السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

قمم جدّه... الصورة الشاملة والدلالات المستترة

المصدر: النهار
د. خالد محمد باطرفي
الأمير محمد بن سلمان متحدثاً خلال قمة جدة. (الصورة عن "واس").
الأمير محمد بن سلمان متحدثاً خلال قمة جدة. (الصورة عن "واس").
A+ A-

الزمانية والمكانية تمثّلان فارقاً كبيراً في صناعة وتأثير الأحداث. فزمانياً، جاءت قمة "الأمن والتنمية" في مدينة جده، غرب السعودية، بتوقيت مفصلي في مجريات الأحداث الكونية. فهناك التحوّلات التاريخية على المسرح الأوروبي نتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا والتصدّي الغربي له عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وحتى ثقافياً واجتماعياً. وهناك الدور الذي يضطلع به الإعلام والنخب المثقفة في توجيه وتحشيد الرأي العام مع وضد، وبتحزب متحيّز، صفيق، بعيد عن القيم المهنية والعدلية والمنهجية.

 

ثم هناك القطبية المتشكلة من جديد بين غرب ألِف الهيمنة الكونية في العقود الثلاثة الماضية، وتنتابه الهواجس من صعود القوة الروسية عسكرياً وسياسياً، والصينية اقتصادياً وعلمياً، في وقت تتراجع فيه موارد قوته وتفوّقه، وفرص الفوز بسباق السيطرة العابرة للحدود، وتنافسية كسب العقول والقلوب. 

 

السعودية واللحظة المكانية

ثم يأتي البعد المكاني، فالسعودية وحلفاؤها العرب والمسلمون اليوم في قلب الحدث الدولي، فمعاً يمثّلون المساحة الفاصلة وحدود التماس بين أطراف المواجهة، وعبرها تمرّ نذر الصراع المرتقب. وكما في الحروب العالمية السابقة، الساخنة والباردة، يشتدّ السباق على ضمّ بلداننا الى هذا الحلف أو ذاك.

 

منطقة الشرق الأوسط الكبيرة هي المعبر التاريخي للجيوش الغازية والمدافعة، ومسرح اقتتالها، وغنيمة المنتصر. والجزيرة العربية والهلال الخصيب وبحارها وأنهارها، والمضائق وخطوط الملاحة البحرية، كانت دوماً وأبداً أهم طرق التجارة والنقل والتواصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. كما أن خيراتها من الذهب والمعادن والأراضي الخصبة، ومواردها البشرية من الصناع والعمال والجند بقيت مطمعاً للممالك الإغريقية والرومانية والمغولية والفارسية والفرعونية، وحتى العربية والعثمانية والأوروبية الحديثة.

 

دورة التاريخ

وما أشبه البوم بالبارحة، فقمة جده، تقابلها قمة طهران، الروسية الإيرانية التركية. وقبلها عُقدت قمة "البريكس" في بكين لقادة روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، التي دُعيت إليها السعودية ومصر والإمارات.

 

والولايات المتحدة تعلن أنها تعود الى الشرق الأوسط حتى لا تترك فراغاً أمنياً تملأه روسيا والصين، ويرد الكرملين بتحذير من انحياز العرب الى المعسكر الأميركي، ويؤكد أهمية الالتزام باتفاق أوبك+. وبكين تعيد التذكير بأهمية مصالحها ومشاريعها الاستثمارية مع المنطقة، وأبرزها مشروعها العابر للقارات، طريق الحرير والطوق البحري. وكلا البلدين يردان على بيان الرئيس الأميركي بأنهما أيضاً لن يتركا المنطقة للهيمنة الأميركية.

 

الحيادية المصلحية

في المقابل، يردّ وزير الخارجية السعودية، الأمير فيصل بن فرحان، ووزير الدولة للشؤون الخارجية، عادل الجبير، على أسئلة الإعلام الأميركي، بأن السعودية توازن علاقاتها الدولية على مسطرة مصالحها.

 

وبقدر ما تعتز الرياض بالعلاقة الثمانينية مع الشريك الأميركي، فإنها لا تحصر تجارتها وشراكتها معه. فهي تبحث عن أفضل المنتجات والخدمات والعلاقات التي تلبّي احتياجاتها الأمنية والتنموية أينما وجدت، ولو في الصين، خاصة عندما يتعذر الحصول عليها عند الشريك الأميركي أو الغربي. وهذا الأمر لن يتغير بعد القمة السعودية الأميركية، لأنه حق سيادي أصيل.

 

اطمأنت روسيا والصين الى صلابة الموقف السعودي بعد أن عجزت نتائج القمة عن تحقيق أسوأ مخاوفهما. ولم تخرج أميركا خالية الوفاض، فقد وقعت مع السعودية 18 اتفاقية في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والصحية والتعليمية والبيئية والتجارية والفضائية والصناعية العسكرية والطاقة المتجددة والزراعة المستدامة.

 

العلاقات السعودية الأميركية

كذلك فُتح الباب على مصراعيه لمضاعفة الاستثمارات المشتركة في البلدين، وتم الاتفاق على استكمال عقود الأسلحة النوعية التي تم تجميدها في السنة الأولى من إدارة الرئيس بايدن، واستئناف التعاقد على المزيد، بشرط التوطين ونقل التقنية.

 

وقدّمت أميركا تعهدات موثقة بالتزاماتها الأمنية تجاه شركائها التقليديين من دول الاعتدال، وبدأ التنفيذ فعلياً بإقامة غرف عمليات مشتركة لإدارة عمليات الدفاع الجوي والبحري والاستخباري ضد الهجمات الصاروخية والقرصنة البحرية والأنشطة الإرهابية. تشارك في هذه الغرفة الدول المشاركة في القمة، وأخرى صديقة، خاصة من حلف الناتو.

 

لا تطبيع سعودياً مع إسرائيل

لم يتحقق للولايات المتحدة ما أرادت من خطوات تطبيع مع إسرائيل بإصرار السعودية على التمسك بمبادرة السلام العربية واشتراط قبول إسرائيل لها.

 

على أن المفاوض الأميركي استطاع حل مشكلة التسليم الكامل لجزيرتي تيران وصنافير في شمال البحر الأحمر للقوات السعودية، بعد إخراجها من اتفاقية كامب دايفيد مع مصر، مما يسرع خطوات ترسيم الحدود البحرية، واستغلال المياه الإقليمية والمشتركة الغنية بالموارد الطبيعية كالغاز والثروة السمكية. ويسمح بإقامة جسر الملك سلمان بين منطقة نيوم وشرم الشيخ، ومد أنابيب النفط والغاز الخليجية عبر منطقة سيناء الى ميناء جديد على البحر الأبيض المتوسط، والربط الكهربائي الخليجي - الأردني - العراقي مع الشبكة المصرية.

 

وفي المقابل، وافقت السعودية على التنفيذ الكامل لاتفاقية شيكاغو 1944 التي تقضي بعدم التمييز بين الطائرات المدنية المستخدمة في الملاحة الجوية الدولية، ولترسيخ مكانة المملكة كمنصة عالمية تربط القارات الثلاث، وسمحت للطائرات الإسرائيلية بعبور الأجواء الوطنية، لأول مرة منذ قيام إسرائيل، دون الهبوط في مطاراتها. 

 

قمة سنوية خليجية أميركية

وأتيحت للدول المشاركة في المؤتمر مناقشة علاقاتها مع الولايات المتحدة وبعضها مع بعض، من خلال اللقاءات الثنائية بين الزعماء. وهكذا أتيحت الفرصة لأول قمة بين ملك البحرين وأمير قطر، في أجواء وُصفت في البلدين بالإيجابية والأخوية، وبين الرئيس الأميركي والرئيس المصري والإماراتي ورئيس وزراء العراق، في لقاءات ثنائية، إضافة الى القمة السعودية الأميركية.

 

وخرجت جميع اللقاءات بنتائج تشير الى تقدم في ملفات متعددة، من بينها تأمين القوات الأميركية في العراق، والأمن المائي لمصر، وتشجيع التوافق السياسي في ليبيا والسودان، والمسار السلمي في سوريا، والتأكيد على وحدة أراضيها، ودعم الجيش اللبناني للدفاع عن استقلال وسيادة بلاده، وتوطيد العلاقات الخليجيةالأميركية، التي تقرر أن تشهد لقاء قمة سنوياً مع الولايات المتحدة.

 

القضية الفلسطينية

وفي ملف القضية الفلسطينية، أكدت القمة على حل الدولتين، والالتزام بالقرارات الدولية ودعم خليجي بمئة مليون دولار لشبكة المستشفيات الفلسطينية. كما تم التوافق على دعم الشعب الأفغاني وتقديم المساعدات الإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان ومواجهة الجماعات الإرهابية.

 

وعلى تقديم مساعدات اغاثية عاجلة للشعب الأوكراني مع التأكيد على الالتزام بالمواثيق والقوانين الدولية الحاكمة لسيادة الدول وحل الخلافات. ومواصلة الدعم للشعب اليمني وتثبيت الهدنة والعمل على حل الخلاف في إطار المرجعيات الدولية الثلاث - قرار مجلس الامن 2216 والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني. وعلى تقديم الدعم للدول الأقل حظاً لمواجهة أزمات الغذاء والصحة والطاقة بصندوق مساعدات تسهم فيه دول الخليج بعشرة مليارات دولار. فيما وعدت الدول الخليجية بتدارس مستجدات سوق الطاقة الدولي في اجتماعها المقبل (بعد أسبوعين) بمؤتمر أوبك+، مع الأخذ في الاعتبار مطالب الدول الصناعية كما نقلها الرئيس الأميركي.

 

الملف الإيراني

الحاضر الغائب، والخاسر الأكبر، في تصوّري، كان إيران. فرغم تباين الموقف نسبياً أو كلياً في كثير من الملفات، كان الإجماع الأبرز والأوضح بين المشاركين في الملف الإيراني. فحتى الدول الأقل خصومة مع طهران في المنطقة، كقطر وعمان والعراق، لم تعارض أو تتحفظ على توصيات القمة وتنديدها بالعدوانية والقرصنة الإيرانية ودعم طهران للميليشيات المنفلتة والجماعات الإرهابية وتجارة السلاح والمخدّرات وغسل الأموال.

 

وأبدى المؤتمرون قلقهم من برنامجها النووي والصاروخي وخروقاتها للاتفاق النووي ورفضها العودة إليه بلا شروط تعجيزية، كرفع العقوبات الكامل، بما يشمل الحرس الثوري وقيادات إيرانية. مع رفض طهران لعمل أي تعديلات على الاتفاق تضمن الالتزام ببنوده أو تمدّد فترة العمل به، أو تعالج سياسات إيران المزعزعة للأمن والسلم.

 

المواجهة القادمة

بتقديري، إن المواجهة القادمة ستكون مع إيران، إن لم تعدل من سلوكياتها وسياساتها، فهناك إجماع دولي على منع حصولها على السلاح النووي، وتفهّم أكبر لشكوى الدول الخليجية والعربية من تهديدها لأمن المنطقة وسلمها الاجتماعي، وتعاون أوسع في اليمن والعراق وسوريا ولبنان لمواجهة ميليشياتها وعصاباتها وأحزابها الطائفية المسلحة.

 

والمنظومات الدفاعية البحرية التي تشرف عليها السعودية في البحر الأحمر وبحر العرب، وتدير عملياتها أميركا في الخليج العربي وبحر عمان، وتشارك فيها أساطيل عشرات الدول، والمظلة الصاروخية والرادارية التي تغطي سماء المنطقة من الخليج الى النيل، ومن الفرات الى بحر العرب، تشير جميعها الى التوجه القادم.

 

صراع الثقافات

سُمّيت القمة الأميركية العربية "قمة جده للأمن والتنمية"، فلا تنمية بلا أمن، ولا أمن بلا تنمية. ولكي تتحقق تطلعات شعوب المنطقة لحاضر ومستقبل أفضل تتوافر فيه فرص التعلم والصحة وجودة الحياة، فلا بد من تأمين مسار البناء والرخاء ضد القرصنة والهدم والتعدي.

 

فثقافة الحياة لا يمكن أن تتعايش مع ثقافة الموت. ومبدأ سيادة الدول لا يتوافق مع سياسات التدخل والهيمنة. والسلم الاجتماعي لا يتحقق في بيئة الإرهاب والفتن. ومنطق الدولة لا يتفق مع منطق الثورة. وحراسة الأمن لا تُوكل لميليشيات منفلتة. والوحدة الوطنية لا تجمعها طائفية وعنصرية، ولا تحققها أحزاب عميلة وقيادات مرتزقة وإعلام العملة. وقانون المجتمع الأممي لا يتفق مع قانون الغاب.

 

وعلى القوى الإقليمية التي لا تؤمن بهذه القيم والمبادئ الإنسانية أن تراجع مواقفها وتصحّح مسارها وإلا وجدت نفسها خارج مسار التاريخ، وعلى خط تصادمي مع الحضارة الإنسانية سيؤدّي حتماً إما الى انهيار داخلي أو صراع خارجي مدمّر.

 

وصدقت مقولة العرب: الجاهل عدوّ نفسه! ولا عزاء للجهلاء!

 

•     أستاذ بجامعة الفيصل

@kbatarfi

  

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم