الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

العدل أساس الملك

المصدر: "النهار"
من أمام مرفأ بيروت المدمَّر (نبيل إسماعيل).
من أمام مرفأ بيروت المدمَّر (نبيل إسماعيل).
A+ A-
ديان آصاف*
 
كثيراً ما نسمع من أسلاف لنا وأصدقاء عن أخبار قصر العدل أيام زمان والقضاة المميزين الذين مرّوا فيه وطبعوه بأمجاد وذكريات فاخرة. فأخبارهم تنعش القلوب، وأحكامهم تشكّل اجتهادات قيّمة يحتذى بها، سواء في لبنان أم خارجه.
 
 
فكم سمعنا عن أخبار رئيس أول رفض دعوة رئيس الجمهورية إليه لعقد جلسة للجنة العفو في القصر الجمهوري بداعي وجوب عقد هكذا اجتماع في قصر العدل مركز السلطة القضائية وليس في القصر الجمهوري،
 
وكم سمعنا عن ذاك القاضي رئيس دائرة التنفيذ يُنبّه المدير العام لرئاسة الجمهورية إلى أن حدود صلاحيّاته تقف عند باب قصر العدل، بالرغم من أنّه كان موفداً من قبل رئيس الجمهورية آنذاك لأجل قضيّة تدخّل فيها مباشرة رئيس الجمهورية الفرنسية الجنرال شارل ديغول،
 
وكم أخبرونا عن قضاة تـمّ نعتهم برهبان العدلية، كانوا ينكبّون على العمل بكلّ تجرّد وإخلاص دون أي مسايرة لأحد،
 
وكم حدّثونا عن العافية التي كانت تطبع أعمال قصر العدل والإنتاجية التي كانت تميّز قضاته،
 
وكم سردوا لنا الروايات حول هيبة القضاة ووقارهم فكان أحد كبارهم يردّد أنه لا يكفي أن يكون القاضي نزيهاً بل يتوجّب عليه علاوة على ذلك أو يوحي بأنّه نزيه بتصرّفاته الاجتماعية وعلاقاته بالمتقاضين.
 

أما اليوم فماذا نشاهد وماذا نسمع؟؟؟

نشاهد اضمحلالاً للجسم القضائي، ونسمع أخباراً عن فساد ومسايرات وتدخّل بعض السياسيين في عمل بعض القضاة، ونفاجأ بصدور أحكام ارتجالية لا ترتكز إلى أيّ أسس علميّة سليمة، ولا تؤمّن إحقاق الحق؛ هذا إن صدرت في موعدها، وفي أغلب الأحيان يتأخّر صدورها لسنوات وسنوات،
 
كذلك نشاهد تسلّطاً غير مسبوق للسلطة السياسية على السلطة القضائية، وأكبر مثال على ذلك التذرّع بالحصانات النيابيّة والوزاريّة في جريمة انفجار مرفأ بيروت المروّعة والتوصّل إلى ردّ القاضي العدلي فيها، وتعطيل مسار التحقيق، ومحاولة نسفه مع القاضي العدليّ الجديد لا لشيء إلا لأن كلّاً منهما تجرّأ على الادّعاء على المرجعيّات السياسية التي اعتبرها مسؤولة في هذه الجريمة.
 
وذلك كلّه بالرّغم من وجود قضاة شرفاء مقتدرين يتمتّعون بأعلى درجات الحكمة والشفافية وهم كثر.
 
فما هذه اللعنة التي تضرب هذه المؤسسة الأساس في مجتمعنا، والتي تشكّل حجر الزاوية في نظامنا الاقتصادي الحر؟؟؟
 
لقد تـمّ تعيين وزيرة للعدل، كان من المفترض أن تكون منكبّة على مشروع إصلاحي شامل، وهي أكاديمية بامتياز، فلا تتأثر بالإيحاءات الحزبية والمحسوبيات،
وتـمّ تعيين رئيس أوّل يشهد له الجميع بنزاهته ومناعته وقدراته العلمية والإنتاجية المتفوقة،
 
كذلك، تـمّ انتخاب نقيب للمحامين هو من أشرف المحامين وأقدرهم وأكثرهم اندفاعاً للخدمة العامة،
 
فما الذي حصل؟؟؟
 
حصل أن اشتبك هؤلاء الثلاثة بعضهم مع بعض، فتعطّلت التشكيلات القضائية، وأعلنت نقابة المحامين إضراباً عاماً مفتوحاً تأميناً لكرامة المحامين.

مـمّا لا شكّ فيه أن إقرار قانون استقلاليّة القضاء يشكّل حافزاً جوهريّاً لعمل قضائي منتج وفعّال، يكون بـمنأى عن الضغوطات والمحسوبيات، ويؤمّن انتخاب مجلس القضاء الأعلى من قبل القضاة أنفسهم، ويؤمّن إجراء تشكيلات قضائية من دون أيّ تدخّل من أي مرجعية حكومية أو سياسية، فلا تبقى السلطة القضائية مرتهنة للسلطة السياسية بأي موافقة.
 
إلا أنه يبقى أن الأساس يكمن في المناعة التي ينبغي أن يتحلّى بها القاضي وهي في النفوس وليست في النصوص،
وإن التفتيش القضائيّ مدعو لمراقبة هذه المناعة وتصحيح المسار القضائي،
 
فلا يبقى غائباً ومسايراً وغاضّاً النظر عن مخالفات وارتكابات. فواجبات التفتيش ملاحقة المرتكبين ومحاكمتهم ولو من دون شكوى. وعند التثبّت من مخالفاتهم إحالتهم أمام المجلس التأديبي حتى يتمّ فصلهم من السلك، وليس الاكتفاء بالطلب إليهم تقديم استقالاتهم فيقبضون تعويضاتهم بأموال تضاف إلى الأموال المجناة من دون حق.
 
ويقتضي بطبيعة الحال تأمين المستلزمات الضروريّة لعمل القضاة فلا يجلسون من دون تدفئة أيام الشتاء، ومن دون تبريد أيام الصيف، ومن دون قرطاسية أيام السنة كافة.
 
وكيلا يقال إن الاعتمادات غير متوفّرة لهكذا أعمال، ينبغي إنشاء صندوق خاصّ بتجهيزات قصور العدل، يُموَّل بطابع ماليّ، يتمّ إقراره بقانون خاص، ويلصق على الدعاوى واللوائح والمذكرات كافّة، فيتمّ الصرف منه مباشرة من دون الوقوع في الروتين الإداري المعطّل،
 
كذلك ينبغي وضع حدّ لتسلط النيابات العامة، وضبط مداخلاتها، فيتم الاتصال بها من قبل المخافر بمخابرات مسجّلة، وتتريث في اتخاذ قرارات التوقيف الاحتياطي إلا عند الضرورات القصوى.
 
وينبغي أيضاً حلّ المحاكم الاستثنائية لا سيّما العسكرية منها. وقد قال فيها جورج كليمنصو: "إن القضاء العسكري هو بالنسبة إلى القضاء كالموسيقى العسكرية بالنسبة إلى الموسيقى!!!".
 
« La justice militaire est à la justice ce que la musique militaire est à la musique »

وفي كل الأحوال، يقتضي تطبيق أحكام أصول المحاكمات المدنية لا سيما المادة 498 التي تلزم إصدار الأحكام في مهلة لا تتجاوز الستة أسابيع من اختتام المحاكمة، والمادة 723 التي توجب على محكمة التمييز البتّ بطلبات وقف التنفيذ خلال شهر واحد من تقديم طلب النقض.
 
أما بالنسبة إلى القضاء الإداري في مجلس شورى الدولة، فيتوجّب تركيزه على درجتي محاكمة تضمن حقوق المتقاضين بشكل أفضل، وإيلاؤه إلى دائرة تنفيذ مختصّة بتنفيذ الأحكام الصادرة عنه كيلا تبقى حبراً على ورق، وترقد في أدراج الإدارات،
 
وبعبارة أخيرة: يمكن الجزم بأنه حان الوقت لقيام نهضة قضائية واعية وواعدة،
 
فالأكيد أنه لا يُمكن أن تستقيم الأمور إلا بوجود قضاء مقتدر ونزيه، يؤمّن العدالة للجميع، فلا يستقوي على الضعيف، ولا يخاف من القوي. فإنّ العدل هو أساس الملك. وأملنا كبير في الوصول إلى اليوم الذي نعود ونتباهى فيه بمؤسسة قضائيّة صلبة ومتماسكة، تُعيد لبنان إلى خريطة الدول الراقية والمتطوّرة.
 
 
*ديان آصاف هي شريكة في مكتب آصاف للمحاماة. 
حائزة على ماسترز بقانون الإعلام من جامعة Paris 2-Panthéon-Assas 
وعلى إجازة حقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت
 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم