الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

فرصة سانحة لحياد لبنان على طريقة عُمان

المصدر: "النهار"
تصوير نبيل إسماعيل.
تصوير نبيل إسماعيل.
A+ A-
سامي محروم
بروفسور لبنانيّ في جامعة بروكسيل
الحرّة
 
تشكّل الأزمة المستجدّة بين لبنان ودول الخليج امتداداً تاريخيّاً للمشكلة اللبنانية المتجذّرة في التنوّع الطائفي والسياسيّ في البلد. وقد يكون توصيف التنوّع كمشكلة أمراً مستفزّاً للكثير ممّن يرَون في التنوّع مصدراً للإثراء والقوّة. إلّا أنّه منذ نشأته، لم يتمكّن لبنان من تحويل تنوّعه إلى مصدر قوّة، وإن كان قد نجح إلى حدّ ما من تحويلها إلى ثروة اقتصاديّة. أمّا في ما عدا ذلك، فنجد أنّ التنوّع في لبنان قد وظّفه الخارج، كقوّة فائضة في الداخل اللبنانيّ. فما إن تخرج البلاد من أزمة تتعلّق بالإقليم، حتى تجد نفسها في أتون أزمة أخرى. هكذا هو مسار الأحداث منذ ثورة الضبّاط الأحرار في مصر عام 1952 إلى الثورة الفلسطينية، مروراً بالإيرانية، وانتهاءً بحروب الربيع العربيّ.
 
ودرجت العادة في لبنان، أن يجري تناول موضوع التنوّع بقالب سلبيّ، على أنّه قدر لا مفرّ منه، تنوّع يميّع الهويّة الوطنيّة. وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن ضرورة الحياد اللبنانيّ، تخلّلته نداءات في أوساط سياسيّة وروحية وإعلامية. إلّا أنّ الداعين إلى الحياد لم يضعوا تصوّراً له، بعيداً عن السطحيّة الأدبيّة والتمنّيات الأخلاقية. فجلّ ما طالبوا به هو عدم "الإساءة" إلى دول الجوار وعدم التدخّل في نزاعاتها. ولا شكّ أنّ في المطلب الثاني واقعية ضرورية لأيّ دور حياديّ. لكن هناك إشكالية قويّة في المطلب الأوّل، إذ إنّ مفهوم الإساءة ينقصه توضيح واتّفاق. فعلى سبيل المثال، هل يُعدّ توجيه النقد للملالي في إيران، ونظام حكمهم "إساءة" إلى دول الجوار؟ أو هل يُعدّ وقوف بعض الإعلام، أصحاب الرأي، والسياسيين في لبنان بقوّة إلى جانب الثورة المعارضة لنظام الحكم في سوريا "إساءةً" إلى دول الجوار؟ وهذه إشكالية تطرح نفسها بقوّة اليوم في الأزمة الطارئة مع بعض دول الخليج العربي. 
 
اللبنانيون منقسمون ومتنوّعون في آرائهم حيال قضايا الإقليم، تماماً كباقي مواطني الإقليم، مع وجود فارقين مهمّين: الأول أنّ في لبنان حيّزاً مهمّاً من حرّية الرأي، مفقوداً في باقي دول الإقليم (إذا استثنينا إسرائيل) يصعب تقييده من دون المسّ بالحرّيات. والفارق الآخر هو أنّ الاختلاف على قضايا الإقليم يتماهى كثيراً مع المزاج الطائفي والمذهبيّ في لبنان. هذان الفارقان يسهمان في تمييع الهويّة الوطنية اللبنانية، التي هي في الأساس غير حياديّة بل تتشكّل من مجموعة هويّات منحازة، بعض منها متطرّف، وآخر متسلّح على خطوط تماس النزاعات الإقليميّة.
 
كيف لنا إذن أن ننتقل من هذا الواقع إلى ما هو أفضل؟ الجواب ليس بالمزيد من النداء والتمنّي، وبالتأكيد ليس بتقييد حرّية الإعلام والتعبير، بل يكون بنشر ممارسة الحياد كثقافة تشكّل في المدى البعيد هويّة وطنيّة جامعة. فالحياد هو مشروع هويّة وليس موقفاً سياسيّاً تكتيكيّاً مبنيّاً على الوقاية السياسية على أساس مبدأ "اتّق شرَّ من لا قدرة لك عليه". كيف يمكن أن يصبح الحياد هويّة لبنانيّة؟
 
الحياد عبر الممارسة يتحوّل إلى هويّة وطنيّة، تماماً كما هو الأمر اليوم في سلطنة عُمان، التي تبدي فعاليّة عالية في أن تبقى خارج كلّ النزاعات الإقليميّة، بما فيها خلافات دول الجوار. وكذلك هو الأمر في سويسرا وكندا والنرويج، حيث ينظر الناس إلى أنفسهم على أنّهم حياديّون، وسطاء في حلّ النزاعات، وليسوا امتداداً لهويّات خارجيّة مهما تشابهوا معها في الثقافة، اللغة والدين. 
وقد يكون في الأزمة الحالية فرصة سانحة لانطلاق الوجه الجديد للبنان، البلد الحياديّ على الطريقة العُمانيّة. لنتخيّل هذا السيناريو معاً: ففي سعيه لحلّ أزمة الثقة مع دول الخليج، يطلّ علينا غداً فخامة رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ميشال عون ليعلن نيّة احتضان لبنان مفاوضات سلام بين الأطراف اليمنيّة المتصارعة.
 
دور كهذا يمكن الوصول إليه من خلال التوافق مع سلطنة عُمان، كجزء لحلّ أزمة الثقة مع الخليج، ولكن أيضاً من خلال الأطراف الداخليّة المتعاطفة مع أفرقاء النزاع في اليمن. لبنان في دور الوسيط تحت رعاية رئيس الجمهورية، يفرض على جميع أطرافه شروط الوساطة ولباقة الضيافة. لنتخيّل معاً أنّه في السنة الباقية من عهده، ينشغل الرئيس ميشال عون بتحويل لبنان إلى بلد الوساطة والحوار المشرقيّ. فيستضيف لبنان ويحلّ وسيطاً لمفاوضات سوريّة-سوريّة، مغربيّة-جزائريّة، ليبيّة-ليبيّة، سودانيّة-سودانيّة، وربّما، إيرانيّة-سعوديّة. يمكننا فقط أن نتخيّل كيف يمكن لدور كهذا أن يغيّر الطريقة التي ينظر بها اللبنانيّون إلى أنفسهم ونظرة الإقليم إليهم كوسطاء حياديين صانعين للسلام. لو أنّنا مشينا في هذا الطريق لأصبح بإمكاننا أن نحوّل الحياديّة إلى ثقافة وصناعة فتصبح مصدر قوّة. ولكثرة مشاكل الإقليم قد يصبح الحياد اقتصاداً مهمّاً في البلد، ليس فقط من خلال تنظيم واستضافة طاولات الحوار والمفاوضات، بل لتطوير مؤسّسات بحثيّة وتدريبيّة في مجالات وعلوم المفاوضات، الحوار، وفضّ النزاعات. وقد تستضيف بيروت ومصايفنا الجميلة مؤتمرات دوليّة شبيهة بمؤتمر الاقتصاد العالميّ في دافوس، ومؤتمر الأمن العالميّ في ميونخ وغيرها عن حوار الأديان والثقافات. 
 
فهلّا استغلّ رئيس الجمهوريّة ومعه الحكومة وأطرافها السياسيّة الفرصة القائمة، وأطلقوا مسار تحويل لبنان إلى بلد الحوار، بداية باستضافة ورعاية الحوار اليمنيّ-اليمنيّ ومعه الحوار الإيرانيّ-السعوديّ؟ لعلّها فكرة تشكّل خريطة طريق للخروج من نفقنا الطويل نحو تشكيل هويّة جديدة لأنفسنا كصانعي سلام مضيافين لإخواننا في الإقليم الذي يجمعنا معهم الكثير، ونكنُّ لهم الحبّ ويكنّونه لنا.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم