير المالية تغييره متى يشاء بما يتناسب مع سعره في منصة صيرفة أو في السوق الموازية. ونحن هنا أمام سلطتين تؤثران على سعر الصرف وهما مصرف لبنان ووزير المالية، وفي ذلك أيضاً مخالفة لقانون النقد والتسليف الذي أعطى الحق لمصرف لبنان في ذلك.

مجالس الإهدار والمحسوبيات: مكانك راوح

أُثير في الفترة الأخيرة موضوع الصناديق والمجالس والمؤسسات غير المنتجة، وانه سيتم إحداث نُقلة نوعية بصددها في الموازنة الموعودة، وإذا بالأخيرة لا تختلف عن سابقاتها في مكامن الإهدار والفساد والتنفيعات والمحسوبيات والنهج والعقلية. فموازنات مصلحة سكك الحديد، الصندوق الوطني للمهجرين، مجلس الإنماء والإعمار، المجلس الاقتصادي الاجتماعي، أليسار، إدارة البريد، المؤسسة الوطنية للاستخدام، مجلس الجنوب، المجلس الوطني للبحوث العلمية، المجلس الأعلى للخصخصة، مؤسسة المحفوظات الوطنية،المجلس الوطني للسلامة المرورية، المؤسسة العامة للأسواق الاستهلاكية، الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب وغيرها، تفوق موازناتها 1850 مليار ل.ل، حيث أن أكثر من 80% منها تذهب للرواتب والأجور أي للأزلام والمحسوبيات. وتستأثر الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً لوحدها 1728 ملياراً منها، ولا ندري إلى الآن ما هي الفائدة من هذه الهيئة أو الإنجازات التي حققتها. أوليس الأولى أن تُصرف أموال هذه الهيئة على الهاربين قسراً في قوارب الموت بسبب الأزمة الخانقة. والسبب ما زال خفياً علينا عن سبب زيادة موازنة مجلس الجنوب من 23,8 ملياراً إلى 29 ملياراً.

الإصلاح المفقود: الكهرباء

من أهم شروط صندوق النقد الدولي وفي مندرجات أي خطة للتعافي هو إصلاح قطاع الكهرباء التي استنزفت حوالى 45% من الدين العام. وقد اعتمدت تقديم سلفة خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 5250 ملياراً في حين كانت في السابق 1500 مليار. وهذا يعطينا الدليل على استمرار النهج الكهربائي وخاصة في ظل غياب أي مادة في المشروع المقترح للهيئة الناظمة. وفي ذلك أيضاً التأكيد على الاستمرار في التقنين القاسي للكهرباء وخاصة إذا فشلت مساعي تزويد الغاز من مصر، لأن هذا المبلغ المرصود لا يكفي لتوفير التمويل اللازم لاستيراد الفيول المطلوب مع ارتفاع أسعار النفط عالمياً وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة.

صلاحيات استثنائية لوزير المالية

تجيز المادة 109 من مشروع الموازنة لوزير المالية والوزراء المختصين صلاحية مؤقتة لتعديل التنزيلات والشطور والنسب المتعلقة بالضرائب والرسوم، وفي ذلك منح الوزير صلاحيات استثنائية، بالإضافة إلى حقه المطلق في تحديد سعر الصرف الوارد أعلاه فيصبح الوزير السوبر، وفي ذلك مثالثة مقنّعة للصلاحيات. ناهيك عن الاستنسابية التي يمكن أن تنتج عنه وتفضيل المحظيين عن باقي المكلفين، بالإضافة إلى أنه قد يتحوّل إلى أداة استغلال انتخابي ورشوة انتخابية واضحة قبيل الانتخابات المقبلة.

المصارف دائماً وأبداً

إنّ للمصارف حصة في كل شيء "وبكل عرس لها قرص"، حيث تكرس المادة 132 المقترحة ضياع أموال المودعين وإعطاء الحق القانوني للمصارف بالتهرب من إرجاعها لأصحابها. فالمادة المذكورة تنص على "تسديد المصارف للودائع الجديدة بالعملة الاجنبية التي تودع لديها اعتباراً من تاريخ نشر هذا القانون بالطريقة عينها ورفع القيمة المضافة عليها"، وبذلك تشريع قانوني بنهب كل الودائع السابقة حيث حصرت تسديد الودائع بالجديدة فقط. أما موضوع رفع القيمة المضافة على الجديدة فهو مبهم ويحتاج إلى تفسير من حيث مترتبات ضريبة القيمة المضافة عليها. ولدعم موازنات المصارف، تلزم المادة 115 الشركات والمؤسسات كافة في القطاع الخاص باعتماد توطين الرواتب في المصارف.

الموظفون هم الضحية

تدهورت القدرة الشرائية لكل الموظفين دون استثناء بنسبة تفوق 92%، وبعد أنهم كانوا يشكلون الطبقة الوسطى في المجتمع والتي هي صمام أمان المجتمعات، نجد أنهم دخلوا في فئة الفقراء والمهمشين وطوابير الذل. وفوق كل ذلك لم يلحظ مشروع الموازنة سوى مادة وحيدة فقط تساهم في مساندة الموظفين في محنتهم وهي المادة 135 والتي تنص على تقديم مساعدة اجتماعية لمدة سنة واحدة فقط ما يساوي الراتب الشهري للموظفين و50% من المعاش النقاعدي للمتقاعدين، وفي ذلك إجحاف كبير للموظفين الذين لا يستطيعون دولرة مداخيلهم مثل الآخرين. بل على العكس إن عبء الرسوم والضرائب الجديدة سيتحملها هولاء الموظفون بالطبيعة. نعم كان يمكن نقل اعتمادات من الموازنة في عملية تصحيح أجور جزئية ودون أن يُحدث ذلك أي ضغوط تضخّمية. ومثالها الصناديق والمجالس الواردة أعلاه، رواتب المستشارين التي تبلغ حوالى 2.3 مليارين، المكافآت 3.59 مليارات، النفقات السرية 40,7 مليارًا، المؤتمرات والوفود والتي لا داعي لها في ظل الانهيار 6,4 مليارات، نقل وانتقال في الداخل والخارج 10 مليارات، دراسات لمجلسيّ النواب والوزراء 507,8 ملايين، الخدمات الترفيهية والرياضية 13,6 مليارًا، استئجار سيارات وآليات في مجلس النواب 200 مليون، مساهمات إلى هيئات لا تبغي الربح تفوق 1.5 مليار وغيرها من النفقات الشتى التي يمكن تحويلها إلى دعم للموظفين.

حقوق السحب الخاصة: علامات استفهام

تحصّل لبنان العام الماضي على حصته من صندوق النقد الدولي بما يُعرف بحقوق السحب الخاصة والتي تقدر بـ1,136 مليار دولار. أليس من المفترض أن يُعتبر هذا المبلغ مورداً ماليّاً استثنائيًّا للمالية العامة؟ وهذا ما لم نجده في مندرجات الإيرادات في الموازنة المقترحة. الامر الذي يطرح عدة علامات استفهام وتساؤلات حوله. أليس من الأَولى استخدام هذا المبلغ في مشاريع إنتاجية لها طابع الصالح العام وبالتالي إظهاره في مشروع الموازنة واقتراح مشاريع فيها تخفف من وطأة الأزمة على المواطنين؟ أم أن المبلغ يُستخدم لأغراض أخرى مثل تمويل التعميم 161 وغيره؟ أم هو في أدراج النسيان لاستخدامه في التوظيفات الانتخابية والحزبية؟ أسئلة كان من الممكن التغاضي عنها لو تمّ إدراجه في مشروع الموازنة العامة.

تنافسية المرافئ والمطارات

تنصّ المادتين 85 على تعديل رسوم المرافئ والمنائر و86 على تعديل رسوم المطارات بهدف الحصول على الدولارات الجديدة من الخارج. ولكن يبدو أنه غاب عن بال المسؤولين أهمية دور المرافئ اللبنانية في المنطقة، وما لذلك من تأثير سلبي عليها في تنافسها مع المرافئ المجاورة: طرطوس، الإسكندرية، حيفا، قبرص وغيرها، وكأنه لا يكفي مرفأ بيروت الدمار الذي لحقه. ومطار بيروت الذي لعب دوراً محورياً بعد انفجار المرفأ تضع السلطات في ظل هذه الرسوم العراقيل أمام تطور دوره. هذا إذا ضمنّا عدم سرقة هذه الرسوم كما حصل مع فحوصات الـPCR.

لا للإنقاذ

يتطلب الظرف الاستثنائي والانهيار الكارثي معالجات استثنائية تتناسب ودقّة المرحلة وحساسيتها. ففي ظلّ انكماش الاقتصاد بنسبة وصلت إلى 25% بحسب المنظمات الدولية ومع نسبة فقر تفوق الطبيعي كان من الأولى في مشروع الموازنة أن يتضمن اقتراحات تحفيزية للأنشطة الاقتصادية وللدورة الاقتصادية تسهم في زيادة الناتج المحلي بدلاً من تقليصه. غابت عن الموازنة المعالجات الاقتصادية والاجتماعية والنقدية للأزمة، بل ما تضمنته من مواد وبنود ستسهم في مزيد من التداعيات الاجتماعية. تتضمن الموازنة في فصلها الثاني: "تعديلات قوانين البرامج" مشاريعَ وبرامج استثمارية تكون منطلقاً أساسياً وداعمة لعجلة النمو الاقتصادي، والملفت هو تصفير لكلّ المشاريع في هذا الفصل والغياب الكامل لأي مشروع له فوائد إنتاجية عامة.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم