لا ريب في أنّ الاغتراب كان يشكّل منعطفاً لافتاً في حياة المرء حيث يتمّ خلط الأوراق الزمكانيّة وتتبدّل الأهداف والخيارات المنضوي تحت ظلالها المرء، والحقّ أنّ الاغتراب هو نتيجة عوامل محرّضة تحول دون بقاء الفرد جزءاً من "داما" مجتمعه، وهذا ما طرحته نازك سابا يارد في روايتها "فقدان" الصادرة عن دار هاشيت أنطوان (نوفل) طبعة أولى 2018، حيث وزّعت الشخصيات على مسرح متحرّك بين الذهاب والإياب، الهروب والعودة، التمسّك والتخلّي...
على مدى 200 وصفحتين، حاولت يارد أن تُظهر للمتلقّي أنّ الاغتراب وتبدّل الهوية النفسانيّة للشخصيات هما العصب الأساس والعمود الفقري الذي كان سنداً لهذا النصّ، إضافة إلى الظواهر المجتمعيّة التي أعادت تسليط الضوء عليها كتأكيد على أنّ المجتمع متمسّك بلازمة اجتماعية سلبية تتضخّم كلّما تراكمت العقود وكلّما تناوبت الأجيال.
الهوية وأزمة الاغتراب
تبدأ الرواية بالحاضر الصامت الساكن الذي يظهر فؤاد الدكتور المنهك، الصامت والانطوائيّ اليائس والحاضن لماضيه كطفل يحتضن لعبته. "جلس إلى مكتبه. مكتب لم يبقَ بحاجة إليه الآن... تأمل غابة الصنوبر الصغيرة أمام نافذة الغرفة... أيّ قيمة لحياته بعد اليوم؟" (ص.7) ليتبيّن بعدها أنّ هذا السرد المثقل بصمت فؤاد ويأسه يعود إلى تجربة حبّ مجبولة بالانكسار والندم والتردّد، العوامل التقليدية التي تحول دون انضواء الحبيبين تحت جناح الحب وفي قفص الزواج. فؤاد الذي هاجر وعاد، تبدّلت حياته لمجرّد انقطاع اتصاله بعالمه القديم فبات على حبل يحمل الأنا من جهة والأنا الأعلى المتمثلة بلميا حبيبة العمر والأهل والأصدقاء الذين تركهم ليدرس في الولايات المتحدة ويكسر بشكل أبديّ الصورة التراثية التي تتوج صراحة مملكة الأبوة والبنوّة على مستقبل الأبناء. "ماذا تفعل بشهادة في الأدب؟ تعلم؟ كان هذا ردّ الوالد مستنكراً... عال! ولكنّ الحب شيء وأكل الخبز شيء آخر..." (ص.19)
هذه العوامل وغيرها كانت محرّضاً أساسياً لولادة الاغتراب الزمكاني وتبدّل الهوية النفسية ليس فقط عند فؤاد فحسب بل عند لميا التي اضطرّت للعمل في دبي كمدرّسة والذي تلاه عقبات عاطفية كتحرّش من قبل طبيبها وانزلاقها الروحانيّ في عمق علاقة عاطفية مع جارها القديم عمر... الجار البيروتيّ المسلم الذي عرض الزواج على لميا المسيحية ولم يكن من الكاتبة إلّا أن قدّمت الزواج المدني حلّاً لتتويج هذا الارتباط بشكل ثوريّ بعيداً كلّ البعد عن صخب المجتمع ومعارضة الأهل والجامع والكنيسة... كان هذا الحل سقوطاً حرّاً للزوجين الذين سيوقعان نهاية ارتباطهما بالموت فيما بعد...
ولم تكن العودة من المهجر عند كل الشخصيات مرتبطة إلّا بالموت أو بالقلق، ففؤاد اضطرّ للعودة إلى لبنان بسبب حادث مفجع أفقده والده ومن ثم والدته، ولميا لم تعد إلا لتطمئن على أهلها وتهرب من القلق العاطفيّ الذي سبّبه دخول الطبيب وعمر إلى حياتها التي لم تتخلص من ذرات حبها لفؤاد.
أما الجانب اللافت فكان الحوار الرشيق بين فؤاد وابن اخته طارق في نيويورك. طارق الذي رفض التأقلم مع بيئته الجديدة، مع الرفاق الجدد، مع الأمكنة والأزمنة الغريبة. "حديقة الصنائع أجمل ألف مرة عندي. ليس فيها برك وبط وإوز، ولكن فيها رفقائي وأولاداً يتكلمون لغتي ويلعبون معي حتى لو لم أعرفهم" (ص.59). وهي اعادة لطرح المشكلة التربوية التي تسببها الهجرة أو الاغتراب، مشكلة الأهل الذين يعتقدون أنّ الحياة المستقرة والآمنة الخالية من عبثية الحروب كفيلة بجعل الأسرة ذات بنية متينة، وأنّ الموسيقى والمسارح والحدائق والساحات هي وحدها المنقذ للجهاز النفسي للأطفال، وكأنّ الكاتبة تشدّد على خطورة غياب الثقافة النفسية لدى الأهل وقد سلطت الضوء على ذلك من خلال حوار فؤاد واخته حول طارق الرافض للعلاج النفسي.
كلّ هذه الأحداث تثبت بشكل أو بآخر أنّ الشخصيات انصاعت للغربة والهجرة بغير إرادتها ولم تتأقلم مع حالتها ولم تتوازن طموحاتها مع الأمكنة والأزمنة وبقيت ذاكرة كل منها محمّلة بأوراق الماضي المليء بالحب واللهو والحنين والوجود.
الرؤية السياسية المتطرفة
رغم أنّ النص يدور في فلك الرومنسية الكلاسيكية والتخبط الاجتماعي الذي يعيد نفسه، وحول أحداث تركت أثرها على كلّ فرد منذ ثلاثين عاماً حتى الحاضر الشاهد على تشتّت الكل، إلا أن قطبة سياسية مخفية بين سطور الرواية قد حاولت الكاتبة إخفاءها وتمريرها بخفة من خلال حوار سامية مع أخيها فؤاد حول طارق وعرضه على طبيبة نفسية لحلّ مشكلته، تخلله عرض سبب هجرة سامية وعائلتها إلى الولايات المتحدة بسبب الوضع الاقتصادي والسياسي ، لكن المفارقة التي أضفت كراهية وتطرفاً هو التطرّق للوضع الأمنيّ غير المستقرّ وحصره فقط بوجود النازحين السوريين "... وقد زاد الطين بلّة نزوح حوالي مليوني سوري هرباً من الحرب في بلادهم. مساكين ولكن الحكومة تكشف كل يوم بينهم من ينتمي إلى إحدى المنظمات الإرهابية التي تفرّخ منها كل أسبوع عصابات بأسماء جديدة". (ص.62)
كيف لنا أن نحصر الانفجار الأمنيّ فقط بالسورين؟ وهل يخفى على كاتبتنا أنّ العصابات الإرهابية التي كانت وما زالت شعبة المعلومات تلقي القبض عليها تتفاوت جنسيات أفرادها بين السورية واللبنانية والفلسطينية أي بطبيعة الحال "الارهاب" لا جنسية له.
قد يكون الوجود الديموغرافيّ السوريّ بسبب الحرب سبباً من أسباب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لكن السبب هو وليد عجز وتراخي الحكومة اللبنانية على إيجاد حلول، أي بطبيعة الحال بات تطرفاً قول إن ما يزيد الطين بلة نزوح حوالي مليوني سوري. الأمر الذي ولّد رؤية عنصرية تلوح بالتحسّس من وجود نازحين وكأنّ الكاتبة تحاول القول إنّ سبب الهجرة الأقسى هو دخول النازحين إلى البلد.
العودة إلى الذاكرة الرمادية
يتوقف السرد بعد عرض مسار حياتيّ مشبع بالتراجيديا والأسى والانكسار والاغتصاب والتحرش والفقدان ليقفز ثلاثين عاماً إلى الأمام حيث يحاول فؤاد الجامعيّ المتقاعد البحث عن لميا بعد محاولات عبثية تكللت بالفشل خلال العقود الماضية وما الوصول إلى لميا والحوار ذات الإيقاع السريع ووجود "رضا" الجامعي اليتيم ابن لميا وعمر كعقبة أمام استمرار إحياء الودّ بين الحبيبين الجريحين حال دون تكوين نهاية واضحة لاحداث بدأت أزلياً محفوفة بالتشتت الفردي والضياع فما كان من الكاتبة إلا أن وضعت النهاية المفتوحة بعد إشكالية بقاء المرأة مع ابنها أو الجنوح نحو حبيبها وهي إشكالية أزلية كنقطة تنهي بوح الذاكرة الرمادية ذاكرة الحبيبين المتوازيين الباهتين "ولكن، هل أفضل لها أن تقضي وحدها أيامها التي لا لزوم لها، من أن تقضيها مع شخص آخر يعاني ما تعانيه هي؟ ظلّ سؤالها عالقاً هو أيضاً في الفراغ" (ص.202).
فقدان رواية تعدّ نصاً يحاول أن يستجمع ما فقدته الشخصيات والأمكنة والأزمنة وهي دعوة جدّية لإعادة النقاشات القديمة حول ظواهر تجدّد كالفيروسات نفسها وتتحوّر كلما استمرت الموروثات بالتنقل من عقلية تربوية إلى اخرى، هي الجرس الذي يقرع وسط أصوات سوداء.
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
العالم العربي
12/22/2025 6:32:00 PM
بيّنت الداخلية السورية أن هذه العملية تعكس مستوى التعاون الإقليمي المتين والجهود المتواصلة لمكافحة الشبكات الإجرامية المنظمة.
العالم العربي
12/23/2025 10:17:00 PM
أحد أبرز القادة العسكريين الذين قادوا مساعي توحيد المؤسسة العسكرية الليبية وعززوا علاقاتها الإقليمية والدولية.
المشرق-العربي
12/22/2025 4:35:00 PM
انعكس الانقسام حيال حصر السلاح بيد الدولة العراقية في مواقف قادة فصائل بارزين، بينهم قيس الخزعلي (أمين عام عصائب أهل الحق) وشبل الزيدي (أمين عام كتائب الإمام علي)، اللذان أبديا موقفاً مبدئياً مؤيداً للطرح، في مقابل رفض صريح من "كتائب حزب الله" وحركة "النجباء".
المشرق-العربي
12/22/2025 1:39:00 PM
ضبط صواريخ "سام-7" في مداهمة أمنية بدير الزور