الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

"الحرب الهادئة: مستقبل التنافس العالمي" لنوح فلدمان: هل نعيش حقاً حرباً باردة جديدة؟

المصدر: "النهار"
عنوان الكتاب.
عنوان الكتاب.
A+ A-

صلاح الدّين ياسين

كتاب شيق فعلاً صدر عن تكوين للدراسات والأبحاث، ترجمة هشام سمير، ومن تأليف نوح فلدمان المفكر والبروفيسور الأمريكي بجامعة هارفارد، والذي يعد من أنصار الحوار بين الحضارات ودعاة تبني نهج منفتح إزاء القوة الصينية الصاعدة. يحاول من خلال كتابه هذا تفكيك أبعاد وخبايا التنافس الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين لشغل موقع الصدارة في النظام الدولي. فما الذي يعنيه الكاتب بوصف "الحرب الهادئة" بين القوتين المتنافستين؟ وكيف يمكن فهم دوافع القيادة الصينية وسماتها المميزة؟ وما عواقب التنافس الدائر وتداعياته على ملامح النظام العالمي الجديد؟

عن معنى الحرب الهادئة

إن التنافس الدائر حالياً بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوة الصينية الصاعدة لا يمكن مقارنته بمنطق الحرب الباردة التصادمي، ذلك أن الحرب الهادئة الجديدة وإن كانت تشهد تنافسا جيوسياسياً واستراتيجياً بين القوتين المتنافستين لقيادة النظام الدولي، فإنه يصعب التعامي عن الترابط والاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث تعتبر الأخيرة الدائن الأكبر لأمريكا، كما أن الصين يعتمد نموها الاقتصادي إلى حد لا بأس به على السوق الاستهلاكية الأمريكية الواسعة، بخاصة إذا علمنا أن حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي للصين يرتكز على التجارة. هذا خلافاً لما كان عليه الحال إبان حقبة الحرب الباردة، إذ كان التعاون الاقتصادي بين القطبين المتنافسين شبه منعدم.  

إن الترابط والتعاون الاقتصادي المتبادل بين القوتين الأمريكية والصينية يقلل من احتمالات الصراع العنيف بينهما في ظل نظام اقتصادي وتجاري معولم قائم على حسابات دقيقة، ومن ثم سينصرف الصراع بين القوتين إلى مجالات جديدة وبخاصة الحروب السيبرانية التي أمسى تأثيرها يفوق الحروب الكلاسيكية لاسيما في ظل عدم وجود قواعد دولية موحدة تنظم هذه النوعية من الحروب المستحدثة. وإلى جانب ذلك، فإن ما يميز الحرب الهادئة الجديدة هو تراجع دور الأيديولوجيا بخاصة بعد تخلي الصين عن شيوعية ماو التقليدية وتبنيها للنظام الرأسمالي. غير أن هذا لا ينفي وجود منظومتين فكريتين متمايزتين، إحداهما تنهل من قيم الديمقراطية الليبرالية، والأخرى تتشبث بديكتاتورية الحزب الواحد مستحضرة القيم الآسيوية التقليدية التي تحث على الطاعة والانضباط.

ماذا عن القيادة السياسية الصينية؟

إلى جانب المرونة الأيديولوجية التي تتمتع بها القيادة الصينية المتمثلة في الحزب الشيوعي، فإنها تستند إلى النمو الاقتصادي كمقوّم أساس لشرعيتها، لا سيما في ضوء غياب انتخابات ديمقراطية وانعدام الحقوق المدنية والسياسية الأساسية. هذا دون إغفال الحرص على إذكاء النزعة القومية الصينية، وهو ما يفسر سعي القيادة الصينية إلى ضم تايوان المجاورة، لكن ذلك المسعى يصطدم بالحماية التي تتلقاها الأخيرة من أمريكا التي تخشى أن يضر فقدان تايوان بعلاقاتها مع حلفائها في المنطقة (اليابان، كوريا الجنوبية...)، إذ ستبدو حينئذ بمظهر العاجز عن الوفاء بالتزام حماية أمنهم القومي مما سيعرض مصداقيتها للخطر. غير أن الكاتب يتوقع أن تفلح الصين في استعادة الجزيرة دون الاضطرار لاستخدام قوتها العسكرية، في حال توصلها إلى القدر الكافي من الردع العسكري، وتقديمها لصيغة شبيهة بـ"دولة واحدة ونظامان سياسيان مختلفان" المطبقة في هونغ كونغ حتى تحفظ ماء وجه أمريكا وحلفائها الغربيين.

وفيما يخص البنية التنظيمية للحزب الشيوعي الصيني، فإن الترقي في المناصب القيادية والعليا يتطلب الانضمام إلى إحدى شبكات العلاقات الشخصية القائمة. غير أن ذلك لا يعني بأن النظام السياسي الصيني يكتسي طابعاً مغلقاً بالكامل، إذ توجد إمكانية للتداول على المناصب والمسؤوليات عن طريق عقد المؤتمرات الدورية للحزب، والتخلي عن المنصب بعد بلوغ سن محددة لإفساح المجال أمام الأعضاء الأصغر سناً. كما تسمح الحكومة الصينية بقدر محدود ومتحكم فيه من النقد الشعبي مما يتيح هامشاً من المساءلة وفرض الرقابة على المسؤولين المحليين.

وبالرغم من أن الصين لا تشارك الولايات المتحدة الأمريكية معايير الديمقراطية الليبرالية، فإن نظام التنخيب في كلتا الدولتين يعتمد على المزج بين استيعاب أصحاب الكفاءة وتوريث النخبوية (مثال عائلة بوش وكينيدي بالولايات المتحدة الأمريكية). وبرأي المؤلف، فإن هذا النمط المعتمد والهجين لفرز النخب يعد أفضل نظام ممكن، ذلك أن النخب القائمة لديها حافز قوي للإبقاء على النظام قويّاً كي يجد أبناؤها موطئ قدم فيه بالمستقبل، كما أنّ إفساح المجال أمام أصحاب الكفاءة وإمكانية التداول على المناصب يحدّ من مشاعر الإحباط الشعبي التي قد تفضي إلى ثورات وانتفاضات عنيفة.

تداعيات الحرب الهادئة

إن الحرب الهادئة بين أمريكا والصين ستولد حتماً سعي كل طرف إلى كسب أكبر قدر ممكن من الحلفاء في صفه، إلا أن التحالفات الجديدة التي ستتشكل ستكون مختلفة عن نظيرتها في الحرب الباردة، لأنها لن تبنى على منطق صفري "إما معنا أو ضدنا"، بحيث ستقتصر في الغالب على الأبعاد السياسية والإستراتيجية بالنظر إلى الترابط الاقتصادي والتجاري الوثيق بين أطرافها. وكمثال على ذلك، تعد الولايات المتحدة الأمريكية الحليف العسكري الأقوى للدول المطلة على المحيط الهادئ (اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا...)، بينما تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لتلك الدول، وهو ما ينسحب أيضاً على العلاقات الاقتصادية الوثيقة التي تربط الاتحاد الأوروبي بالصين.

ومن المتوقع أن يتأجج التنافس بين الطرفين حول المناطق التي تعج بالموارد الطبيعية والطرق الإستراتيجية للنقل والتجارة، إذ تحاول الصين إيجاد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط للتزود بالطاقة الرخيصة عبر النافذة الإيرانية، في حين ما فتئت الولايات المتحدة الأمريكية تستند إلى حلفائها التقليديين من دول الخليج العربي. كما أنّ الصينيين تمكنوا من بسط نفوذهم على القارة الإفريقية الغنية بالموارد، مستفيدين من نزعتهم البراغماتية الخالية من أي عقيدة تبشيرية أو استعلائية. وفي مواجهة ذلك، يقترح الكاتب على القيادة الأمريكية إقامة رابطة عالمية من الديمقراطيات تضم أيضا الهند المتوجّسة من الصعود الصيني.

وعطفاً على ما سبق، من المتوقع إعادة الاعتبار للدور الذي تلعبه المنظمات الدولية (منظمة الأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية...) في خضم الحرب الهادئة، وعلى نحو خاص مجلس الأمن الذي تمتلك فيه الصين بدورها حق النقض، مما قد يسهم في استتباب نوع من التوازن بين القوتين المتنافستين على أساس القانون الدولي. كما أن هيمنة الشركات متعددة الجنسيات لن تكون مطلقة في ظل حاجتها لدعم حكوماتها القوية من أجل اختراق الأسواق المنافسة (كمثال على ذلك، بعد فشل رهان شركة "غوغل" على السوق الصينية الضخمة، ضغطت بشدة على حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لرفع شكوى أمام منظمة التجارة العالمية ضد الحكومة الصينية موظفة خطاباً حقوقياً انتقائياً)، وخصوصاً أنّ الشركات الصينية تعد أذرعاً بيد الحزب الشيوعي الصيني الذي يحكم قبضته على مفاصل الدولة.

وفي الختام، لا يعتقد مؤلف الكتاب بأن الحزب الشيوعي الصيني لديه القابلية لإجراء إصلاحات ديمقراطية نوعية وإقرار الحقوق الأساسية للمواطنين، لكون أن ذلك من شأنه أن يضعف من نفوذه المحلي وينذر بانهيار نموذجه في الحكم على شاكلة ما وقع في تجربة الاتحاد السوفياتي. غير أنه في المقابل، من المرتقب أن تؤدي النزعة الاستهلاكية المستحكمة إلى ظهور المزيد من الفردانية في المجتمع الصيني، ومن ثم مطالبات أكثر بتحسين أوضاع حقوق الإنسان. ومن جهة ثانية، يقر نوح فلدمان بأن جميع أطراف الحرب الهادئة قد تخرج منتصرة في حالة تغليبها لحس التعاون والشراكة إزاء القضايا الملحة (الاقتصاد، أزمة المناخ، الحد من التسلح...)، فضلاً عن الانكباب على تحسين رفاهية الشعوب بدلاً من خوض الصراعات العنيفة والعبثية.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم