الأحد - 12 أيار 2024

إعلان

سياسات عامّة لاقتصاد منتج للبنان في مئويّته الثّانية

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
د. وائل منصور - اقتصاديّ لبنانيّ
 
شهد اقتصاد لبنان في مئويته الأولى العديد من مراحل الصعود والهبوط وانتهى في انهيار تاريخي سوف يُدرّس يوماً ما في الجامعات. ولكنّ الانهيار ليس قدراً بل هو نتاج سياسات اقتصادية اجتماعية خاطئة، وعليه يمكن أن تكون بداية الألفية الثانية مغايرة تماماً، بداية يكون عنوانها الاقتصاد المنتج والتنافسيّ (لن يتطرّق المقال إلى الشقّ السياسي او الاجتماعي الذي سيعالج في كتابات لاحقة).
 
لنبدأ أوّلاً من التعريف: إنّ الاقتصاد الريعيّ هو الاقتصاد الذي يعتمد بالدرجة الأولى على المكاسب المحقّقة دون بذل جهد أو تكلفة إنتاج إضافية، وذلك جرّاء حالات الاحتكار للموارد - الطبيعية أو غيرها - أو الامتيازات الممنوحة لفئة دون أخرى. أمّا الاقتصاد المنتج فهو اقتصاد يركز على إنتاج السلع والخدمات بكفاءة وفعالية، ويتميّز بقدرته على خلق فرص العمل وتحقيق النمو المستدام. ويعتمد هذا الاقتصاد على الابتكار، التطوير التكنولوجي، مهارة اليد العاملة، والأهم على التنافس. وإذا اعتبرنا أنّ النموذج الريعيّ في لبنان قد أوصل البلاد إلى انهيار اقتصادي كارثي وهجرة جماعية، يصبح من الضروري الانتقال نحو اقتصاد تنافسيّ منتج. ونظراً لحجم السوق اللبناني الصغير يصبح لزاماً التفكير في كيفية تصدير السلع الخدمات بدلاً من تصدير اليد العاملة والشباب. إذاً الهدف واضح.
 
في سنة ٢٠١٨ وصل حجم الاقتصاد اللبناني إلى حوالي ٥٥ مليار دولار أميركي، وهو الحجم الأكبر للاقتصاد في المئوية الأولى للبنان. ولكن مع الانهيار في الـ ٢٠١٩ تراجع حجم الاقتصاد وبلغ أقل من النصف أي حوالي الـ٢٣ مليار دولار في الـ٢٠٢٢ وهو ما كان عليه في الـ2006. إذاً أضاع لبنان ١٧ عاماً من النموّ بين ليلة وضحاها، إذ تبخر الريع وسقط الهيكل! الهدف هو العودة في حجم الاقتصاد إلى القمة في حلول الـ ٢٠٤٠، ولكن هذه المرة ببناء ذو أسس صلبة فيه معدلات نمو حقيقي لا تقل عن الـ ٦ في المئة، وفيه نسب إنتاج واستثمار وتصدير أعلى ممّا خبرناه في العقود الماضية. وهذه هي الحال في معظم الدول ذي الدخل المتوسط الأعلى - وهو تصنيف لبنان ما قبل الانهيار.
لتحقيق هذا الهدف الواقعي، على الاقتصاد اللبناني أن يتحوّل إلى اقتصاد منتج بالاعتماد على سياسات عامّة تدعم كلّ أشكال التنافس ويمكن تلخيصها في أربعة محاور.
 
المحور الأول هو السياسات المالية والتي تتطلب جردة بالقوانين الضريبية وتصحيحها بهدف تحفيز الاستثمار وتعزيز الأجور على حساب أرباح الريع. كما وتحديد أولويات للإنفاق العام، نظراً إلى محدودية الموارد، مركزة في قطاعات تساعد الإنتاج والتصدير وأهمها الكهرباء والاتصالات والتعليم.
 
المحور الثاني وهو السياسات النقدية من حيث وجوب تشديد حوكمة القطاع النقدي كي لا تتكرّر التجاوزات النقدية والمصرفية السابقة ومنها وضع ضوابط وتوازنات لمراكز الرقابة النقدية الحالية كالبنك المركزي ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة، كما سنّ التشريعات التي تمنع الازدواجية الوظيفية والملكية خصوصاً ما بين المصارف التجارية المصارف الاستثمارية. كما أنّ على السياسات النقدية كسر احتكار المصارف لعمليات تمويل الاقتصاد وتطوير القطاع الماليّ عبر السماح لمؤسسات تمويل جديدة منها مؤسسات التكنولوجيا المالية الحديثة (fintech) وتطوير أسواق الرأسمال (capital markets)، ما يفتح المنافسة في القطاع ويسهم في خفض أكلاف التمويل للشركات والمشاريع والأفراد.
 
أمّا المحور الثالث فيتعلّق بتطوير سياسات التجارة الخارجية لفتح الأسواق العالمية أمام السلع و الخدمات اللبنانية. ولبنان وقّع ٣٧ اتفاقية تجارية تشمل العديد من الدول والتكتلات الاقتصادية، وبالرغم من ذلك بقيت الاستفادة منها محدود. لذلك تجب اعادة النظر بهذه الاتفاقيات وتعديلها لصالح لبنان إذا أمكن، وفتح أسواق جديدة خصوصاً الأسواق الكبيرة كالولايات المتحدة، وتحويل وزارة الاقتصاد إلى وزارة متخصّصة بالتجارة الخارجية مهمّتها العمل مع المصدرين اللبنانيين ومساعدتهم لتحسين تنافسيّتهم ودخول الأسواق العالمية.
 
المحور الرابع تحسين بيئة الأعمال وذلك عبر إلغاء كلّ النظم والقوانين التي تُبقي الاحتكار في أيّ قطاع اقتصاديّ وإنتاجيّ كإلغاء قانون الوكالات الحصرية، والريجي، والكازينو وغيرها. كما الذهاب نحو سنّ قوانين مكافحة الاحتكار وتأهيل الهيئات الرقابية والقضائية لتطبيق هذه القوانين، تشكيل الهيئات الناظمة في جميع القطاعات الإنتاجية وتعزيز دورها من ناحية إدارة القطاعات وتحديد الأماكن المناسبة لإشراك القطاع الخاص في الاستثمار أو الإدارة، وضع قانون حديث للشركات الناشئة وتسهيل عملها بشكل نظامي عبر مكننة خدمات المرافق العامة، وأخيراً وليس آخراً إنشاء مراكز تحكيم وقضاء متخصّص بالنزاعات التجارية والشركات.
 
إذا هي ورشة عمل كبيرة للانطلاق في الألفية الثانية عبر بناء سليم لاقتصاد عصريّ. ورشة مضنية ولكنّ أساسية لمستقبل أفضل لجميع اللبنانيين.
 
*مقال مستند إلى محاضرة الدكتور وائل منصور ضمن فعاليّات مشروع لبنان في قرنه الثاني: رؤية مستقبلية
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم