الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

نسخة انتخابية لـ"الأيادي السود"

المصدر: "النهار"
انتخابات المغتربين (أ ف ب).
انتخابات المغتربين (أ ف ب).
A+ A-
مكرم رباح 

في تسعينيّات القرن الماضي، برزت طائفة من المعارضين ومن الناشطين السياسيين الذين امتهنوا مهاجمة رفيق الحريري، والحريرية السياسية، على أنه حوت المال الذي يريد تدمير لبنان، وأن يحوّل اقتصاده نحو الرأسمالية المتوحّشة، متغاضين أو حتى مدافعين عن احتلال حافظ الأسد للبنان، والذي بدوره أعطى "حزب الله" احتكار المقاومة ضدّ العدو الإسرائيليّ وحوّل لبنان إلى نسخة "أورولية" من حكم الأخ الأكبر.
 
تلك الطائفة من "القومجيّين"، ومعهم جماعة من الناصريّة، امتهنوا الشّتم عبر منبر مجلس النواب، وعلى مدى أكثر من خمس عشرة سنة، وسخّروا قدراتهم لتهذيب أيّ طرف يُعارض "الإجماع" اللبناني تحت الوصاية السورية، بل وصل بهم الأمر إلى نشر كتبٍ، من ضمنها "ملحمة" النائب السابق نجاح واكيم "الأيادي السود"، الذي "يوثق" فساد رفيق الحريري، من دون ذكر دور الوصاية السورية، التي كما هي حال سلاح "حزب الله" حالياً عملت على تأمين الحماية والمشورة لهذا النظام الزبائنيّ.
 
الانتخابات النيابة الحالية، كما تبدو حتى الآن، هي إعادة تفريخ لأيتام تلك الطائفة من الممانعين، ولكن تحت عباءة قوى التغيير التي خرجت من ثورة 17 تشرين؛ فمنهم من زُرع ضمن صفوف الثورة لتشتيت جهود المجموعات التغييرية، ولِمَنعهم من بلورة مشروع سياسيّ واضح سياديّ يواجه الفساد ومشروع "حزب الله"؛ في حين برز قسم آخر، ضمنهم مَن يدّعي "النبوة" السياسية، ويجمع حوله أتباعاً من شبّان متحمّسين وصادقين، شكّلوا بمجملهم cult أو طائفة تروّج لنسخة منقّحة من كتاب "الأيادي السود".
 
من ضمن تلك الفرق، مجموعة صغيرة نسبياً من حيث العضويّة، تُبشّر برؤية "الرجل الحكيم"، الذي قرّر بعد تبوّئه وزارتين في صفوف "التيار الوطني الحرّ" أن يرى النور وينضم إلى صفوف "الرعاع" ويرفع سيف الإصلاح بوجه الطغمة الحاكمة وبوجه الثورة التي وصمها "نبيّ الثورة" بالسّخيفة وعبارة عن حفلة من الموسيقى والأراغيل. 
 
ارتأت تلك الفرقة أن تقدّم 69 مرشحاً ضمن الانتخابات النيابية المقبلة في خطوة تُشكّل خدمة قيّمة للسلطة السياسيّة، لأنها تشتّت أصوات المعارضة، وتروّج لصورة الانقسام الذي يدفع بالعديد من الناخبين إلى مقاطعة الاقتراع برمّته.
 
تطرح تلك "الطائفة" جملةً من الحلول الاقتصاديّة والسياسيّة الإصلاحيّة، التي تبدو للعديدين كأنّها صائبة وصادقة وتستند إلى مقاربة وطنية علمانيّة، لكنها في الصميم تطمر السيادة كمدخل إلى الإصلاح، معتبرة أن "حزب الله" وسلاحه الإيراني المذهبي "رصيد كبير للبنان، ولا يجوز التفريط به ولا المساومة عليه، والنقاش فيه يجب أن يتمحور منذ اليوم الأول حول انتقاله، مع الحفاظ على فاعليته، من مقاومة "طائفة" إلى منظومة وطنية".
 
النبرة الاعتذارية والتبريرية للسّلاح غير الشرعيّ تنتمي إلى الحقبة الغابرة، عندما دفعت سذاجة اللبنانيين إلى الرّهان على وطنيّة "حزب الله"، وبأن هذا السلاح لن يُدار إلى الداخل، بل سيستمر في حماية لبنان من إسرائيل؛ رهان لم  يلبث أن أثبت فشله في شوارع بيروت خلال أحداث 7 أيار 2008.
المسألة لا تنتهي مع "المرشد الأعلى" لتلك المجموعة بل تمتدّ إلى من يُوصف بتلميذه النّجيب - المتقمّص نبرة وأسلوب زياد الرحباني- الذي يروّج قراءة تاريخيّة منتقصة للانهيار الاقتصادي الحالي، مركّزاً "حصراً" على دور الحريرية السياسية وأمراء الحرب والطوائف خلال سنوات 1990-2015 مع تقديم براءة ذمة للنظام السوري ووريثه الإيراني "حزب الله".
 
من خلال وثائقي "التاريخ الذي لم يُروَ" الذي بُثّ عبر إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانيّة، يقدّم هذا المرشّح للانتخابات النيابية قراءة غير صادقة لسنوات الوصاية السورية، ويلوم رفيق الحريري على كلّ مصائب البلد، فيقوم بالإيحاء أحياناً عبر استعمال الصّورة والأرشيف إلى أن السقوط الحالي الاقتصادي والسياسي هو إعادة للسيناريو الذي سمح بدخول رفيق الحريري إلى المعترك السياسيّ، وعلى أنقاض حكومة عمر كرامي سنة 1992.
 
وصلت به الأمور خلال إحدى المقابلات إلى أن ينظر في عينَي أحد أبناء شهداء ثورة الأرز، محمد شطح، نافياً دور "حزب الله" في اغتيال والده، وبطريقة ملتوية يُصرّح بأنّه لا يستطيع أن يجزم قيامهم بمجموعة من الاغتيالات لرموز سياديّة، طارحاً فرضيّة مشاركة الإسرائيلي في تلك الجرائم، متناسياً قرارات المحكمة الخاصة بلبنان التي أدانت مسؤولين في "حزب الله".
 
إذا اختار المرء لسبب من الأسباب أن يتناسى تلك المواضيع الأخلاقية الأساسية، فقراءة الطروحات الاقتصادية والمقاربات السياسية لتلك الجماعة تؤدّي إلى هذا الاستنتاج الشبيه بسقطتهم الأخلاقية، في حين تبدو خطّتهم الاقتصادية أنّها تقدّم شيئاً حديثاً بينما هي في الواقع الطروحات نفسها التي تتبناها مجموعات التغيير وحتى بعض أحزاب السلطة.
 
المطالبة بالضريبة التصاعدية أو توزيع الخسائر أو استعمال الضرائب لتمويل النظام الصحيّ ليس بعمل ثوريّ جديد، بل هو قوام أيّ عمل سياسي بديهي. التركيز على دور الدولة المركزيّ في اتخاذ القرارات الاقتصادية والتركيز على أهمية المجتمع فوق الفرد لا يختلف عن حكم أمراء الحرب فوق المواطنين اللبنانيين، ولربما الأخطر هو ادعاؤهم بأنهم كمجموعة نخبوية نظيفة الكفّ قادرة على اتخاذ القرارات نيابة عن الشعب اللبناني، وهذا الادّعاء يتحوّل إلى ركيزة لمشروعهم الانتخابي، حيث سيدّعي هؤلاء تمثيلهم نسبةً مئويّةً تسمح لهم بإعلان مجلس وطنيّ انتقاليّ تحت ذريعة هذا التمثيل الوهميّ الذي حصلوا عليه في صناديق الاقتراع.
الغرور واحتكار الحقيقة هو ثقافة اعتاد عليها اللبنانيّون من أمراء طوائفهم، الذين ادّعوا حماية مصالح جماعاتهم، كما هو حال مدّعي الإصلاح في زمن أصبح من الصعب تمرير الدّجل على أنه ثورة حقيقية.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم