الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

زكي ناصيف... أيّها الحنون الذي "عتل همّ الآخرة"، عُد إلى الموت في وقت آخر!

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
أمسية "So Much Good Time We Spent Together" في الجامعة الأميركيّة في بيروت (حسام شبارو).
أمسية "So Much Good Time We Spent Together" في الجامعة الأميركيّة في بيروت (حسام شبارو).
A+ A-
... عُد إلى الموت في وقت آخر، فهذا اللقاء المصقول بالحُب هديّة لك، وهذه الأصوات الشابة تهتف برونق الصبا: "اشتقنا كتير يا حبايب نمشي دروبنا سوا"، وإن كانت في الواقع مُنهمكة في تأدية برنامج كامل "مشغول بحُب من إمّو وأبوه".
 
نحن في قاعة "أسمبلي" في الجامعة الأميركيّة في بيروت، "من يومين – تلاتة"، وهذا الطقس "الرهيب" الذي يُمهّد لأيام أفضل يُضيف الحميميّة إلى هذه الأمسية و"منشوراتها القصصيّة".
 
"So Much Good Time We Spent Together" عنوان اللقاء بيننا نحن الذين اخترنا العودة إلى دورة الحياة الطبيعيّة وسط "كل يللي عم بيصير برّا"، وبين ذاك الحنون الطيّب الذي كان يخشى أن ينقلب عليه الزمان في أيامه الأخيرة، زكي ناصيف.
 
(حسام شبارو)
 
حفلة موسيقيّة لمعانها يزداد كلما ابتعدنا معها وبفضلها عن الضوضاء وهذه الأيام الظالمة التي تُذكرنا بمقولة: "يُقضى على المرء في أيام محنته بأن يرى حسناً ما ليس بالحسن"، نُكرّم من خلالها جميعاً ذاك الطفل الذي وُلد في الثالث من تموز من عام 1916 في بلدة مشغرة في البقاع الغربي وتوفي في الـ11 من آذار من عام 2004، تاركاً إرثاً لا يُقدّر، هو الذي تتلمذ بين عامَي 1936- 1941 على أيدي موسيقيين روس فرّوا من الثورة البولشفيّة وأسسوا المعهد الموسيقي للجامعة الأميركية في بيروت الذي مارس مهامه في عهد رئيس الجامعة بايارد دودج بين عامي 1929-1949.
 
(حسام شبارو)

زكي ناصيف، صاحب الابتسامة الصغيرة التي أخفت حياة "طويلة عريضة" (ربما كانت داخليّة بمُعظمها؟)، ويُعدّ واحداً من أكثر الملحنين غزارة في الإنتاج في تاريخ لبنان وأسهم مع الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وفيلمون وهبة في ما كان يُعرف بـ"عصبة الخمسة"، بالنهضة الموسيقيّة للدول الفتية في منتصف القرن الـ20.
 
حفلة موسيقيّة لفرقة الموسيقى العربية لبرنامج زكي ناصيف في الجامعة الأميركية في بيروت نحتفظ بسرّها، و"نسكر" بعد احتساء أريج المحبة الذي ينساب من عنقها كعاشقة تضحك ألماً على حالها وتهمس بمرارة ساكنة:"شو هالإيام اللي وصلنالا".
 
(حسام شبارو)

المؤدون يضحكون غناءً، ويُرددون بصمت لكل اقتحاميّ إختار العودة بعد انقطاع وعزلة: "أين كنت قبل مجيئك إلى هنا؟".
 
لحظة صمت وتأمل.
 
ساعة ونصف من الأنغام المُحببة التي ترعرعنا على حنانها وعتبها غير الحاقد على حياة تترنّح بلا توقّف على صدى الخيبات. برنامج مُريح وفرح لا ينحصر داخل "قلعة" ألحان الراحل الحنون فحسب، بل يُعير الأضواء للمايسترو الراحل وليد غلمية والساخر الطيّب فيلمون وهبة وروميو لحود ومطر محمد وزياد الرحباني ومحمد عبدو ومحمد محسن والياس الرحباني.
 
من "رقصة الأباريق" مروراً بـ"يا ساكن الليل" و"يا مرسال المراسيل"، و"قالولي العيد"، و"أخدوا الريح" و"شو هالإيام اللي وصلنالا"، و"طال السهر"، و"سيد الهوى قمري"، وصولاً إلى "يا مارق ع الطواحين"، وغيرها من الألحان والأغاني أو "الأهازيج" الرنّانة، مرّت الدقائق القصيرة نظراً لعطشنا للنُزهات النغميّة الطويلة في حرج الصنوبر، هناك على الضفة الثانية من الخوف والقلق.
 
(حسام شبارو)

تمتزج أصوات الكورال مع الأوركسترا بقيادة المايسترو فادي يعقوب، ويُصفق الحضور طويلاً للغناء المنفرد لكل من: عمر أبي فراج، جنى الخوري، فيرا الأشقر، رامي الصلح، منال بو ملهب، شيرين إبراهيم، تمارا الخوري، شادي ضو، ندى شمس الدين، قاسم بردى، محمد رقّى، ولولو العازار.
 
وإن كان الانفعال والعواطف المُفرطة الحماسة من العناصر التي تجعل الأصوات ترتجف أحياناً وتخرج لهُنيهات عن النغمة الأصليّة، فإننا، نحن الذين إشتقنا إلى الحياة وإلى من "يكتب القصائد على دفتر أحلامنا"، لا نُعير هذا التفصيل الصغير الكثير من الاهتمام، وقد فهمنا منذ اللحظات الأولى أن العواطف المُفرطة الحماسة ستضيف الكثير من الجمال إلى الأمسية.
 
وها قد تحوّل هؤلاء الذين قدموا من رواق الصبا صلة الوصل بيننا وبين الواقع الذي يصعد لهيبه من الأزقّة المُظلمة مثل القبور!
ومشروع قصّة حُب نكتب معاً الأسطر الأولى من كتابها.
 
(حسام شبارو)

وكان الدكتور نبيل ناصيف، ابن شقيق الراحل الحنون والأستاذ في الأميركيّة ومدير برنامج زكي ناصيف، قد أكد لنا أنه وظّف كامل طاقته لإنشاء هذا البرنامج انطلاقاً من التاريخ العائلي الذي ينتمي إليه في الدرجة الأولى، و"من دون أن ننسى تاريخ الجامعة الأميركيّة التي ينتمي إليها زكي، والذي أنتمي إليه بدوري بصفتي أستاذاً في مادة الرياضيّات فيها. عندما تُوفي في عام 2004، تذكرت أنه أخبرني مرات عدة بأنه تتلمذ في الأميركيّة وعندئذٍ طلبت ملفه من الأرشيف لأعرف المواد التي درسها. كنت أبحث عن شتى السبل لأكرمه فقلت: بإمكاننا أن نُنشئ The Zaki Nassif Program Of Music، وتجاوب مع الفكرة الراحل وليد غلمية الذي كان مديراً في الكونسرفاتوار الوطني. وقال لي: شو فينا نعمل؟ أجبت: حفلة في الأسمبلي هول. ومن هنا انطلق برنامج زكي ناصيف".
 
 
مع الإشارة إلى أن برنامج زكي ناصيف للموسيقى قد تأسس في كانون الأول من عام 2004 في كلية الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية في بيروت بمبادرة من محبي زكي ناصيف، وأقيم الحفل الموسيقي الأول في قاعة الأسمبلي هول أيضاً بقيادة المايسترو الراحل الدكتور وليد غلمية.
 
ومن أجل تمويل البرنامج أنشئ نادي أصدقاء برنامج زكي ناصيف الذي يسعى لاستمرارية البرنامج مُعتمداً على تنظيم الحفلات وتأمين الهبات والتبرعات لحساب خاص بالبرنامج:
 
AUB Zaki Nassif Fund، ويهدف البرنامج إلى الحفاظ على التراث الفني لمبدعي الموسيقى اللبنانيّة والعربيّة والمشرقيّة وتترأسه ليلى بساط.
 
وقبل الأمسية التي هي الأولى لـ"زكي والأصدقاء" بعد هذه الفترة الطويلة التي أقمنا بها في منازل الرُعب المُتلاصقة، حضرنا التدريبات، وفيها كان الجميع يخفي الوجه أحياناً خلف أكثر من قناع خوفاً من اجتياح فيروس القرن، وقدم بعض الأهالي من كفرذبيان وبعبدات ومناطق بعيدة من العاصمة التي تحاول النهوض بعد الضربات المُتتالية التي أصابت ركيزتها، ليكونوا إلى جانب أولادهم في هذه اللحظة المؤثرة التي امتزجت فيها الألحان النبيلة والأصوات الفتيّة بالآلات والطقس الرهيب والمُتقلّب الذي يُقال إنه يُمهّد لأوقات أكثر هناءً.
 
ربما كان عنوان الأمسية يغمز إلى الزمن الجميل الذي أمضيناه معاً في وقت مضى آخذاً معه كل شيء، بيد أن عاصمتنا الخليلة تعدنا بأوقات أكثر جمالاً في المستقبل القريب.
 
وأنت، يا أيها الحنون الذي كنت تقلق على أيامك الأخيرة ولكن الزمان "سترك" وهدهد خوفك، (وله منّا ألف شكر!)، فعد إلى الموت في وقت آخر.
 
"لاحق عليه".
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم