الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"الديوان الإسبرطي" للجزائري عبد الوهاب عيساوي: صراع الأمم في ازدواجيّة الشخصيّات

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-
 
خارج الإطار الأكاديمي الجاف لدراسة التاريخ، جاءت الرواية التأريخية "الديوان الإسبرطي" للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي، مدوِّنةً لعذاب أمّته، التي خضعت لاحتلالين عثماني وفرنسي. وكان شغل الكاتب الأهم هو كتابة المعاناة من أجل إيضاح الحقيقة ونصرة الإنسان.
 
فازت "الديوان الإسبرطي" بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) بدورتها للعام 2020. إنّ صعوبة أسلوبها السردي يضع القارئ أمام السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي المعايير التي تتبعها اللّجان التحكيمية، من أجل تحديد الروايات الفائزة بالجوائز على اختلاف منشأها؟
 
القارئ العادي لا يتابع قراءة رواية لا تتّضح معالمها - كهذه الرواية- إلّا بعد تخطيه نصف السرد.
أمّا القارئ النّهم الذي يتملّكه شغف معرفة سبب فوز رواية ما بجائزة ما، فيستطيع الذهاب إلى النهاية؛ وما أشد خيبته عندما يجد نفسه أمام قصّة لا تستحق حتى الترشّح للجائزة، وكم تكون شهوته مجدية، حين تقوده السطور الى نهاية هادفة، كالحقل الذي ينشد قطرة ماء بعد عطش وسؤال.

"الديوان الإسبارطي"، رواية تصف الأفعال ونتيجتها، كذكرها حادثة المروحة الشهيرة عام 1827، وردود الفعل الكبيرة عليها من الفرنسيين. علمًا أنّها ابتعدت من الوصف، إلّا لمامًا، عندما وصف الكاتب الجزائر العاصمة "المحروسة": "وشاهدنا في الأفق مدينة الجزائر، تراءت لي في بياضها الرخامي وشكلها المثلّثي المنحدر. صفوف من السطوح يرتفع بعضها فوق بعض، وتتوزع القباب والمناثر والقصور داخلها". فوصْفُ الراوي للأفعال جاء بغية إيصال ماهية الفعل إلى عقل القارىْ، مثل وصفه لطير اللّقلق الذي أوحى بالتطير لناظره.
 
 
وصفُ الحقد الهادر في عروق عطشى للانتقام خلال السرد، وخاصة عند "كافيار"، ظلم الإيمان الحق: "زمرة هؤلاء المباركين الذين يعلون شأن المسيح"، "أتريد مجداً آخر تضيفه للإنسانية من أجل حقوق البائسين، أم أنك تعتقد نفسك مسيحًا جديداً "، يحضرنا هنا نقيض هذا الكلام في نص من الكتاب المقدّس للقديس يوحنا (18، 36): "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي ِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا."، فالسيد المسيح لم يطلب مجدًا دنيوياً ولم يكن لديه جيش.
 
هو الذي قال لنا: "فمن يرفع نفسه يتّضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت 23، 12)، بمعنى أن اكتمال الشخصية يقتضي التضحية ونبذ الذات. يمكن أن يكون الراوي مدركاً لهذه الأمور، ويصف حالة عامة لدى المسيحيين، من أجل مكاسب دنيوية؛ وما صدر على لسان شخصيات الرواية كان مخالفًا لأقوال شخصيتين مدركتين معنى الرسالة الإسلامية والمسيحية وهما ابن ميّار وديبون.
 
فهل بسبب طحن العظام المسروقة من مدافن الجزائر لتلوين مادة السكّر جُنَّ البشر حينها، وكانت النتيجة حروباً لم تنتهِ، مروراً بالحربين الكونيتين اللتين جرت معظم معاركهما الطاحنة على أرض أوروبية؟ "المجد لكم أيها المصنّعون، بعض الهزائم تبدو انتصارات في القلوب التي أظلمت بالخطيئة". اليوم استعمل الناس طحين عظام البقر علفًا لها، وكان سبب إصابتها بمرض "جنون البقر"، وأحجم البشر عن أكل لحم العجول. وكأن التاريخ يعيد نفسه!
 

هل أنّ الكاتب حاول تشبيه الإنسان اللّاهث وراء الكسب والمناصب، بالبقر، أم أنّ ثمّة تشابهاً في المضمون فقط؟
 
لم يعطِ الكاتب صك براءة للذين أحرقوا الكنائس في أوروبا، أو فجّروا المعابد الإسلامية والمسيحية على كلّ جغرافية الكوكب، في زمن جاء بعد صدور الرواية. بل تساوى جميع "الدواعش" في كلّ الأديان، عند قوله بعد تدمير مسجد السيدة بالمعاول وسط المحروسة:
 
"ترى كيف سيكون شعور أي مسلم لو حُطِّمت أبواب سان شابيل، أو القلب المقدّس، حتى كنيسة مريم العذراء"، فلطالما تنبأ الأدب بمستقبل البشرية والأرض، وما كان خيالاً أدبياً أصبح واقعاً.
 
حدّد الكاتب حطب الحروب، وخاصّة عند تغيير الدول. أصحاب الرساميل والأعيان، حفظوا رؤوسهم، أمّا شرفاء الروح، ولو مارسوا أقدم مهنة عرفها الكوكب الأزرق، فاندفعوا من أجل الوطن والإنسانية: "استغربت كيف لأولئك النّساء اللواتي يبعن أجسادهنّ كل يوم، أن يحملن هذا المقدار من الوفاء... تقبع الشريفات في بيوتهن، وتخرج البغايا للموت، ويفرّ الموسورون عند أول طلقة للمدافع".

بلوعة شديدة وحرقة روح وصف الراوي حيرة الأطفال، في زمن مُنعت مناقشة الأمور العائلية والوطنية، إذ باع المتنفّذون الإنسان والأرض لإرضاء أسيادهم الكبار: "ثم فجأة رأينا المتزوجين يساقون إلى الميناء يلتفتون إلى زوجاتهم المغاربيات اللواتي خلفوهن في الجزائر، والأطفال بينهم احتاروا أي جهة سيختارون".

لمدارك الروح لذيذ حبّ، الأجساد تُغوى بنيران العشق وتؤنسن بغمرة لطيفة عند اشتعال الهوى، لتستحم بعطر الشغف الجميل في سرير الانتظار: "لم أفهم كيف يقلب حضور أبي مزاج أمي بتلك الطريقة، إلّا حينما اكتشفت جسد الرجال وأدركت أن هناك شيئًا غامضًا فيه، لا يمكن القبض عليه إلّا في الظلمة، حين تختفي المسافة بينهما ويدثّرها غطاء واحد يتسلل الدفء إليهما ويتحرك ذلك الشيء الغامض، يخفق في البداية، ثم يتحول إلى صفاء".

ضمّت الرواية نفحة من فلسفة اللامعقول، التي ينتمي إلى مدرستها الكاتب العالمي ألبير كامو، عند اشتياق "مارسو" بطل رواية الغريب لسجنه وتمنيه العودة إليه سريعًا، فقد ورد خلال السرد في رواية "الديوان الإسبارطي" على لسان "كافيار" الضابط الأسير لدى العثمانيين: "وددت لو يقترب السجن فيكون بعد أول منعطف لألوذ به".
 
خطّان يتصارعان عبر شخوص الرواية، خطّ علماني أوروبي يقوده المنهزمون في معركة "واترلو"، مثّله "كافيار"، وآخر مثّله المشايخ والباشوات التابعين للأمبراطورية العثمانية قبيل أفول مجدها وقبيل تسميتها "الرجل المريض". يمكن أن تكون الحملة على الجزائر من الفرنسيين، رد اعتبار لنهج نابليون الذي هُزم ونُفي.
 
تستحق الرواية الجائزة العالمية للرواية العربية التي حصلت عليها، كونها من الروايات القلائل التي أرّخت معاناة الشعب الجزائري، ضمن المسافة الزمنية ما بين العامين (1815 و1833)، كما ألمحت في نهايتها الغامضة إلى تتابع الثورات في شرق أفريقيا إلى ما لا نهاية، فرحيل حمّة السّلّاوي إلى جغرافية الثورة وانتظار دوجة له، وعدم وضوح المدى الزمني لهذا الانتظار، كان مؤشرًا للثورة الكبرى في الجزائر، والتي ذهب ضحيتها مليون شهيد من أجل التحرر من نير الاستعمار الفرنسي. وما زالت الاحتجاجات والحركات التحررية من الظلم مستمرة، وكبح أبواق الحقيقة واقعًا ملموسًا، آخرها، على سبيل المثال لا الحصر، الحكم بالسجن ثلاث سنوات على الصحافي خالد درارني، لأنه لعب دورًا حاسمًا في تحليل وتوثيق وبث الاحتجاجات الجماهرية الأسبوعية في الجزائر، من أجل الوصول إلى الحقيقة. فيما وصفت هذا الحكم "مراسلون بلا حدود" بـ "الاضطهاد القضائي".
 
جاء هذا الفوز بالجائزة بالرّغم من ثقل الرواية، فهي متعبة على القارئ، لأن خيوطها لا تتضح إلّا بعد الذهاب بالقراءة إلى ما بعد نصفها تقريبًا. بالإضافة إلى سرد الرواية على لسان أشخاصها مرات عدّة، وفي كل مرّة كان يفضي السرد إلى القصة ذاتها، إلّا في نبذة واحدة أتت على لسان شخص واحد فقط، ألآ وهي إغفال المترجم -عن قصد- الباب المؤدي إلى القبو مكان اختباء السّلّاوي، والذي كانت تخفيه الخزانة.
 
خلال قصّة ليلى والذئب، جاءت الرواية عن لسان الراوي جاك بيرو فقط، لم يؤخذ رأي الذئب ولم يعطَ حق الدفاع عن نفسه، ولو حدث لكان هناك نص آخر مغاير. أمّا هنا، فقد أتت الرواية على لسان جميع أبطالها وكان بوحهم مشابهًا لبعضهم بعض.
 
لم يستطع الكاتب اختصار السرد على لسان شخص واحد، فلو فعل ذلك كان تقلّص حجم الرواية وزادت متعة القراءة في نهاياتها، وكان سيطر اتّساع غموض البداية على حساب المساحة الإجمالية للقصّة، وأصبح الإبهام مسيطرًا على غالبية الأحداث.
 
سرح عبد الوهاب عيساوي بقلمه الدامي؛ كتب حرفًا أليمًا ونبض وطن معذّب على ورق باكٍ، سائرًا نحو حلم الانعتاق، متكهنًا بجداول شهداء روت أرضًا مقاومة، لتكون للفقراء سعادة تسرح صلوات على ملامح وجوههم البريئة الطيبة، لا يدركها الحكّام ووكلاء الله على الأرض، فكانت روايته "الديوان الإسبارطي".
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم