الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

العرب وأزمة السلام

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
تصاعد أعمدة الدخان خلال قصف روسي مفترض بريف إدلب (أ ف ب).
تصاعد أعمدة الدخان خلال قصف روسي مفترض بريف إدلب (أ ف ب).
A+ A-
لماذا يسعى البعض لتفجير السلام؟ أليس الأمن مبتغى وهدف كل إنسان؟
 
تعددت الأسباب و"الصراع" واحد. فهناك الحرب المفروضة عليك، وهناك الحرب لتحقيق السلام، وهناك التدافع لتوسيع دائرة السلطة والمصلحة. ثم هناك الحرب التي يبتدئها البشر للهروب منها وتصديرها من الداخل المضطرب إلى خارج الحدود، أو للانتفاع بإدارتها والمتاجرة بها.

أما أسوأ الحروب، فهي تلك الصراعات العبثية التي يبتكرها مرضى النفوس والعقول لأتفه الأسباب، من الإيدلوجية والعنصرية إلى الكرامة الوطنية والمشاعر الشخصية.

وفي النهاية، فإن من يدفع الثمن، أو يراد لهم أن يدفعوه حصراً، هم الذين تم دفعهم إلى منازل الموت والدمار، وقدموا أُضحيات رخيصة، لا بواكي لها، لأصحاب المصالح الدائمة.

موت الأفراس

يروي صحافي غربي أنه خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1989) كان يجلس مع عدد من أمراء الحرب، عندما انفجرت قذيفة بالقرب من مقر الاجتماع، فقفز فزعاً. طمأنه جلساؤه الذين لم ترفّ لهم عين، وقال أحدهم بكل ثقة: في لبنان، تموت الأفراس ويحيا الفرسان! وهكذا كان، فباسثناء رئيس الكتائب، بشير الجميل، الذي اغتالته قوى خارجية، لم يصب أي من صناع الحرب وقتلة السلام بسوء. فيما تكالبت جثث الأتباع والأعداء على جثة الوطن.

وفي الحروب الكبرى والصغرى التي ذبحت البشر ونحرت الأرض عبر التاريخ، كان أقل الضحايا هم أكثرهم ظلماً وعدواناً. وكأنما توافق القادة على أن قوانين اللعبة تسمح بتصفية كل البيادق، على أن لا يُمَس اللاعبون بسوء.

غابة الفرسان

الأمثلة كثيرة، ولكن الأسباب معدودة. فالمحرك الأساسي هو أنانية الإنسان. والدوافع هي نفسها التي قتل بسببها قابيل أخاه هابيل... الجشع والحسد والغلّ. وقانونها الدائم هو: ما بيدي لي، وما بيدك قابل للتفاوض أو التقاسم أو الاستيلاء.

من هذا الثابت تلد كل المتحولات. ومن هذا المحرّك تتوالد كل الأسباب. فالجار الذي يحسد جاره على سعة داره قد يزاحمه عليها. والتاجر الذي يتفوق عليه غيره قد يلجأ للغش والخداع. والملاكم الذي يغلبه خصمه، قد يضرب تحت الحزام. وعلى هذا فقس حال الجماعات والدول.

ما الفرق بين ما تفعله الشركات الكبرى لبعضها، في ساحات القضاء والأسواق والرأي العام، من "المنافسة على حد السكين"، وبين ما تمارسه الحكومات على ساحات السياسة والمنظمات والإعلام؟ وما الفرق بين هذه المنافسة "المشرعنة" في الغابات "المقننة" رغم ضحاياها الأقل حظاً ووجاهة ومالاً، وبين التنافس على ساحات الصراع الدموي بين الميليشيات والجيوش؟ ففي نهاية المطاف، يفترس القوي الضعيف، ويستولي الغني على مقدرات الفقير ... "تموت الأفراس ويعيش الفرسان"!

حال العرب قبل وبعد

وفي عالمنا العربي، قامت صراعات ودامت لأسباب تراوحت بين خلاف على فرس، أو ثأر لفارس، كما في الجاهلية، أو اختلاف الروايات حول صراعات تاريخية على الحكم، انتهت بموت رموزها، ولم تنته الضغائن في قلوب اشياعهم، وربما لن تنته إلى قيام الساعة. فطالما هناك من يتعيّش على إدارة الصراع والفتن فيستمر في إشعالها والحرص على استمرارها طالما لن تناله نيرانها.

وعودة الى حالنا قبل منتصف القرن العشرين، سنرى دولاً مستقرة، وشعوباً متآلفة، وسلماً مجتمعياً ودولياً، سمح لقاطرة النماء أن تمضي ببلدانها الى محطات ترتقي إلى المعايير الدولية.

ثم جاء الخارجون من الهوامش ليقتحموا النص بشعارات تؤجج المشاعر وتتلاعب بأحلام البشر. جاؤوا أحياناً بحق أريد به باطل، وأخرى بباطل أريد به باطل. فمن الدعوة للثورة على المحتل الأجنبي، وحلم الاستقلال والوحدة القومية التي ستمنح الشعوب مزيداً من الحرية والسيادة، القوة والعزة والكرامة. إلى دعاة الليبرالية والاشتراكية والإلحاد، بدعوى تحرير المجتمعات العربية من قيود الدين والقبيلة والأسرة ومنح الفرد كامل حقوق الفردية البوهيمية الأممية.

وفي النهاية، وصل المزايدون إلى السلطة، بالانقلابات، والتحالفات الحزبية الأممية. استبدلوا مستعمراً بآخر، وحكماً ديمقراطياً بعسكري. كسروا قيوداً أجنبية، وألبسوا شعوبهم قيوداً حديدية "فخر الصناعة الوطنية". أما برك الفساد الذي رفعوا الرايات وألّبوا النفوس ضده، فقد استعاضوا عنها بسيل لا يبقي ولا يذر.

جديد المستعمر قديمه

انتهى عصر الثورات المؤقتة و "الدائمة" دوام أصحابها، ولا بد من جديد... فكان "الجديد-القديم": نعرات الطائفية والعنصرية. وكأنما انتقم المستعمر الأول لاستبداله بالمستعمر الجديد، فبث إلينا وطاويط المذهبية بعمائم وقلوب ودعاوى ظلامية، ومكّنها من قلب المنطقة العربية والإسلامية، وتغاضى عن جرائمها وتعدياتها حتى عليه.

ولم يخسر الغرب رهانه، فقد حققت "قم" في أربعة عقود ما لم تحققه "تل أبيب" في ثمانية. فرقت بين المرء وأخيه وصاحبته وبنيه. ودمرت دولاً وأشغلت أخرى، وعطلت مسيرة التنمية في المنطقة كلها، بما فيها بلدها. ومكنت المستعمر من العودة من جديد بعذر الحماية والرعاية والتحكيم.

الإسلام السياسي

وعلى الضفة الأخرى، دعم المستعمر الجديد الحركات الاسلاموية لتثور على حكومات حليفة له، فأسقطها وسلمها لأحزاب متنفعة، متخادمة، تتقن التلاعب بمشاعر المؤمنين، وتجيد التمثيل والادعاء. وفّق بين هذا الخادم وذاك في مؤامرة القرن الجديد، على أمل أن يؤمّن عملاؤه مصالحه وأمن إسرائيل، ويتفرغوا هم لمصالح أخرى.

إلا أن نجاح الغرب في إسقاط الأنظمة لم يواكبه نجاح في إدارة البلدان. فسرعان ما تكشفت مساؤى "الجشع والحسد والغل" مع الجهل وقلة الخبرة، ففشلت التجارب، واحدة بعد الأخرى، وانفضح أصحاب الشعارات في امتحان الإدارة والحكم. وبعكس خساراتهم الماضية في مواجهة الأنظمة الحاكمة، تحولت "المظلومية" إلى "ظالمة" وتلاشى سحرها الجماهيري، ورومانسيتها الشعبوية، وسقط حلمها السلطوي في مستنقع الفساد والفشل.

"العبثية" وتصدير الصراع

أما الحروب "الهاربة"، فهي تلك التي تسعى لتوحيد المختلف، وتجييش الشعوب ضد عدو مشترك وخطر داهم. أو لإشغالها عن مشاكلها الداخلية واخفاقات الحكم الاقتصادية والتنموية. والهدف الحقيقي هو البقاء في السلطة حتى آخر مواطن، ومبنى قائم. هكذا فعلت إيران الخميني بعد الثورة، وعراق صدام بعد حرب الخليج الأولى، وآل الأسد بعد الوصول إلى السلطة، وتوارثها.

وتبقى "فاسقة" الحروب، "أم الكبائر"، الحرب العبثية. تلك التي لا مصلحة مستدامة ترجى حتى لصاحبها، وليس لها هدف أو جدول أو نهاية.
ومثال ذلك ما تشعله مليشيات إيران العربية، في أوطانها، العراق وسوريا ولبنان واليمن. وماكان يفعله القذافي مع أشقائه كمصر وتشاد والسودان، وفي دول العالم من ايرلندا الشمالية الى اميركا الجنوبية الى أدغال أفريقيا.

قادة فقدوا الضمير، والمنطق والبوصلة. كل همهم إشباع غرورهم وشهواتهم، وإرضاء ساداتهم، والاستمتاع بإشعال الحرائق والفتن.
 
إرادة الشعب

مالحل إذن؟ كيف نخلّص الحروب من صنّاعها، والبلدا
ن من مفسديها، والشعوب من مفرقيها؟ الجواب في يد الشعوب العربية التي سلّمت عقالها وعقولها للقوى الظلامية، ومضت وراءها تهتف وتصفق وتنتخب، تناصر وتجادل وتحمل السلاح. فإن أدركت ما أودتها اليه القيادات، انقلبت عليها وانتفضت ضدها، واستعادت حريتها ووعيها وبلدانها في معركة "استعادة الوعي" و"استرداد السيادة" و"حب الحياة". وإن رضيت واستكانت ... فلا يحق لها اللطم والبكاء، وادعاء المظلومية، واستجداء العالمين.

فكما قال الشاعر التونسي، أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي و لا بد للقيد أن ينكسر

 أستاذ في جامعة الفيصل *

@KBATARFI

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم