السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الجريمة الرقمية كيف نكافحها؟

تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
البروفسورة وديعة الأميوني
 
تأخذ الجريمة الرقمية حيّزاً مهماً في اطار الإشكاليات المعاصرة لجهة تهديدها الفعلي للأمن القومي والاجتماعي بعد تنامي استخدام التكنولوجيا الحديثة والشبكة العنكبوتية، وتمكين تلك الوسائل من مسح آثار المجرم الرقمي بشكلٍ سهل وبِحِرفية تقنية في أغلب الأحيان.
 
يُطلَق على المجرم الرقمي إسم المخترق Hacker، وهو الذي يمارس جريمته السيبرانيّة من خلال أجهزة الكومبيوتر بهدف القرصنة والتصيّد الإحتيالي والإضرار بالأشخاص أو الشركات، وبالتالي الوصول الى معلومات شخصية أو تجارية يتمّ بيعها واستثمارها من خلال التهديد وقبول الرشوة.
 
لا يوجد تعريف عام لمفهوم الجريمة الرقمية نظراً لحداثة هذه الظاهرة الإجتماعية بعد تطوّر وسائل الإتّصال، حيث يتمّ استخدام مصطلحات الجريمة الإلكترونية والإفتراضية والحاسوب، بهدف وصف تلك الجريمة التي تُرتَكَب من خلال أي نوع من المعدّات الرقمية والتقنية والشبكات.
 
تَبين الجرائم الرقمية/الإلكترونية/الإفتراضية على شاكلة سرقة البيانات والملفّات والصور وإبراز الضرر في أنظمة التشغيل الالكترونية والأجهزة الحاسوبية الموصولة على الإنترنت، واختلاس الحسابات المصرفية والمالية عبر الشبكة، ناهيك عن مكالمات "التصيّد الاحتيالي الصوتي" الذي انتشر في الآونة الأخيرة بهدف توريط المتلقّي في إجراء تحويلات مالية، اضافة الى الإبتزاز والنمطيّة على صفحات التواصل الإجتماعي وتطبيقات الدردشة، وتشجيع الإرهاب والقتل وتجارة المخدرات والاسلحة ومختلف الأفعال الجرمية. كلّ ذلك بفعل تطوّر الخدمات الشبكيّة وثورة التكنولوجيا التي أفرزت نوعاً جديداً من المعاملات الإلكترونية في بيئة افتراضيةٍ دخيلة، أحدثَتْ خَضَّةً على المستوى الإقتصادي والإجتماعي والثقافي، ولَفَتت نحوها الكثير من الدراسات والأبحاث لأجل إظهار مفاعيلها واستخدامها بشكل صحيح ومفيد.
 
تزداد الجرائم الرقمية تعقيداً في الآونة الاخيرة في لبنان مع تطوّر وانتشار الأدوات التي تُستخدم لتنفيذها، وقد يؤدي انتشارها ورواجها السريع والمتنامي الى تفاقم المشكلات التي تصل الى تهديد الأمن القومي، وخصوصًا انّها في معظمها تطال البُعد الإجتماعي، فالتشهير والتحرّش ونشر الأخبار الكاذبة والنمطيّة واثارة النعرات الطائفية والسياسية وترويج الشائعات الهادفة من طريق الرسائل النصيّة أو الصوتية، قد تؤدي الى استخدام العنف وزعزعة الثقة وتفكيك أواصر العلاقات بين الأفراد والجماعات.
 
وعليه، نقول انّ الجريمة الرقمية هي إحدى السلوكيات والأفعال الخارجة عن القانون، ونوع من المخالفات التي تُرتَكب ضد الأفراد والمجموعات والشركات بهدف الأذيّة وإلحاق الضرر المادي أو المعنوي من خلال استخدام شبكات إتصال الإنترنت، وهي تهدّد أمن وسلامة المواطنين، وتزيد مظاهرها في بلداننا العربية على مستوى الإباحيّة والتحرّش بالأطفال والقاصرين وانتهاك خصوصيّة الآخرين وتبييض الأموال ولعب الميسر الإفتراضي وتجارة المخدرات. ولعلَّ الإقبال على العُملات الرقمية المشفرة في الآونة الأخيرة ايضاً، يحمل في طيّاته فعلاً جرمياً عندما يلجأُ البعض الى غسيل أموالهم غير الشرعية وممارسة التجارة غير القانونية لبعض السلع مثل الأسلحة والمخدرات، إضافة الى تمويل الجماعات الإرهابيّة.
 
وقد يحصل ان تتّسع لتشمل الدول التي تعمل على التجسُّس الإلكتروني والسرقة المالية العابرة للحدود، لتدخل ضمن إطار "الحرب الإلكترونية"، التي يحاول القانون الدولي فيها تحميل الفاعلين المسؤولية ومعاقبتهم من خلال المحكمة الجنائية الدولية.
 
باختصار، نقول إنَّ الجريمة الرقمية هي فعل سلبي يتسبَّب بضررٍ كبير للأفراد والجماعات والمؤسسات، من خلال ابتزاز الضحية على الشبكة العنكبوتية بهدف تحقيق مكاسب مادية أو خدمةً لأهداف سياسية. ويحصل أن تتم سرقة واستخدام المعلومات من أجل التسبّب بأذى نفسيّ وماديّ، أو إفشاء أسرار أمنية عامة تخصّ مؤسسات الدولة أو بيانات وحسابات خاصّة بالبنوك والأشخاص. تتشابه الجريمة الإلكترونية مع الجريمة العاديّة/ التقليدية في عناصرها من حيث توافر "الجاني" والضحية والفعل الجرمي، لكنها تختلف عنها باختلاف البيئة والوسائل المستخدمة، فالجريمة الرقمية مسرحها فضائي والمجرم يكون بعيداً عن مكان الحدث، والوسيلة المستخدمة هي التكنولوجيا ووسائل الإتّصال الحديثة والشبكات المعلوماتية.
 
الجريمة الرقمية والجريمة الواقعية
تتمثّل الجريمة الرقمّية في كل فعل وسلوك غير مشروعين على أجهزة الحاسبات المتصلة بالشبكة العنكبوتية، بهدف الحصول على المعلومات وتحقيق مكاسب بطريق غير قانونية.
 
تتشابه الجريمة الرقميّة مع الجريمة الواقعيّة/التقليديّة من حيث وجود طرفي الجرم (مجرم وضحيّة) ودافع الارتكاب، لكن تتضح أوجه الاختلاف بينهما من ناحية الأداة المستخدمة، حيث يستخدم المجرم الرقمي تقنية عالية تسمح له بالقيام بفعلته بعيداً عن ساحة الجريمة التي تتم بكل عناصرها عن بُعد وعبر خطوط وشبكات الاتصال بين الجاني والمجنى عليه.
 
يقع الاعتداء في الجرائم الرقمية على الكيانات والمعلومات الافتراضيّة ذات القيمة الماديّة أو المعنويّة او الاستراتيجيّة الكبرى، وتتميّز بذلك عن الجرائم العاديّة التي تقع في غالبيتها كردّ فعل عصبي بعيداّ عن ايّ اعتبارات وتخضع للقانون الجنائي المباشر. يكون المجرم الافتراضي متخصصاً ومحترفاً وله قدرات فائقة في المهارة التقنية، يستغلّها في اختراق الشبكات وكسر كلمات المرور أو الشفرات، لمرات عديدة قد لا تُحصى اذا لم يتمّ كشفه.
 
تتنوّع الجرائم الرقميّة ويصعب حصرها، على خلاف الجرائم الواقعيّة التي تتمثّل في استخدام العنف والقتل الجسدي بأداة حادّة او سلاح حربي، وفي التجارة ومختلف الاعمال غير القانونية والشرعية والتعدّي عنفيّاً على حقوق وحرّيات الآخرين وغيره. تزداد الجريمة الافتراضية بشكل مضطرد مع توسّع استخدام الحواسيب الآليّة والهواتف النقّالة المرتبطة بالشبكة العنكبوتية، وتتحدد بسرقة المعلومات المهمة، العسكريّة والماليّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وزرع الفيروسات لتدمير قواعد البيانات وأجهزة الكومبيوتر والتهكير وانتهاك الحرية الشخصية للأفراد والمؤسسات وسرقة أرقام بطاقات الائتمان لاستخدامها في شراء المنتجات او كلمات المرور الخاصة ومواقع محددة وغيرها الكثير من الأفعال التي نعددها كالآتي :
 
1- التنصت على ما كل ما يرسل إلى الغير أو التقاطه أو اعتراضه.
 
2- - الدخول غير المشروع على حسابات الآخرين وانتهاك خصوصية الأفراد وسرقة بياناتهم الخاصة بقصد التصرف فيها، سواء أكان من طريق إيقافها عن العمل أو بتعطيلها أو حذفها أو تدميرها أو تسريبها أو إتلافها أو تغييرها أو إعادة نشرها.
 
3- الاتجار بالجنس البشري وترويج المواد الإباحية والمخدرات والترويج لأفكار منظمات إرهابيّة.
 
4- المس ببيانات تؤثّر على الأمن الداخلي والخارجي والاقتصاد الوطني.
 
5- إنتاج ما يمس بالنظام العام والقيم الدينية والآداب العامة وحرمة الحياة الخاصة.
 
يختلف المجرم الرقمي عن نظيره التقليدي لجهة الزامية براعته في استخدام التقنيّات المعلوماتيّة الحديثة. تنوّعت الدراسات حول استكشاف شخصيّته وحالته النفسيّة ودوافعه الاساسيّة لأجل رسم نموذج وسمات مشتركة. نتلو هنا خصائص عامة بعد ملاحظتنا الميدانية، يمكن الاستناد اليها في تحديد المكوّنات المهاراتيّة للمجرم الرقمي، كالآتي:
 
1- التخصّص: يتميّز بالتخصّص وبقدرة فائقة في المعرفة التقنية ويستغل مداركه ومهاراته في اختراق الاجهزة عبر الشبكات وكسر كلمات المرور والتهكير وغيره,
2- الذكاء: يمتلك المجرم الرقمي قدرة ذكاء عالية ومهارات تؤهله للقيام بتعديل وتطوير الأنظمة الأمنيّة لكي يمنع ملاحقته وتتبّع أعماله الإجرامية من خلال الشبكات أو داخل أجهزة الحواسيب.
 
3- تكرار الجرم: يتميّز المجرم المعلوماتي بتكرار جرمه لمئات المرّات احياناً على خلاف المجرم التقليدي الذي ينكشف جرمه بطريقة اسهل، وهو يوظّف مهاراته في كيفيّة عمل الحواسيب وتخزين البيانات والمعلومات والتحكّم في أنظمة الشبكات في الدخول غير المصرّح به لمرات عديدة.
 
4- الاحتراف مقابل المال: يوظّف مهاراته في التهكير والاختراق والسرقة والنصب والاعتداء على الحقوق الملكية للآخرين مقابل المال.
 
نستخلص انّ المجرم الرقمي يتميّز بالمهارات الكبيرة ويعتمد فعله الإجرامي على الذكاء بعيداً من استخدام القوة والعنف على غرار الجرائم الواقعية /التقليدية. فالقدرات الذهنيّة تبقى الاساس لأجل اكتشاف الثغر واختراق البرامج المحّصنة في العالم الافتراضي. تُظهر الدراسات انّ أعمار تلك الفئة من المجرمين ما بين 18-45 عاماً، ويتميزون بالإلمام الكامل والقدرة الفنيّة الهائلة في مجال نظم المعلومات، وينتمون إلى طبقة المتعلمين والمثقفين ومن لديهم تخصّصية التعامل مع أجهزة الحاسب الآلي والقدرة على اختراق التحصينات والدفاعات التي تعدّها شركات البرمجة .كما ان المجرم الرقمي يتميّز بالثقة الزائدة بالنفس والإحساس بإمكان ارتكاب الجريمة دون افتضاح أمره، ويكون لديه إلمام تام بمسرح الجريمة الافتراضي وبأدواته، بما يجنّبه فجائية المواقف التي قد تؤدي إلى إفشال مخطّطه وفضح جريمته.
 
قد يهدف المجرم الرقمي إلى تحقيق مكاسب ماديّة أو الى إثبات مهارته الفنية وقدرته على اختراق أجهزة الحاسب، وقد يرتكب جرمه بهدف التسلية أو الترفيه أو الرغبة في الإضرار بأشخاص أساؤوا إليه، على غرار الموظف الذي يتم فصله ويلجأ إلى الانتقام من المؤسسة التي كان يعمل لديها.
 
أنواع الجرائم الالكترونيّة
اولاً: جرائم تستهدف الأفراد من أجل الحصول على معلومات مهمة تخصّ حساباتهم الافتراضّية، وتتمثل في ما يأتي:
 
• انتحال الشخصيّة: وفيها يستدرج المجرم الضحيّة ويستخلص المعلومات بطرق غير مباشرة، ويستهدف المعطيات الخاصة من أجل الإفادة منها واستغلالها لتحقيق مكاسب مادية والتشهير بسمعة الفرد واغتياله معنويّاً، وإفساد علاقاته الإجتماعية والمهنيّة.
 
• تهديد الأفراد: يصل المجرم من خلال القرصنة والسرقة الالكترونية إلى معلومات شخصيّة وحميمة للضحية، فيبتزه من أجل كسب الأموال او تحريضه للقيام بأفعال غير مشروعة او اخلاقيّة.
 
• تشويه السمعة: يستخدم المجرم المعلومات ويضيف عليها بشكل مغلوط (مثل تركيب الصور على برنامج الفوتوشوب)، ثم يرسلها عبر الوسائط الإجتماعية أو عبر البريد الإلكتروني للعديد من الأفراد بغرض تشويه سمعة الضحية وتدميره نفسياً ومعنويّاً.
 
• تحريض على أعمال غير مشروعة: يستخدم المجرم المعلومات المسروقة ويستغلها في ابتزاز الضحايا واجبارهم على القيام بأعمال غير مشروعة تتعلق بالدعارة وتجارة المخدرات وغسيل الأموال والعديد من الجرائم الأخرى.
 
ثانياً: جرائم تستهدف المؤسسات من خلال اختراق أنظمتها، ونفصّل مفاعيلها في النقاط الآتية:
 
• تتسبب الجرائم الإلكترونية بخسائر كبيرة للمؤسسات والشركات، حيث يخترق المجرم أنظمة الشبكات الخاصة بها ويحصل على معلومات قيّمة وخاصة بأنظمتها، فيستخدمها في سرقة الأموال وتدمير أنظمة الشركة الداعمة في عملية الإدارة، الامر الذي يؤدي الى خسائر جسيمة لها.
 
• تؤدي سرقة المعلومات الخاصة بموظفي المؤسسات الى تحريضهم وابتزازهم في تدمير الأنظمة الداخلية للشركات.
 
• تثبيت أجهزة التجسس على حسابات وأنظمة الشركات والسعي لاختراقها والسيطرة عليها لتحقيق مكاسب ماديّة وسياسيّة.
 
• تؤثر الجرائم الإلكترونية الخاصة باختراق الشبكات والحسابات والأنظمة بشكل سلبي على حالة الإقتصاد في البلاد، كما تتسبب في العديد من المشاكل التي تتعلق بتهديد الأمن القومي إذا لم تتم المكافحة. وتمثل نسبة الجرائم الإلكترونية والجرائم المعلوماتية حول العالم 170%، وتزداد النسبة بشكل متسارع مما يجعلنا جميعاً في خطر محدق بسبب الإنتهاكات واختراق الأنظمة والحسابات.
 
• يخدم اختراق المواقع الإلكترونية والسيطرة عليها مصالح كيانات خطيرة تهدف لزعزعة الأمن القومي والاجتماعي والسيطرة على عقول الشباب وتحريضهم للقيام بأعمال غير مشروعة.
 
• تُستخدم الفيروسات الإلكترونية لأجل تدمير النُظم وتسبب الفوضى والتدمير والعديد من الخسائر المرتبطة بالملفات المهمة في إدارة وتنظيم الشركات والمؤسسات.
 
• كذلك تدمير الخادم الرئيسي الذي يستعمله جميع العاملين في المؤسسة، ويتم ذلك من خلال اختراق حسابات الموظفين الخاصة بالشبكة المعلوماتية للمؤسسة والدخول على الحسابات جميعاً في الوقت ذاته، ويتسبب ذلك في عطل تام للخادم مما يؤدي إلى تدميره وبالتالي تعطيل أعمال الشركة والمؤسسة.
 
ثالثا: جرائم تستهدف سرقة الأموال، ونوضحها كالآتي:
 
• الإستيلاء على حسابات البنوك ومؤسسات الدولة وغيرها من المؤسسات الخاصة واختراقها. كما تتم أيضاً سرقة البطاقات الإئتمانية ومحتواها النقدي.
• انتهاك حقوق الملكية الفكريّة والأدبيّة، وهي صناعة نسخ غير أصليّة من البرامج وملفات المالتيميديا ونشرها من خلال الإنترنت، الامر الذي تتمخّض عنه خسائر فادحة في مؤسسات صناعة البرامج والصوتيات.
 
رابعاً: جرائم تستهدف أمن الدول، ونحددها كالآتي:
 
• برامج التجسس:
تنتشر العديد من برامج التجسس المستخدمة لأسباب سياسيّة تهدد أمن وسلامة الدولة، ويزرع المجرم برنامج التجسس داخل الأنظمة الإلكترونية للمؤسسات ويهدم أنظمة النظام ويطلع على مخططات عسكريّة تخص أمن البلاد، لذلك تعتبر من أخطر الجرائم المعلوماتيّة
 
• استخدام المنظّمات الإرهابيّة لأسلوب التضليل:
يعتمد الإرهابيّون على استخدام وسائل الإتصال الحديثة وشبكة الإنترنت من أجل بثّ ونشر معلومات مغلوطة قد تؤدي الى زعزعة الإستقرار وإحداث الفوضى من أجل تنفيذ مصالح سياسيّة ومخططات إرهابيّة، وتضليل عقول الشباب من أجل الإنتفاع بمصالحهم.
 
خصائص الجريمة الرقميّة وأسبابها
تتّسم الجرائم الرقميّة بسهولة الوقوع ضحيّتها في ظلّ غياب الرقابة الأمنيّة والتقنيّة العالية وسعة انتشار شبكة الانترنت عالمياً، ويبقى الجرم الرقمي غير مألوف ومقبول أخلاقياً واجتماعيّاً رغم عدم استخدام العنف الظاهر او المباشر.
لا تتقيّد الجريمة الرقميّة بزمان ومكان معيّنين، إذ تمتاز بالتباعد الجغرافيّ وتنفيذها من وراء الشاشات المتّصلة بالشبكة العنكبوتيّة التي يمكن استخدامها حينما كان. ويسهل إخفاء آثارها والأدلة التي ترتبط بالجاني نظراً لتشفير الرموز المخزّنة على الوسائط الممغنطة.
أما أسباب الجريمة الرقمية فتنحصر باعتبارات اجتماعية وشخصية على السواء، وتتنوّع وفق المستهدف والجاني، وهي كالآتي:
1- المسببات الفرديّة:
 
- البحث عن التقدير
يرتكب بعض الافراد الجرائم الرقمية بهدف تحدّي الذات والآخرين، وحبّ الظهور ولفت الانتباه والانظار.
 
- الفرصة
وفّرت التقنيات الحديثة والأنترنت فرصاً غير مسبوقة لانتشار الجريمة الرقميّة، وتلعب البيئة وترتيباتها دوراً كبيراً في إنتاجها والخروج عن القواعد والقيم الاخلاقيّة والاجتماعيّة، الامر الذي ساهم في ارتكابها ونموّها كفرص مربحة وقليلة المخاطر بعيداً من احتمالية كشف الفاعلين الاّ بنسب ضئيلة جداً.
 
- ضبط الذات المنخفض
تنطلق هذه السمة من النظرية العامة في السلوك الطائش وتؤكد احتمال انخراط الأفراد في فعل اجراميّ عندما تسنح الفرصة بعيداً عن الضبط الذاتي. السلوك الطائش فعل يقوم على القوّة والخداع لتحقيق الرغبات الذاتيّة. ويبقى الدافع الاساسي لارتكاب هذا السلوك المنحرف هو تحقيق مصالح الفرد الشخصية بسرعة وسهولة مثل الرشوة والسرقة وغيرها من الأعمال الإجراميّة التي تتحقق دون انتظار أو بذل جهد، وهذا ما يجده الافراد اليوم عبر التقنيات الحديثة فيلجأون اليها.
يظهر نقص ضبط الذات نتيجة التنشئة الاجتماعية الخاطئة حين يفشل الآباء في مراقبة سلوك الطفل وادمانه الآلات الالكترونية والشبكة العنكبوتية وملاحظة انحرافه مع عدم التنبيه والتوجيه والمعاقبة لأجل السيطرة والضبط. وقد يؤثر ضبط الذات المنخفض على أداء الأفراد في مراحل الحياة المختلفة والمؤسسات ايضاً مثل المدرسة والعمل والزواج ويؤدي الى فشلهم في الحياة الاجتماعية.
 
- النشاط الروتيني
يمكن تفسير زيادة ضحايا الجريمة الرقميّة من خلال التبدّلات الحاصلة على مستوى تمضية اوقات الفراغ وسيطرة ألانشطة الروتينيّة خاصة في حالة انتشار فيروس كورونا وفرض الحجر المنزلي، اضافة الى سعة انتشار شبكة الإنترنت وامكان الوصول اليها، الامر الذي ساعد المجرمين الرقميين على التهكير في الفضاء الافتراضي.
 
2- المسببات الاجتماعيّة:
 
- التحضّر
ساهمت الحياة الحضريّة في انتشار الجريمة الرقميّة من خلال ازدهار الاكتشافات التقنيّة من جهة، وزيادة متطلبات الحياة الاجتماعيّة من جهة أخرى، حيث تحوّلت الكماليّات الى حاجيّات اساسيّة وما فرضته من ضغوط اقتصاديّة، الامر الذي دفع بالبعض نحو ممارسة الجرائم الرقمية والاستثمار فيها بشكل سهل لقاء بدل مادي يساعدهم على تحمّل التكاليف الحياتيّة.
 
- البطالة
ترتبط مختلف أنواع الجرائم وفق الدراسات السوسيولوجية مباشرة بمظاهر البطالة والظروف الاقتصاديّة الصعبة، خاصّة على مستوى الفئات العمريّة الشابة التي تلجأ الى النشاط الاجرامي الرقمي المأجور.
 
- الضغوط العامة
تساهم الضغوط الاجتماعيّة على مستوى مختلف المتغيّرات الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والسكنيّة والصحيّة وغيرها في زيادة المشاعر السلبيّة عند شرائح مجتمعيّة كبيرة، وبالتالي ممارسة ردّ عكسيّ وعدائيّ، نخصّ منها هنا الإتجار الإلكتروني بالمخدّرات والسلاح والجنس وتجارة الاسلحة والتهكير وغيرها من الانشطة التي يمارسها المجرم الرقمي.
 
- البحث عن الثراء
يسعى الانسان إلى التطوّر وزيادة امكاناته المالية بطرق مشروعة اوغير قانونيّة ومقبولة احياناً، فيلجأ البعض الى المسائل غير المشروعة مثل الجرائم الرقمية التي تزيد رأس المال بطرق سهلة وسريعة وقليلة الخطورة.
 
أخيراً نقول إنّ هناك الكثير من الدول التي لم تطوّر تشريعاتها بهدف مجاراة التقدّم الحاصل في الحياة الرقمية والإلكترونية وأساليبها. وبقيت مؤسسات الامن والقضاء بعيدة عن جدّية التعامل مع هذه الآفة، الامر الذي سهّل انتشارها في ظلّ غياب التشريعات الجزائيّة والجنائيّة الدقيقة وضعف الممارسات العدليّة والقضائيّة في المحاكمة والتحقيق. ويبقى لبنان من الدول التي تتواضع فيها التقنيّات المتوافرة والطاقات الخبراتيّة لأجل متابعة ورصد وملاحقة ومحاكمة المجرمين الرقميين الذين تتوسّع انشطتهم احياناً الى خارج حدود الوطن.
 
مكافحة الجرائم الرقميّة
تمخّضت عن اختراع الشبكة العنكبوتية آثار ايجابية وسلبية على المستوى الانساني والاجتماعي، ولم يُطرح موضوع الحماية المعلوماتيّة والافتراضيّة في السنين الاولى لهذا الاختراع الذي أتى متخصصاً لأهداف اقتصاديّة واجتماعيّة حميدة، الى ان تمت الاساءة والاحتكار بعد استغلال العيوب الامنيّة في الأنظمة الالكترونيّة والقانونية للحماية من الجرائم الرقمية.
 
تبذل الحكومات على المستوى الدولي والوطني والمؤسساتي في الآونة الاخيرة جهوداً لأجل مكافحة الجرائم الرقميّة والحماية والحد منها بهدف تجنّب آثارها السلبية والخطيرة على المستوى القومي والاجتماعي، وذلك من خلال تطوير برامج الحماية الالكترونيّة المتخصّصة ذات الأمان العالي والمصمّمة لمتابعة المجرمين الرقميين ومحاربة الفيروسات والبرامج التي تخرق حسابات وتقنيات المستخدمين، اضافة الى استحداث القوانين والتشريعات والتشديد في العقوبات، وبالتالي ملاءمة التطورات التكنولوجيّة والتقنيّة بهدف استيعاب ما يُستحدث من أنواع جرميّة الكترونيّة.
 
من جهة أخرى، يجدر نشر التوعية في لبنان حول هذه الجرائم كسياسة اوّلية ومهمة لأجل مكافحتها، بهدف اطلاع المجتمع على أشكالها والوقاية منها والحد من انتشارها والتبليغ عنها، خاصة في ظلّ تأسيس مكتب مكافحة الجرائم الالكترونية في مؤسسة قوى الامن الداخلي. ويجدر أن يشتمل التبليغ على مظاهر الأنشطة المشبوهة وغير الموثوقة المصدر مثلًا، كذلك تجنّب منح البيانات الشخصيّة والحسّاسة لأي جهات غير رسمية او وهميّة او غير معروفة على المستوى الشخصي وذات ثقة متبادلة، والابتعاد عن استخدام البرامج غير القانونية او ذات النظام الامني المنخفض وغير الموثوق به، كما الحد من الأنشطة الإلكترونية غير الضرورية والحرص من فتح الرسائل والعناوين المجهولة المصدر والمشكوك في صدقيتها على تطبيقات الدردشة وصفحات التواصل الاجتماعي والبريد الالكتروني وصندوق الرسائل على رقم الهاتف الجوّال.
 
التوصيات:
استناداً الى ما ورد من معطيات وتحذيرات على مستوى الاستخدام السلبي للشبكة العنكبوتيّة ورواج الجريمة الرقمية في المجتمع المعاصر، نضع توصيات تحفيزية للجهات المعنيّة في لبنان بهدف السيطرة على هذه الآفة المستحدثة، ونعددها كالآتي:
 
- تشجيع المراكز البحثيّة على دراسة واقع الجرائم الرقميّة، وادخال مقرّرات حولها في مناهج التعليم المدرسي والجامعي ومجالات التخصص الفنّي والقانوني والاجتماعي والنفسي والاقتصادي، بهدف خفض آثارها السلبيّة الخطيرة على المستويات كافة.
 
- ضرورة إدخال مادة "أخلاقيات استخدام الانترنت" ضمن المناهج التعليمية في المدارس لأجل توعية جيل الشباب.
 
- تنمية قدرات الكوادر البشرية العاملة في مجالات مكافحة الجرائم المعلوماتية بهدف مواكبة الاستحداثات والتطورات التكنولوجيّة، ووضع استراتيجيّات وسياسات وإجراءات تنفيذيّة وجدّية على مستوى الدولة بهدف مواجهة هذه الجرائم، وبناء منظومة قانونيّة تساير تنزيل الأنظمة المعلوماتيّة المشروعة.
 
- تأهيل العنصر البشري والتحسيس بمخاطر الجرائم الرقمية من خلال نشر الوعي بين صفوف المواطنين حول أخطار التعامل مع الحسابات الوهمية والمواقع السيئة علي شبكة الإنترنت، والآثار النفسية والاجتماعية الناجمة عنها في حالة الابتزاز والانجراف غير الاخلاقي.
 
- ضرورة تجريم المتحرّش ومن يستغل الأطفال الكترونياً ويرغمهم على ممارسة افعال مخلّة بالآداب العامة، وتثقيف الآباء بشأن كيفية حماية أطفالهم من قنّاصي الإنترنت وتعزيز الحوار الودّي بين الاهل والاولاد.
 
- رفع مستوى الوعي والإدراك لدى الأطفال تجاه ما يمكن أن يصلهم من محتوى غير لائق، وتوعيتهم بأهمية عدم ذكر أي معلومات شخصيّة وارقام وعناوين سكنيّة.
 
- استحداث قوانين تعمل على تلف حسابات تنشر صوراً اباحية او مقاطع نصيّة تثير النعرات العنفية والتخريبية وتعمل على تهكير الحسابات.
 
- إتاحة الفرصة امام المواطنين للمشاركة في مكافحة الجرائم الرقمية، وذلك من خلال تأسيس خط ساخن يتلقى البلاغات المتعلقة بهذه الجرائم، لاسيّما الجرائم الأخلاقية والتهكيريّة.
 
- تحفيز مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالمعلوماتية على القيام بحملات توعية مكثّفة للتحذير من مخاطر شبكة الإنترنت والجرائم الرقمية والوقاية من الوقوع في الممارسات الخاطئة للسلوكيات والممارسات الضارة أخلاقياً عبر الشبكة.
 
- حث جامعة الدول العربية على إصدار قانون نموذجي موحّد لمكافحة الجرائم الرقميّة على مستوى البلدان العربية بهدف ضمان تحقيق الأمن المعلوماتي.
 
- تعزيز التعاون والتنسيق مع المؤسسات الدولية المعنية بمكافحة الجرائم المعلوماتية، وخصوصا الإنتربول. وفي هذا المقام من الممكن أن تنضم الدول العربية إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بمكافحة جرائم الانترنت وخاصة المعاهدة الدولية لمكافحة جرائم المعلوماتية والانترنت والعمل على دراسة ومتابعة المستجدات العالمية.
 
أمّا على المستوى الفردي، فنعطي توصيات مفيدة لأجل تفادي الوقوع ضحيّة للجرم الرقمي والحماية من الجرائم الإلكترونية، وفي ما يأتي بعض من الإجراءات:
 
- حماية بيانات المستخدم بكلمة مرور قويّة، سهل على المُستخدم تذكّرها ويصعب على الآخرين التنبّؤ بها.
 
- الحرص على عدم السماح للآخرين بفتح أي مواقع تم التسجيل بها باستخدام كلمة المرور السريّة دون وجود المستخدم الرئيسي أثناء فتح هذه المواقع.
 
- حفظ البيانات المهمّة على جهاز كومبيوتر غير مُتصل بالإنترنت.
 
- تجنّب تبادل الصور والاحاديث الحميمة من خلال تطبيقات الدردشة وصفحات ومواقع التواصل الالكترونيّة.
 
- حفظ نسخة من بيانات المستخدم على أقراص تخزين خارجية في حال سرقتها.
 
- عدم الدخول إلى المواقع الخطرة وغير الموثوق بها أو المواقع التي تتضمن محتوى غير لائق.
 
*أستاذة جامعية وباحثة اجتماعية
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم