الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"عطر الهوى" لأيمن رؤوف القادري: تقميش الرؤى على مذهب عروة العذري

المصدر: "النهار"
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-
 
كتب: الحسام محيي الدين

ولو بعد حين، وبضع سنين، يؤكد الشاعر الدكتور أيمن أحمد رؤوف القادري في ديوانه "عطر الهوى – أوراق الغزل" الصادر في بيروت عن "دار مختارات" عام 2009 أنه يكتب الشِّعر بفِكره، كي لا يكون صورةً طَلَليةً عن غنائية النظم في فضاء الشعرية العربية متحيّناً التجديد بأصالة الكلمة على الرغم من احتفائه بالوزن الخليلي في كل القصائد بين دفتي ديوانه، وكي يصيرَ حالة تقميشٍ للرؤى بما آنَ فيهِ أوانُ الإجابةِ عن الأسئلة المُرجَأة في تاريخ العلاقة بين رجل وامرأة على مذهب عروة العذري والمجنون العامري! معلناً بذلك مبادئ الخلاص من ضجر التذمُّر العاطفي الذكوري، القلِق نصاً وروحاً وهو يقبض على أطراف الشِّعر المحلي اليوم كلما عاندته أنثى وجافته امرأة.
 
في وعينا الشعري، لم تكتب العرب في حب الزوجة إلا القليل من القصائد المفردة التي كان جلها في مناسبات حزينة كالموت. كرثاء جرير الشهير لزوجته خالدة قديماً، ورثاء نزار قباني لزوجته بلقيس حديثا. لكن الامر وان لم يخرج عن تلك المناسبات فإن هناك دواوين تامة، على قلّتها، نظمت في الزوجة الفقيدة وتعداد صفاتها ومآثرها ومحاسن أخلاقها . وإذ عاند القادري هذه الظاهرة قصدا أو بدون قصد، فإنه قد فعلها! لأنه أشهرَ في تقديم ديوانه أنه إنما يعرض أوراقا من الغزل الطاهر لحبيبته التي أصبحت زوجته، ولأنه، وقياساً على الموروث الشعري العربي الضخم، فإن القليل النادر من الشعراء العرب قد نظم ديوانا بأكمله وأعلن أنه في حب زوجته التي يعيش معها حية ترزق تحت سقف واحد . كتب منوهاً متأوهاً في الزوجة الحبيبة من مقامات الأحاسيس ما شق عليه منها بعداً وقرباً، ولم يشقّ علينا التفاعل معه نصاً وروحاً، في تنويع ذاتي على درجات ذلك الحب التي توافقت وحركات قلبه الذي يلقى ما يلقاه: 
يا منى عمري ويا كل المنى آه لو تدرين: ما ألقى أنا؟
آه لو تدرين كم أطلقتها زفرات مفعمات بالضنى
آه من قربك كم أحرقني آه من بعدك ماذا قد جنى؟
حير القلب طبيب ماهر فهناك الجرح والجرح هنا!
 
عطر الهوى ديوان حركة ونقاش وصراحة وحوار في قصة حب ذهبت في عفتها وعفويتها كل مذهب بعيداً من الغلو أو التنكر للواقع وفي فهرسة مخلِصة لأحوال العاشق الثائر حينا والساكن آخر ، مع المرأة التي تمرحلت أشواقه إليها ولم تخذله . هكذا يصطحبك القادري إلى القصيدة الكفؤة في لغتها الواضحة وصورها البلاغية التي تبلغ بنا نجاح اللحظة الشعرية بالكلم المتدارَكِ بالسجية عفواً، والمتنسم أترجّة الكبرياء الربيعيِّ الكوامن، وقد فيّض القصيدة بأسئلة الروح الحائرة بين فيصل البوح، وغموض الصمت:
فراشتي أنت، ولكن زهرتي لن تطلق البرعم إما تأمري
لا تسألي: كيف ؟ لماذا ؟ أو متى ؟ وما جواب الجاهل المستفسرِ؟!
إن كنت تعلمين ما السر ؟ انطقي أو فابحثي معي غموض الخبر
إن شئت أن تنتظري فانتظري أو غادري حقلي... ولا تعتذري!
 
ولا ينفك القادري ممسكا بالمستوى السيميائي لتلك العلاقة، بين المرسِل والمرسَل إليه والعوامل المساعدة والمعاكسة بين الذات والموضوع، ليعبر عن ذلك فنياً بما يؤكد جمالية التجربة في فضاءَي المكان والزمان وتحقيقها كينونةً ورؤيا: إذ لا مكان بلا زمان، والعكس أيضا ناجز: روحُ الصدى المكانيّ في صدى الروح الزمانيّ وإلتقاطِ اللحظة الجمالية لتلمُّسِ كليهما فكراً وحسّاً في متن النص الذي يتكوّرُ على ذاته كقيمةٍ مُصاغة ببُعدٍ فانتازي هدهَدَتهُ المشاعر الصادقة بالتلازم والتوازي مع محاكاة المُعطى الحداثيّ لمعنى الشعر بين الدال والمدلول، وهو ما تمخضَ عن ثقافة وخيال ووعيٍ وتجربة أقام عليها الشاعر عمارته الإبداعية في تكثيف المعاني حينا، وترتيبها حينا آخر ، دون إعياء الألفاظ، ووفاق الموقف الغائي الخاص الذي يفتح المدى للكبرياء المتبادل بين مقول الحبيبة وأفعال الحبيب:
قولي أحبك قوليها بلا وجل تدرين ما كتمها في النفس يرتكب؟
قولي: أحبك كي أشفى برنّتها فبالندى يستعيد الرونقَ العُشُبُ
أنت الحبيبة، أنت البسمة ارتسمت على الشفاه، وفي عينيك لي كتُبُ!
 
ولا تنتهي مطْلقاتُ الكتابة للشاعر الذي يترك بعض القصائد منسابة بحيادٍ مطلقٍ وواع، وبعفوية دافئة دافقة تتنكب عن مشيئته لتخلق اشتغالاً دلالياً بيننا وبينها، لا معماراً خارجياً بنائيا مجرداً كما نعرفه بالمعنى المباشر فحسب، بل امتدادا لأوصال العلاقة بين المعنى واللغة بناءً فنياً مُنجزاً يتنبَّهُ لخطأ التفكُّك وتلافيه في الفكرة المتسلسلة بين عبارة وأخرى بعيداً من تهويمات النوايا وإسقاطات التفاسير التي تخلق فينا أوجاع الدخول الصعب إلى القصيدة بما قد نفاجأ أنه لا يستحق العناء ! إنه ديوان القصائد العذارى، وما ينثالُ من لعاب الأنوثة عن أفواه مفرداتهن المرمّزة التي تتأول عذوبة الاختصار المتورد بعناب الرغبة لما لا يقال، حتى يقال: 
كوني السنا يهدي إليّ وميضه في غمزة توحي بها عيناك
فكي قيودي بالحروف تهزني ولتنتصر لقضيتي شفتاكِ.

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم