الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أيّ بعدٍ استخباريّ في إخفاق روسيا الأوكرانيّ؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
إضاءة شموع في ألمانيا تضامناً مع أوكرانيا (أ ف ب).
إضاءة شموع في ألمانيا تضامناً مع أوكرانيا (أ ف ب).
A+ A-

لم يتسنّ للعالم أن ينسى المشهد الدراميّ والغريب الذي ارتسم أمامه يوم الحادي والعشرين من شباط حين دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجلس الأمن القومي ليناقش مسألة الاعتراف باستقلال مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك. في تلك الجلسة المتلفزة، سأل بوتين رئيس جهاز "أس في آر" المسؤول عن الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين عن توصيته، لكن يبدو أنّ الأخير "خرج عن النص" فاقترح توجيه إنذار أخير للغرب كي يلتزم باتفاقيتي "مينسك" قبل الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين. قاطعه بوتين متسائلاً: ما الذي يعنيه ذلك؟ هل تقترح أن نبدأ المفاوضات؟" ارتبك ناريشكين مقترحاً ضمّ روسيا المقاطعتين. ردّ عليه بوتين: "نحن لا نتحدّث عن ذلك. نحن نتحدّث عن الاعتراف باستقلالهما، نعم أم لا؟" بعدما ردّ ناريشكين بالإيجاب، قال بوتين: "شكراً، بإمكانك الجلوس".

بوتين "لم يتغيّر"

لم يكن دفع بوتين ناريشكين إلى هذا الوضع المحرج عرضيّاً، حيث أنّ الجلسة كانت مسجّلة على الأرجح. وجّه الرئيس الروسيّ رسالة للداخل والخارج بأنّه ممسك بمفاصل القرارات السياسية والاستخبارية، كما أنّ أسلوب توجيه الأسئلة السريعة، والمستوحى ربما من الأسلوب المستخدم في جهاز "كاي جي بي" الذي خدم فيه طوال 17 عاماً، هدف إلى إبقاء المسؤولين في حال دفاعيّة على ما اقترحه البعض.

لكن لـ"سيطرة" بوتين على قرارات مفصليّة كهذه تداعيات سلبيّة محتملة: إيصال معلومات استخبارية خاطئة إلى الرئيس الروسيّ فقط من أجل إرضائه وإسماعه ما يريد سماعه. هل كان ناريشكين على علم بمعطيات أمنيّة وعسكريّة فحاول إيصالها بطريقة غير مباشرة إلى بوتين عبر اقتراح إعطاء الغرب مهلة إضافيّة؟ لن يستطيع أحد الحصول على جواب نهائيّ عن هذا السؤال. لكن بصفته رئيساً لجهاز استخباريّ متخصّص في الشأن الخارجيّ، ربّما كان ناريشكين مطّلعاً على حيثيّات كهذه.

ويصبح السؤال أكثر إلحاحاً مع فشل روسيا في توقّع صمود الأوكرانيين أمام الغزو. وتوقّعُ هذا الصمود قضيّة جوهريّة عند رسم المخطّط العسكريّ وقد يكون أهمّ من رصد ما يملكه "العدوّ" من إمكانات عسكريّة ومساعدات خارجيّة. فالصمود وحده كفيل بتغيير المخطّطات العسكريّة وحتى الدعم الأجنبيّ. هذا ما أكّدته الأحداث لاحقاً. لو قبِل زيلينسكي بالعرض الأميركيّ لإجلائه إلى خارج البلاد لكانت تغيّرت المعادلة بأكملها مع سيطرة حكومة موالية لموسكو على العاصمة كييف. صمود زيلينسكي هو الذي دفع الغربيين إلى الالتفاف أكثر حول أوكرانيا سياسياً وعسكرياً وإعلامياً.

في محاولة لتفسير أسباب فشل الرئيس الروسيّ في تحقيق أهدافه، قال الدكتور كينيث دكليفا، وهو عالم نفس أجرى أبحاثاً في مجال سايكولوجيا القيادات وشغلَ مناصب في وزارة الخارجية من بينها السفارة الأميركية في موسكو، إنّ بوتين هو نفسه ولم يتغيّر في إجراء الحسابات. مشكلته أنّه حصل على معلومات استخبارية خاطئة بحسب دكلفيا. لكن كيف لأجهزة استخبارات قويّة مثل تلك التي تتمتّع بها روسيا أن تخفق في رصد مقوّمات هذا الصمود؟

جواب من شقّين على الأقلّ

قد تخطئ أجهزة الاستخبارات الأميركيّة بشأن هذه المقوّمات وهو ما حدث فعلاً حين توقّعت سقوط كييف في أربعة أيام. لكن أن تكون أجهزة موسكو غير قادرة على قياس ردّة فعل شعب تربطه بها علاقات جيرة وقربى ولغة وتاريخ، فهذا يبعث على التساؤل عن كيفيّة ارتكاب تلك الأجهزة خطأ كهذا. والجواب عن السؤال الأخير قد يتشكّل من بعدين.

البعد الأوّل هو أنّ الأجهزة الاستخباريّة الروسيّة ليست كفوءة بمقدار ما يتصوّره البعض. في كانون الثاني، ذكرت الكاتبة ناتاليا أنطونوفا التي عملت لفترة في روسيا كيف أنّ غياب الكفاءة لدى تلك الأجهزة هو تصوّر شعبيّ واسع النطاق في تلك البلاد. لقد فشلت تلك الأجهزة في اغتيال المعارض أليكسي نافالني، حتى إنّ قاتلاً ناقش اغتياله عبر خطّ غير آمن. كما فشل عنصران من جهاز "جي آر يو" (الاستخبارات العسكرية) باغتيال سيرغي سكريبال في بريطانيا سنة 2018 وتمّ اعتقالهما. وكتبت أنطونوفا كيف كان مسؤول مفترض في "أف أس بي" (جهاز الأمن الفيديراليّ ووريث "كاي جي بي") يشتكي أمامها من غياب فاعلية جهازه.

البعد الثاني في البحث عن سبب إخفاق الأجهزة الأمنيّة الروسيّة في توقّع صمود الجيش الأوكرانيّ يكمن في أنّ "أف أس بي" أجرى بالفعل مسحاً لآراء الأوكرانيين بشأن قضايا سياسية واجتماعية عدة قبل شنّ الحرب. حصل "المعهد الملكي للخدمات المتحدة" (روسي) على معلومات بشأن الاستطلاعات التي أجرتها المديرية التاسعة في الخدمة الخامسة لـ"أف أس بي" في أوائل شباط. كانت نسبة الثقة بالمكتب الرئاسي الأوكرانيّ 27% فقط وتدنّت شعبية الرئيس زيلينسكي إلى 34% مع أنّ نسبة كبيرة اعترفت بأنّها تفضّله على مرشّحين آخرين.

أمكن أن تكون هذه الأرقام وغيرها دليلاً على ضعف الالتفاف الأوكرانيّ حول القيادة والمؤسّسات السياسيّة. مع ذلك، نال الجيش الأوكرانيّ نسبة تأييد عالية وصلت إلى 68%. واعتقد 51% أنّه قادر على صدّ اجتياح. يذكر التقرير أنّ "أف أس بي" يملك استطلاعات عن المواقف الاجتماعيّة في أوكرانيا منذ 2006. لكنّ "روسي" حذّر من أنّ العيوب في الاستطلاعات تكمن في أنّها ليست سوى لمحة عن لحظة معيّنة حيث إنّ تغيّراً زلزاليّاً كالحرب أو حتى الضربات المحدودة قد يتسبّب بتغيّر كبير في المشاعر. وتوقّعت مؤسسة الرأي البريطانيّة بعد يوم واحد على الغزو أن تواجه روسيا وضعاً صعباً للغاية.

بوتين "غاضب جداً"

في حديث إلى صحيفة "ذا تايمس" البريطانية يقول مراقب الاستخبارات الروسية أندريه سولداتوف إنّ "أف أس بي" تنقصه الكفاءة لكنّه لم يستبعد أيضاً أن تكون الوكالة قد جمعت معلومات صحيحة قبل أن تغيّرها لإرضاء الرئيس. ونقلت الصحيفة عن الضابط السابق في الاستخبارات البريطانية فيليب إنغرام قوله إنّ "أف أس بي" منظّمة قديمة نسبياً وتعمل بطرق التجسس القديمة. وقال إنّ المسؤولين في ذلك الجهاز يجدون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه لأنّ بوتين "غاضب للغاية من أدائهم".

في محطّات عدة، تمّ إلقاء القبض على عناصر استخبارية روسية ناشطة في دول غربيّة عدّة ممّا أثار تساؤلات عن كفاءتها. لم يصدّق مراقبون أنّ هذه الأجهزة قادرة على ارتكاب أخطاء بدائيّة مثل التحدّث عبر خطوط غير آمنة (هذا ما حصل مؤخراً أيضاً مع جنود روس داخل أوكرانيا) أو عبر تحويل الأموال من خلال إعطاء عنوان سكن قريب من المقرّات الاستخبارية، فافترضوا أنّ هنالك صراعات داخليّة بينها. لكنّ مراقبين آخرين يشدّدون على القاعدة التي تقول إنّه لا يمكن اللجوء إلى نظريّات المؤامرة لتفسير أحداث يمكن فهمها من خلال عدسة انعدام الكفاءة.

وفي 2018، جادل محلّلون استخباريّون أميركيّون سابقون بأنّ الإخفاقات لا تعبّر عن فشل استخباريّ روسيّ حقاً، لأنّ بعض العمليّات معرّضة أكثر من غيرها للكشف ولأنّ عملاء استطاعوا التحرّك في أوروبا لأكثر من 30 عاماً. لكنّ الأوروبيين ظلّوا قادرين على كشف الشبكات الروسيّة على أراضيهم. ففي الأشهر الخمسة الأولى من 2021 وحدها، كُشفت أربع عمليات للاستخبارات الروسيّة في أوروبا.

تسريبات

قد يكون من شبه المستحيل تحميل الأجهزة الاستخبارية الروسية وحدها مسؤولية الفشل. نشر الناشط الحقوقيّ الروسي فلاديمير أوسيشكين وثيقة قال إنّ رجلاً من "أف أس بي" كتبها تظهر أنّ جهازه لم يوضَع في أجواء الاجتياح وأنّه لم يكن مستعدّاً للتعامل مع تداعيات العقوبات، واصفاً الغزو بـ"الإخفاق الكامل". وعرض الخبير في شؤون الأجهزة الأمنية الروسية كريستو غروزيف الوثيقة على مسؤولَين في "أف أس بي" فقالاً إنّهما لم يملكا "أي شك بأنها كُتبت من قبل زميل".

لكن يبدو أنّ بوتين يحاول تقييد و/أو معاقبة "أف اس بي" على تقصيره في الحرب. نقل "مركز تحليل السياسة الأوروبية" عن مصادره أنّ رئيس الخدمة الخامسة في الجهاز العقيد سيرغي بيسيدا ونائبه قد وُضعا قيد الإقامة الجبرية بعد مزاعم بإساءة استخدام الأموال المخصّصة للأنشطة التخريبية ولتوفير معلومات استخبارية ضعيفة قبل الغزو الروسيّ.

إذا كانت الأجهزة الاستخبارية الروسية قد اكتسبت مؤخّراً سمعة بأنّها غير فعّالة بالمقدار الذي كان متخيّلاً من قبل، فإنّ إخفاقها بتوقّع مسار الحرب في أوكرانيا ورغبة الأوكرانيين بالمقاومة قد يرسّخ تلك السمعة. لكن مجدّداً، ليس واضحاً ما إذا كانت الأجهزة توقّعت مقاومة كهذه وغيّرت معطياتها إرضاء للكرملين أم أنّها فعلاً أخطأت مرّة أخرى... وبشكل فاقع.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم