الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

ما بعد الكلام وبعد الملامة – الأبوكاليبس

تعبيرية (تصوير نبيل اسماعيل).
تعبيرية (تصوير نبيل اسماعيل).
A+ A-
 
ريما لبان
تعجّ شاشات التلفزيون في لبنان ببرامج الـ"توك شو"، تسبر أغوار الفساد والانتهاك والظلم والألم والحرمان والفجيعة. يصبّ مقدِّمو هذه البرامج جام غضبهم على الدولة الغائبة، الغاشمة، الفاشلة، ويصوِّبون سهامهم على الحكّام الفاسدين، المتواطئين، المتورطين، مؤيَّدين بالأدلّة والوثائق والشهادات العدل والمجروحة والشهود أصحاب الحقّ المجروحين.
وتضجّ الشوارع والساحات بالهتافات واللافتات والمتظاهرين الملوَّعين، الهاتفين لوعتهم وفاقتهم وفراق أحبّتهم، المطالبين برفع الظلم وإحقاق الحق ودعم الرغيف.
من وحي العجيج والضجيج نفسيهما، عجّت صالات اللهو الليليّة ليلة رأس السنة وضجّت تحت شعار نريد أن نحيا ونرقص، متحدّيةً كورونا والرابع من آب والانهيار الاقتصادي وارتفاع  سعر الدولار والموت بكل أشكاله.
يسمّون هذه الظاهرة: اللبناني يحبّ الحياة. فتوى طائر الفينيق هذه، تبريراً للفجور، لا يد للدولة الفاسدة فيها. أن يكون نصف الشعب جائعاً ومئات العائلات في حداد، ويصرّ اللبناني الذي ليس جائعاً ولا في حالة حداد، على السهر والرقص في ليلة رأس السنة على وقع كورونا وعلى الجماجم، فهذا أمر جلل لا علاقة له بحب الحياة ولا بطائر الفينيق ولا بفينيقيا، لا من قريب ولا من بعيد.
ما ورث هؤلاء من الفينيقيين الحرف. عزفوا عن الحروف وشقّوا عباب التجارة: قطعة أرض للبيع، فيلا للبيع، وعود للبيع، معلومات للبيع، أسرار للبيع، أعراض للبيع، كرامات للبيع، شهادات للبيع، شهود للبيع،  نيترات للبيع، تراث بيروت للبيع، جمعيات خيرية للبيع، مروج شقائق النعمان للبيع، بساتين الزيتون للبيع، جبال السنديان للبيع، لبنان برمّته للبيع، دولار للبيع... بزنس وبيع وهرج ومرج وشطارة اللبناني... سدوم وعمورة والضربات العشر.
وطنٌ معرضٌ للوحات سوريالية متجاورة، تيماتها متنافرة. لوحات ملوّنة ولوحات رمادية لثكالى، لأرامل، لأيتام، لمشرّدين، لمنكسرين، لجائعين، للاجئين، لوجوه شاحبة، لوجوه منتفخة، لأسنان بيضاء مرصوفة، لأنوف إغريقية شمّاء، لشعور آسيوية تلمع كالمرايا، لشفاه منفوخة على شفير الانفجار، لسيارات رباعية الدفع، لعصابات إرهابية، لجبال صنوبر، لجبال نفايات، لباحثين عن قوتهم في هذه الجبال أو تلك، لسهرات ليالي رأس السنة. مسوخ وأضغاث أحلام، تحاكي بعض لوحات بيكاسو. كابوس لا أثر لخيط أبيض يبدّده. هؤلاء يزعمون أنّ هذا كله سببه الدولة الفاسدة.
لا يا سادة ، ليس هذا من مفاعيل فساد الدول فقط، فكما تكونون يُولّى عليكم. لم يكن الرابع من آب هو الأبوكاليبس بل ليلة رأس السنة. عنيت بالأبوكاليبس الانقشاع الذي يجلي الحقائق. اسمعوا جيداً يا سادة! أنتم أيضاً فاسدون وفاسقون وسارقون ومارقون. أنتم أيضاً مسؤولون عمّا حلّ بكم وبلنانكم الكذبة. كفاكم مراءاة ومواربة. أنتم أدمنتم المجون! 
من أجل نزوة، من أجل نشوة، لإشباع غرائزكم البدائية، لإرضاء أنواتكم المتضخِّمة المريضة، تجازفون بأي شيء وتتاجرون بأي شيء وتدفعون أي ثمن ومهما كان الثمن، ضاربين بحزن الآخرين وحداد الآخرين وحياة الآخرين عرض الحائط.
لبنانكم هذا لن نشتاق إليه بعد اليوم. أسطورة المنقوشة والتبّولة والعبقرية ونوستالجيا الكَيْف والضيافة والقرى لن تنفعكم بعد اليوم ولن نحلم بها. ما هكذا تُبنى الأوطان ولا هكذا تعمر وتتقدم وتزدهر ويدوم مجدها. مجدكم مجدٌ عابرٌ غابرٌ استهلاكيٌّ مستهلكٌ وما زلتم ترقصون واثقين أنكم مميّزون!
مشهد هيجانكم مضحكٌ مُبكٍ رخيصٌ وأنتم فخورون. أنظروا من حولكم وأوقفوا هذه الثرثرة! توقفوا عن سبر أغوار الأحداث والسياسة والدولة والإقليم والعالم والكون والعدوّ والانتداب والعولمة والتطبيع وجولات ماكرون ونفط العراق وطريق الصين والنووي الإيراني وإعادة إعمار سوريا وحرب بايدن وترامب وتداعياتها وآخر اختراع وآخر تطبيق وآخر لقاح وآخر موضة وآخر سوشي وآخر ريجيم كيتو وآخر جرّاح تجميل وآخر سيارة كهربائية صُنعت في لبنان الذي بلا كهرباء... وآخر الناس صرنا!
توقفوا! واسبروا أغوار نفوسكم. نفوسكم المريضة بالخوف والجشع والجهل والتعصّب والبغضاء والخيانة والتبعية والاستزلام والأنانية والعنجهية والغرور وحب الظهور والدولار قوت القلوب وسدرة المنتهى!
انظروا إلى الداخل. من هنا يبدأ الإصلاح والتغيير وإيّاكم ثم إيّاكم أن تقولوا ما قدرنا وما خلّونا!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم