"تغيرت قواعد اللعبة اليوم مع بروز قوى جديدة، وأوروبا مهدّدة بالفناء والموت إن لم تستعد لمواجهة المخاطر المحتملة"، بهذه الجملة وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واقع أوروبا الاقتصادي المرير، خلال خطاب ألقاه في 25 نيسان (أبريل) 2024، بجامعة السوربون بباريس.
تسببت حالة عدم اليقين السياسي في انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار، في تعاملات الاثنين المبكرة في آسيا. وتراجع إلى أدنى مستوياته منذ التاسع من أيار (مايو) مسجلاً 1.0764 دولار، بعد أن دعا ماكرون إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة إثر هزيمة حزبه أمام اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي. ومع انخفاض اليورو تجددت الضبابية السياسية - الاقتصادية في ثاني أكبر اقتصاد بمنطقة اليورو في عام انتخابات مهم.
في سياقٍ متصل، سجّلت بورصة باريس خسائر كبيرة بين الأسواق الأوروبية عند افتتاحها يوم الاثنين. وانخفض مؤشر كاك 40 في باريس بنسبة 2.4 في المئة، بينما انخفض مؤشر داكس في فرانكفورت بنسبة 0.7 في المئة، وتراجع مؤشر ستوكس 600 الأوروبي بنحو 0.7 في المئة أيضاً.
تواجه أوروبا ثلاثة تحديات رئيسية، بعضها قصير المدى وبعضها الآخر طويل المدى. هي:
1) تحديات جيو-سياسية: الحرب في أوكرانيا وتأثيرها في ارتفاع أسعار الطاقة (التكتل الأوروبي يحصل على 26 في المئة من حاجاته النفطية و40 في المئة من حاجاته من الغاز من روسيا)، وانقطاع سلاسل التوريد، وتدفق اللاجئين (بحسب بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإنه بحلول نهاية عام 2022، بلغ عدد اللاجئين الذين تستضيفهم الدول الأوروبية 12.4 مليون شخص)، واحتمال نشوب صراع على نطاق أوسع مع تزايد الشكوك حول مدى التزام أميركا بأمن أوروبا.
2) تحديات اقتصادية: تشمل ارتفاع التضخم (حيث تسارع معدل التضخم في أوروبا بنسبة 2.6 في المئة على أساس سنوي في أيار (مايو) 2024)، وتغير المناخ، والدين العام. وكانت وكالة الإحصاء الأوروبية "يوروستات" قد كشفت أن أكثر من 20 دولة بالاتحاد الأوروبي سجلت عجزاً في الموازنة خلال عام 2023.
3) تحديات اجتماعية: تشمل التشيّخ السكاني وارتفاع البطالة، خصوصاً بين الشباب، وعدم المساواة وهي مشكلة كبيرة في العديد من الدول الأوروبية، حيث تُفجّر التوترات الاجتماعية وتُهدد الاستقرار السياسي.
وسجّل معدل البطالة في منطقة اليورو 6.4 في المئة الشهر الماضي، فيما يعني تناقص أعداد المواليد والارتفاع المطرد في نسب من بلغوا سن الشيخوخة أعباء اقتصادية كبيرة، حيث تقل الفئات المنتجة وتزيد الفئات التي تحتاج إلى الدعم والرعاية من الحكومة.
تواجه 11 دولة أوروبية عجزاً في الميزانية أعلى من عتبة 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المسموح بها بموجب قواعد الاتحاد الأوروبي، حيث تلزم "اتفاقية الاستقرار والنمو الأوروبية" بألا يتعدى إجمالي الديون السيادية للدولة 60 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي، تحت طائلة الخضوع لغرامات.
الخطير في الأمر أن مستوى الدّين في 13 دولة أوروبية، بينها فرنسا وإيطاليا وبلجيكا، بلغ أعلى من 60 في المئة من إجمالي الناتج المحلي خلال عام 2023. ولا تخطط هذه الدول للعودة إلى الامتثال خلال السنوات القليلة المقبلة، وربما يكون عدم الالتزام بداية مشوار طويل نحو التفكك.
وكانت اليونان الأعلى بنسبة 161.9 في المئة، تليها إيطاليا بنسبة 137.3 في المئة، ثم فرنسا 110.6 في المئة، وإسبانيا 107.6 في المئة، وبلجيكا 105.2 في المئة.
تواجه حكومات هذه الدول معضلة أخرى: زيادة الضرائب أو محاولة تقليص الإنفاق للسيطرة على الديون والوفاء بالتزامات الاتحاد الأوروبي تُغضب الناخبين، إذ تؤدي زيادة الضرائب أو تخفيض الإنفاق العام إلى تقليص الاستثمارات والخدمات العامة وتحد من نمو الاقتصاد.
يُذكر أنّ 23 دولة أوروبية أنفقت أموالاً أكثر من التي حصلت عليها، وسجلت إيطاليا أعلى نسبة عجز بلغت 7.4 في المئة، تليها المجر 6.7 في المئة، ورومانيا 6.6 في المئة. أمّا فرنسا فخفضت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي من 1.4 إلى 1 في المئة، مع تضخم عجز الميزانية الذي بلغ 44 مليار يورو في شباط (فبراير) 2024.
إلى ذلك، يمثل الوضع الاقتصادي الهش في أوروبا أرضاً خصبة لنمو الخطاب الشعبوي، خصوصاً مع احتمال دخول الدول جولة جديدة من التقشف المالي، بعدما سجلت أوروبا انكماشاً اقتصادياً في الربع الأخير من عام 2023، في ظلّ توقعات بالانزلاق نحو الركود، حيث حققت الأحزاب القومية المتشككة في الاتحاد الأوروبي أكبر مكاسب لها في انتخابات البرلمان الأوروبي الأحد، وفقاً للاستطلاعات، ليحلّ ماكرون الجمعية الوطنية ويوقع مرسوم إجراء الانتخابات التشريعية للدورة الأولى في 30 يونيو (حزيران) الجاري، والدورة الثانية في 7 يوليو(تموز) المقبل.
فهل تصبّ نتائج الانتخابات المبكرة لصالح حزب ماكرون، أم أنّ رياح الأزمات الاقتصادية ستأتي كما تشتهي سفن اليمين المتطرّف؟