السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"السماء تهرب كلّ يوم" لكاتيا الطويل: بوح كرسيّ الاعتراف

المصدر: "النهار"
كاتيا الطويل.
كاتيا الطويل.
A+ A-
 
سارة سليم

ذاكرة الأمكنة أكثر دواماً وبقاءً من البشر أنفسهم، لأنّها ترصد حيوات كلّ من تعاقب عليها على مرّ الزمان. واستنطاق الأمكنة أكثر صعوبة وتوغّلاً في النفس البشرية، لأنّ ما ستبوح به هو نتاج صراعات البشر عبر العصور، بين ظالم ومظلوم، سيّئ وطيّب، مُدعٍّ للفضيلة ونبيل. في خضمّ كلّ هذا ترى كيف سيكون حال هؤلاء جميعاً إن قرّر يوماً المكان تعريتهم، ليكشف من خلالهم إرهاصات مجتمع بحاله، مجتمع مشتّت تمزّقه الطائفية وينخره التشبّث بعادات وتقاليد تتحكّم في مصائر البشر، بل تفكّر عنهم وتقرّر بدلاً منهم. تُرى كيف ستكون فكرة الجماد عن هؤلاء؟
 
 
وكيف ستطرح تلك الأفكار، وكيف سيتلقاها القارئ؟ وخاصّة إن كان الجماد هنا كرسيّاً، وهو في العادة وسيلة للقعود على سبيل الراحة؟ ماذا لو اكتشفنا أنّ ذلك الكرسيّ ليس كأيّ كرسيّ! إنّه كرسيّ الاعتراف، ذلك الجماد الذي اعتاد أن يسمع فقط لا أن يحكي، أصبح يحكي ما سمع من حكايات... وها هي تفيض به السبل وهزائم البشر وقلة حيلتهم، ليعترف هو الآخر باعترافات الآخرين له؛ يروي لنا كيف استقبل بَوحهم عن عالمهم بكلّ ما يحمله من قسوة، وذلك ما ولّد لديه فكرة الإحساس بهم والتفاعل معهم بمشاعر إنسانية. اعتمدت الروائية اللبنانية كاتيا الطويل طريقة مبتكرة في أوّل أعمالها الأدبية "السماء تهرب كل يوم" الصادر عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان، وذلك من خلال استخدام الكرسيّ ليكون الراوي والشاهد الحيّ على اعترافات البشر. فالمُطّلع على الرواية لا يشعر للحظة بأنّه أمام أوّل أعمال كاتيا الأدبية، بل أمام سردية حقيقية، عرفت كيف تتحكّم في بنائها، وكيف تدير دفّة الحكاية لمصلحة الأدب.
 
 
"السماء تهرب كلَّ يوم" رواية عن المجتمع اللبناني الذي ما هربت منه السماء، إلّا بحثاً عن أيام أفضل تسطع فيها شمس الحياة من سماء الحرية. ففيها دعوة إلى أنسنة الجماد بينما تخلّى بعضهم عن دورهم أن يكونوا بشراً... تدعو أيضاً لكشف ملابسات الحياة التي تهرب منها كلّ اللحظات التي تكمل شعورها بالرضا، واستبدالها بكلّ الأمراض التي رُويت في لحظات الاعتراف، حتى جعلت من الجماد روائياً يتقن فنّ السرد، ويجيد لغة الصمت الذي يتبعه الإنصات. يعترف لنا هذا الكرسيّ بذنوب غيره التي أثقلت كاهله، لكن المفارقة في العمل أنّ كرسيّ الاعتراف هنا يعترف بما لم يقم به. ويفشي اعترافات الإنسان له، وكأنّ الكرسيّ يردّ لنا حكايات غيرنا لأنّها انعكاس لمجتمع اليوم، ولا يمكن أن تنفصل عنها. إنه يعترف بحكايات لم نروِها من خلال قصص من عبروا من خلاله، فعبّروا عن كلّ ما كان يقلق وَحدتهم. اعترافات جمعتها كاتيا في رواية بقصص تبدو للقارئ، من أول وهلة، منفصلة بشخصيات غير مكتملة، وكأنّ النصف عند كاتيا رمزية لاكتمال الأشياء بواقع الحياة، وكذلك يتعلق هذا بقدرة القارئ على استيعاب الرواية، من خلال مَلء تلك الأنصاف بما تمليه تجاربه الخاصّة.
 
 
عندما ننهي قراءة العمل يتضح لنا أنّ كلّ قصص السماء التي تهرب كلّ يوم مترابطة، فقد حاكتها كاتيا بمهارة وأجادت صناعة خيط سرد متين قريب للواقع، وقريب من الأدب. هذه الرواية من رحم المجتمع اللبناني، الذي عرفت كاتيا كيف تدخل إليه من زوايا غير التي اعتدنا أن ندخل إليها، حيث يختلي البشر بأنفسهم محاولين أن يكونوا أكثر صدقاً مع ذواتهم، مصارحين الكرسيّ بما يعجز بقيّة من عرفوه عن فهمه وتقبّله. فليس أكثر صدقاً من أدبية الأدب عندما ينقل الجماد اعترافات البشر على سجادة السرد، لتأخذنا إلى حيوات وقصص غير مكتملة كما أوضحت سابقاً، شأنها شأن كلّ شيء في الحياة. فالناقص هو من يأخذ بأيدينا صوب الحقيقة، التي لن تهرب يوماً بل تكون أكثر وضوحاً لمن استطاع أن يفسّر الأدب من خلال الحياة. تمكّنت كاتيا الطويل من أن تنقل إلينا حياة مجتمع بحاله من خلال كرسيّ، كما عبّرت على لسانه: "مصائبي سببها الناس. كلّ الناس مصائبهم الناس... أنا مقعد خشبي مهترئ صرت أشبه البشر...".
 
من خلال هذا الكرسيّ المهترئ، الذي صنعت منه كاتيا قاصّاً وصاحب مشاكل هو الآخر، غير أنّ مشاكله سببها البشر! فمن خلال العنوان ورمزية السماء والألوان وكرسيّ الكنيسة، استطاعت كاتيا الطويل أن تكتب تجربة مختلفة تعبّر عن المجتمع اللبناني بكلّ ما يحمله من طائفية شتّتت هذا الشعب، بل دمّرت كلّ سبل الحياة فيه، لتنتقل إلى فكرة الإنسان في كلّ مكان وعلاقته بالجماد وبنفسه، في توليفة أدبية كان لكاتيا السبق في أن تتناولها كما يجب أدبياً وإنسانياً. فكانت حاضرة كشاهد عيان على الأحداث من خلف كرسيّ الاعتراف، فكانت الأديبة التي متّعتنا "بالسماء تهرب كل يوم"، حتى اعتقدنا بأننا لن نهرب يوماً من سردها. باعتبار أنّ "السماء تهرب كلّ يوم" أول أعمال كاتيا الطويل لا يمكن القول إنّها مجرّد بداية جيدة لها فقط، بل انطلاقة حقيقيّة لكاتبة جيّدة وقارئة عارفة، استطاعت أن تبرهن أنّ الكاتب هو نتاج قراءاته، بالإضافة إلى الموهبة والقدرة على تحويل كلّ ذلك إلى عمل أدبي.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم