السبت - 27 تموز 2024
close menu

إعلان

رسم خطوط التّجارة العالميّة يحدّد الأوزان والتّحالفات الدّوليّة

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
رائد المصري*
 
تسير المنطقة بخطى متدرِّجة في اتجاه حروب أكبر، فما أفرزته حرب غزة، قلب كلّ الموازين ووضع الشرق الأوسط في مكان آخر، بعد أن حصدت آلة القتل الإسرائيلية عشرات الآلاف من المدنيين، في صورة لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلاً لها، وهذا يتطلب بدوره اعتماد مناهج مقاربات مختلفة في علم السياسة والاقتصاد، لإنهاء منطقين سائدين ومتكاملين في الصراع الدائر في المنطقة وحول العالم، وهو نهج العدوانية الإسرائيلي الدائم، ونهج البراغماتية والانتهازية المعتمد من واشنطن وطهران.
 
فحرب غزة، أفرزت حقائق ومواقف جديدة وفتحت شهية البعض على المستوى الإقليمي، فبرز الدور الإيراني أكثر، طامحاً للسيطرة على مفاصل الإقليم، والتحكم في الممرات المائية الدولية في مضيق هرمز وباب المندب، مروراً بحشد كبير من التنظيمات العسكرية المؤيدة لسياسة طهران والدائرة في فلكها، وتحالف مستمرّ مع نظام الحكم في سوريا، واستهداف للواقع الجغرافي بين غرب آسيا وشمال أفريقيا ولما يمثله البحر الأحمر، من مركز اهتمام وبؤرة للصراع الدولي، والذي استجد اليوم بين إيران ومحيطها الإقليمي بصورة أوضح، وكأنّه سيناريو محضَّر سلفاً، فلم تكَد الأنباء تتوارد بنقل خبر خروج حاملة الطائرات الأميركية من البحر المتوسط، حتّى جاءَ خبر دخول إيران البحر الأحمر، وهذا معناه أنّ ما يجري هُناك لا يقلّ خطورة عمّا يحصل على المتوسط.
 
انقلب المشهد في الصراع الإقليمي الدائر، وفي إعادة تركيب "بازل" الشرق الأوسط، لن تتوضح الرؤية قبل جلاء صور لمعاركَ كثيرة. صراع بدأ على رسم خطوط التجارة العالمية، وانتهى بتداخل خطوط النار وخطوط الملاحة البحرية والممرات المائية، وليست مصادفة أن تفتح إيران المواجهة مع الغرب في البحر الأحمر، بسبب تراكمات سابقة رصدتها طهران عن كثب.
 
فقد رسمت الصين خطوط التجارة الدولية بمشروعها المعروف "الحزام والطريق"، وضخّت استثمارات بمئات مليارات الدولارات في عشرات الدول النامية، وكانت السعودية واحدة من أهمّها، بفضل موقعها الجغرافي ووزنها الاقتصادي في التسييل المالي، ودورها المركزي في إمدادات الطاقة و"أوبك بلاس" وسلاسل التوريد، وهي أكبر شريك تجاري للصين.
 
وجاء الردّ الأميركي بإطلاق مشروع منافس تحت اسم "خطّة الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار". وليعلن عن خطّة الممرّ الاقتصادي من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات والسعودية وإسرائيل، في إطار مشروع متجدّد للشرق الأوسط، تختلط فيه الشراكة الاقتصادية بسياسة التطبيع لتأمين إستقرار دائم، لكنّ اللافت في المشروعَين، أنّ السعودية تتمتّع كذلك بالدور المركزي في هذا الممرّ البديل.
 
هذا المشروع الأميركي الكبير مع دور الموانئ الإماراتية، أعطى مِيزة وحجماً كبيراً في موازين الإقليم، ولذلك خشيت إيران من مركزية الدور السعودي والإماراتي في خطوط التجارة الدولية، رغم وقوعها على خريطة طريق الحرير البرّي الصيني لكنّه دون فاعلية، كون تتحكم به عوائق أمنيّة في بعض دوله التي لم تشهد الاستقرار السياسي والأمنيّ لفترات طويلة. ولذلك تحسَّبت لأجل الحفاظ على وزنها الاستراتيجي مستقبلاً، بعد أن صارت خطوط التجارة هي المحدّد الرئيس للأوزان في العلاقات والتحالفات الدولية. وبعدما شعرت بالتحوّل في موقف إدارة بايدن من السعودية، وتقرّبه لكسب الودّ من الرياض.
 
لذلك نفهم معنى أن تفتح إيران المواجهة مع الغرب في البحر الأحمر، من دون أنّ إغفال أهمية نصرة شعب غزة استراتيجياً، فهي معركة بالأصل لها تداعيات إقليمية كبيرة تتعلّق بأحجام وبأوزان القوى وهي في طور وضع أوزارها، بعد أن أثار مشروع الممرّ الهنديّ _ الأوروبيّ_ الأميركيّ بالذات قلق طهران، التي كانت تعوّل على تعزيز علاقتها بالهند لكنّها فشلت، وابتعدت عنها استراتيجياً، لتنخرط في مشروع دوليّ كبير مع السعودية والإمارات. والهند ترتبط أصلاً بعلاقات وثيقة مع إسرائيل، ولذلك خشيت من التقارب الهنديّ مع إسرائيل في خطوط التجارة وإمدادات الطاقة الممتدّ إلى أوروبا، بدعم أميركيّ.
 
هنا يُفهم أيضاً ردّ الفعل الأميركيّ في عملية "حارس الازدهار" في البحر الأحمر، من دون المواجهة العسكرية المباشرة، فهو تحرّك لقلب المعادلات وفرز الأحجام، وتعزيز أوراق التفاوض، كما أنّ الأميركيين لم يشكّلوا القوّة البحرية للذهاب إلى حرب مفتوحة في الإقليم، لكن تبقى الخشية أن تسير طهران على نهج كوريا الشمالية، في تراكم القوة العسكرية التي لا يمكن صرفها، وعزلة اقتصادية، ويعيش شعبها الفقر، وتزداد الفجوة في مستوى التنمية مع جوارها المزدهر.
 
معطيات لا تغيب عن التفكير الإيرانيّ وطموحاته، ولا عن رؤية وطموحات واشنطن ومحاولاتها السيطرة على الممرات المائية الدولية، والإمساك بلجام التمدّد الاقتصادي التجاري الصيني، فالأحداث الأخيرة في فلسطين وغزّة تحديداً، صارت كاشفة بوضوح لأدوار الدول في المنطقة.
 
فالتضامن مع الشعب الفلسطيني أمر مطلوب، وحرب غزّة أفرزت مواقف جديدة، والتباين الأميركيّ – الإسرائيليّ المفضوح المتعلّق بدور طهران، سببه ممارسة واشنطن تساهلاً مكشوفاً معه، بدليل إمعان حلفاء طهران في مشاغلة تل أبيب وأميركا، فأرادت الإدارة الأميركية توظيفه لتطويع السقوف العالية لليمين الحاكم الإسرائيلي المتطرّف. وتستدلّ أوساط ديبلوماسية على إرادة واشنطن توظيف التصعيد الإيراني، عبر الحوثيين في البحر الأحمر أيضاً، مع دول الخليج العربي، فتهديد الملاحة البحرية يطال أمن هذه الدول، وحاجتها للحماية الأميركية من وجهة نظر صُنّاع القرار في البيت الأبيض، رغم التقارب السعوديّ الإيرانيّ، فواشنطن تريد ضبط أيّ تضامن أو نصرة مع الفلسطينيين لكن ضمن حدود مصالحها، ودون تغيير في موازين القوى، ودون مسّ بتفوّق تل أبيب، وتلك ثوابت صار من الصعب على الإدارة الأميركية تحصيلها كلها، في ظلّ انكشاف واضح لسياساتها في المنطقة، إذ أنّ مسيَّرة واحدة متواضعة الكلفة، يطلقها الحوثيّ في البحر الأحمر على ناقلة تجاريّة، تكفي لتعطيل حركة الملاحة الدوليّة .
 
*صحافي وأستاذ محاضر في الفكر السياسيّ والعلاقات الدوليّة
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم