الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"تحوّلات النقد الأدبي في الصحف العربية" لليندا نصّار: شقاء الاستمتاع بلذّة الفكر

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-
 
النصوص في معانيها خفايا مستترة، يكاد لا يُدرك جوهرها إلّا بالنّقد. فكيف إذا كان هذا النقد لنصوص النّاقد، كما في كتاب "تحوّلات النقد الأدبي في الصحف العربية" لليندا نصّار، الصادر عن "خطوط وظلال للنشر والتوزيع".
 
تدور في هذا البحث رياضة فكريّة، فيها شقاء الاستمتاع، وبصيرة ركوب المعاني، وتماثل الآخر عند لذّة الفكر. فيقرع باب العقل، ليصبح الغموض معادلّا لفرح يحمل وضوح مزالق الحبر أو جماليته. كتاب نافذة، يلج منها إدراك القارئ إلى آفاق المتعة الغيبّية، فتستفيق اللّحظة في ذهول الحقائق وخشوع المنطق بظلال الصفاء، وتصبح أسئلتنا أجوبة.
 
بعد الإهداء، تقرأ عند عتبة الكتاب، المقدّمة، التي أضاءت على الواقع الذي يلاحق العصرنة، متسلحًا بالثقافة لإدراك الوعي، من خلال النقد الأدبيّ في الإعلام الثقافيّ. لتلج بعده إلى مقطع "تعريف الموضوع"، عند التّمعّن في هذا المقطع، يمكن للقارئ أن يعي أهمية الإعلام الثقافيّ، عند اندماجه في ماهية التنمية "بوصفها تدخل حتّى في صناعة الإنسان المواطن الذي تحتاجه البلدان العربيّة". ينطلق البحث بقوة اعتبارًا من مقطع "مسوّغات البحث"، الذي قاربت بنوده "محاولة فهم الأزمة الحقيقيّة التي هزّت صلب الصّحافة اللبنانيّة عمومًا، والصحافة الثقافيّة خصوصًا". ارتبط "تحديد الإشكالية" بأمور عدّة أهمها السؤال عن الإعلام الثقافيّ و"إمكاناته في خلق وعي جماليّ يرتبط ببناء المسافة النّقديّة، وتشكيل وعي جديد ومفارق لما هو سائد داخل أنماط التّلقّي التّقليديّة في أعداد معيّنة من جريدتي "النهار" و"السفير".
 
ها هي "الفرضيات" بين تسليط الضوء على "المقارنة بين الكاتب المتخصّص في مجال النّقد الصحافيّ، وبين الكاتب غير المتخصّص" مكتشفة "غياب المتخصّصين في النّقد الأدبيّ عن الصفحة الثقافيّة"، هنا يحضر أمامنا فحوى كتاب "في غياب الناقد" للدكتورة مارلين مسعد، الذي تكلّمت خلاله على النقد بالإجمال وليس على النّقد الثقافيّ الإعلاميّ حصرًا، كما في هذه الدراسة.
 
اختارت الكاتبة ضمن "منهج البحث"، "مقاربات علميّة متوخيّة الوصول إلى نتائج جديدة"، لذلك فُرضت عليها "دراسة النّقد الأدبيّ في الإعلام الثقافيّ المكتوب" فاضطرت الاعتماد على "المنهج الوصفيّ التّحليليّ والمنهج الاجتماعيّ والنقد الثقافيّ والتلقّي والتأويل".
 
ضمن مقطع "تحولات تلقّي النّقد" أسهبت نصّار في دراسة مقالات الدكتور علي نسر فوجدت مكوّنين أساسيّين يطبعان كلّ نقده، هما: "النقد الانطباعي، والنّقد الأكاديميّ العلمي".
 
أكثر ما يطبع هواجس الناقد هو رهاب العناوين، هل يختار عنوانًا يجذب القارىء ضمن هذه الغابة الكثيفة من المنصّات الإلكترونية، أم يضع عنوانًا يدل على فحوى النّص وعلاقته بالمادة المنتقدة؟
فقد أوضحت الباحثة أن علي نسر قد "وسم عتبات عناوينه بالاستناد إلى اللّغة الإبداعيّة القائمة على الخرق الدلاليّ كما لو أنّه يعنون عملًا أدبيًا"، خاصّة في نقده لأشعار الشاعر إهاب حمادة. نجح من خلال صلب مقالاته إلى حدّ كبير، في تأدية الموضوع الجديد ضمن النقد الصحافيّ، وأسهب بشكل فعّال في نجاح النّقد العربيّ الانطباعيّ، الذي أعلى شأن النّقد الثقافيّ في الصّحف العربيّة.
 
من خلال تشريح نصوص الكتاب لنقد علي نسر، نجده يتموضع في فردوس النّقد شغفًا، وينصاع لهدف الناقد، محمِّلًا قارئ مقالاته حرارة وعفوية وتشويقًا ملتهبًا، تجعله مبدعًا على غرار الكاتب الذي نقد أعماله.
 
حين وصفت الباحثة نقد علي نسر لديوان الدكتور جورج غنيمة "مساكن بيضاء لريشة كحليّة" غاصت بعبقريته من جهّة اختيار العنوان لموضوع النّقد "سنابل كلام". فلم ينساق النّاقد إلى التصميم والتقييم التلقائي، بل استطاع أن يعزف على وتر تفاعل القارئ مع نصّه، من خلال انبثاق عنوانه التعبيريّ من مدلول عطاء ذهنيّ متمثّل بسنابل الفكر.
 
بعد التمحيص بجميع المقاطع التي وضعتها الكاتبة بالنسبة لنقد النّاقد علي نسر، نلاحظ أن النّقد الصحافيّ المستجدّ في موضوعه، جعلته ناقدًا إنسانيًا وحضاريًا، يكتب المنقود بإبداعيّة تمحو التناقض الظاهريّ في المعنى والمبنى، بين الناقد والمنتقد، ليصير تفاعلًا على مستوى مصيري، في تفتّح أفق جديد للنّقد الإعلاميّ، ومزجه بفلسفة النقد التقليديّ بواقع إيقاعي جميل، يضع شوائب النص المنتقد أمام بصيرة القارئ.
 
وسمت ليندا نصّار الكتاب بالوعي النّقديّ الذي مارسته الدكتورة نازك بدير "... أنّ نازك بدير تمارس الكتابة النّقدّية الصحافيّة بوعي كبير بسياقات الإنتاج النّقديّ الصحافيّ، ذلك أنها عملت على إحداث تفاعل بديع بين آليات النّقد العلميّ على المستوى الإجرائي بما يوافق القرّاء المتخصّصين وغير المتخصّصين".
 
ترافق هذا الوعي مع حضور الشخصيّة المحبّبة للناقدة نازك بدير من خلال النصوص الأدبيّة الموازية للنص المنتقد، بأسلوب جميل بعيد عن الأسلوب الأكاديميّ الجاف، ..." وهو ما نلامسه في كتابات نازك بدير التي حافظت على علميّة المفاهيم عبر جعل النقد فنًا غير جاف".
 
من خلال السرد العلميّ، نقع على تقنية الباحثة المدركة لماهية الناقد وصفات الراوي. فقد شرّحت نازك بدير مؤلفات الدكتورة ناتالي الخوري غريب، وأخرجت منها المفترض، الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى هدف واضح، حيث غاصت في أعماق روح الحبر، من أجل إظهار الإبداع الكامن في النصوص. تقول نصّار في هذا السياق: "نجد أنّ نازك بدير عملت على استخلاص وظائف الإبداع انطلاقًا من القضايا التي تمحورت حولها قصص (العابرون) عبر استجلاء مواطن الأسئلة التي تستنبطها القصص".
 
 
العناوين عند نازك بدير، مختلفة عن التي استعملها علي نسر، فقد استعملت الواقعية في كلّ عنوان متقيّدة بمعاني النّص المنتقد، ممّا جعل نصّها وعنوانه روحًا واحدة، لأجل هدف إيصال المعنى بشوائبه وجمالاته، تقول الباحثة عن عنوان بدير "ناتالي الخوري.. الكتابة وتحرير الذات": "لاحظنا أنّ هناك تقيدًا بمرامي النّقد، حيث لا توجد اللغة الاستعاريّة أو المجازيّة التي تجعل من العناوين شبيهة بالأعمال الإبداعيّة بحيث لا يميّز القارىء العادي هل هو أمام نصّ إبداعي أم نقد للنصوص"؟ من هنا يظهر الوضوح في المعنى والمبنى ضمن نصوص الناقدة. أظهرت نازك بدير، الأجوبة الفلسفيّة المغلّفة بالأسئلة، التي تكمن جواباتها داخلها في روايات ناتالي غريب. فرواية "حين تعشق العقول" ختمت في سطورها ثلاث مئة واثنان وعشرون علامة استفهام، ثلاث مئة وإثنين وعشرين سؤالًا، فظهرت هذه الأسئلة كأنها بيادق خادمة لسرّ الرواية، الذي هو علامة الاستفهام الكبير. استبان هذا عند نقل الباحثة قول بدير حول روايتي الروائية غريب "حين تعشق العقول" و"هجرة الآلهة والمدائن المجنونة": " إلّا أنّ هذه الهواجس برزت عند الكاتبة بأسلوب مختلف في هذه المجموعة المثقلة بالرموز اللاهوتيّة".
 
إنّ الروائية ناتالي الخوري غريب تظهر من خلال نقد بدير وتحليل نصّار لهذا النقد الرائع، كاتبة يصخب مع إيقاع نصوصها، إيقاع الإبداع والحرية والحبّ والفلسفة. وتغوص في بحور الإنسانيّة المعذّبة، محاولة وضعها على طريق خلاص المجتمعات، وإفهام القارئ والباحث والنّاقد بأنّ الأديان جميعها تحمل حقيقة الوجود ومن أوجده.
 
أمّا السمات التي طغت على عتبات النّاقد عباس بيضون، حسب نصّار، تميّز نهجها "بأسلوبيّة القراءة النقدية المفتوحة التي وظّفها، ولم يستطع بواسطتها خلخلة واستنطاق الحدود الفاصلة في ماهية الجنس الأدبي"، فقد حاولت الباحثة تخطّي حدود القراءة المفتوحة، والغوص في مفاهيم خاصة بنقد بيضون بوصفه جنسًا أدبيًا مفتوحًا. 
 
أمّا بالنسبة لنصوص عقل العويط، فبينت نهج نصوص الكتابة لديه، التي صدحت بمشاعر وأحاسيس وجالت بحريّة ضمن أعماله الإبداعيّة الأدبيّة. في هذا السياق تقول الباحثة: "نلامس مدى إغراق النّاقد في استحضار اللّغة الإبداعيّة عوض اللّغة النقدية القائمة على تسمية الأشياء بمسمّياتها من دون الخضوع والرضوخ لميسم اللّغة الإبداعيّة".
 
إذا كان النّاقد مرآة، يرى من خلالها القارىء نصّ الكاتب بمكوّناته التقنيّة والأدبيّة والجماليّة، وتُظهر الرداءة والجودة في النصوص، من أجل اختيار الكتاب من بين آلاف الكتب، فناقد النّقد كليندا نصّار منظار سحري. هي الّتي حدّقت بنهم دون وجل، وجعلت نقّاد الصفحات الثقافيّة في الإعلام حذرين لنقدها البنّاء. فنزعت عنهم "تمكيجهم" كاشفة التزامهم أو عدمه بعناوين تجاري النصوص. فقد وجدنا في كتابها "تحوّلات النّقد الأدبيّ في الصّحف العربيّة" من المناعة ما يكفي لقول الحقائق المجرّدة.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم