الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

نساء بين الواقع والتجريد

المصدر: النهار
نساء بين الواقع والتجريد
نساء بين الواقع والتجريد
A+ A-
خالد زيدان 

سافرت الأسبوع الفائت الى العاصمة الفرنسية باريس بداعي العمل. الزيارة استمرّت بضعة أيام، تخللتها، إضافة الى ما ذهبت من أجله، القلق الدائم على عمل البطاقة الائتمانية الـ Fresh، ومجموعة طلبات من الأهل والأصدقاء، التي تكاد تكون جميعها أدوية، لم يعد من السهل إذا ما أردنا القول من المستحيل، العثور عليها في بيروت. هذا هو واقع اللبنانيين هذه الأيام. الميسور ومحدود الدخل، المقيم والمغترب، جميعهم قلق وفي حالة نكران لما وصلت إليه الأمور. الجميع يبدو وكأنه استسلم للواقع ويحاول المحافظة بالحد الأدنى على حياة طبيعية في انتظار الفرج.
 
ولكن لأعود لموضوع هذا المقال والذي هو بعيد كل البعد عن يوميّاتنا في بيروت في هذا الزمن الرهيب. في هذه الرحلة، كان لي نصيب زيارة معرض الفن التشكيلي المخصص للنساء "Women in Abstraction" المقام في مجمٌع بومبيدو الثقافي الشهير. احتضن المعرض مجموعة أعمال لـ 40 الى 45 فنانة من العالم، لفترة تمتد من عام 1850 والى يومنا هذا. الأعمال بمجملها من اللوحات الزيتية ولكن أيضاً تضم أعمال نحت، وتصوير وحتى الاستعراض والرقص. المعرض خلاصة أعمال إبتكارية كانت لها بصمة أساسية في التاريخ الفني بشكل عام وليس الأنثوي فقط. أعمال تضمّنت بمعانيها تجربة إنسانية ترجمت الى فن، بعضه استحسنته شخصياً والبعض الآخر حرك مشاعري. 
 
من ضمن ما شاهدت كان عمل للفنانة الأميركية Georgiana Houghton، التي كانت تدعي أن أعمالها مستوحاة من عالم الغيب؟! إلى Lyubov Popova، الفنانة السوفياتية والتي تعتبر من أهم الشخصيات الفنية في مرحلة ما بعد الثورة في روسيا. المعرض ضم أيضاً أسماء لامعة في عالم الفن مثل Georgia O’keeffe و Louise Bourgeois وغيرهن من مشاهير الفنانات في العالم. 
 
الى الآن قد يبدو للقارئ أن هذا المقال هو سردية لزيارة هاوٍ للفن لمعرض في باريس، وفي حقيقة الأمر هذا كان ما توقعته في بداية الزيارة الى أن مررت على أول عمل  لفنانة لبنانية، ثم عمل آخر وآخر وآخر! بدهشة اكتشفت أن المعرض الذي يضمّ أعمال لفترة زمنية تناهز 125 عاماً يضم مجموعة لوحات ومجسّمات لأربع رائدات لبنانيات عبٌرن عن فكرهنّ المتدحرج نحو الحداثة، وحقيقة كل واحدة منهن بصدق وإخلاص وتحرّر. في أعمال سلوى روضة شقير، هوغيت كالاند (إبنة بشارة الخوري)، هيلين خال وإيتيل عدنان نرى أنفسنا كلبنانيين..
 
وكأن كل منهن امتصت اضطرابات وتناقضات لبناننا لتحوّلها عبر الألوان والخيال، لغة إنسانية عابرة للشعوب والأعراق. لغة تجلد نفسها حيناً وتواسي آلامها أحياناً أخرى. لغة هي مزيج من حب nostalgia لوطن هو عبارة عن اوطان والحاجة للاغتراب. نرى فيها تطور الفكر وخروجه من عصبيّات المجتمعات الشرقية الى التحرر الحقيقي وإثبات النفس. بهذه الطريقة عبّرت الفنانات سلوى روضة شقير، هوغيت كالاند (إبنة بشارة الخوري)، هيلين خال وإيتيل عدنان عن فكرهنّ المتدحرج نحو الحداثة، وحقيقة كل واحدة منهن بصدق وإخلاص وتحرّر.
 
المثير للإعجاب أن كل واحدة من تلك الفنانات لم تعرف الشهرة إلا في عمر متقدّم (في عقدهنّ السادس، السابع أو الثامن من العمر). والمثير في مسيرة كل واحدة منهنّ  الاستمرار والمثابرة لسنين طويلة من دون أي تقدير حقيقي إلا من قلّة قليلة. إنتاجهنّ استمرّ لعقود بينما كنّ يواجهن حياتهن اليومية بكل تحدياتها في وقتٍ بقيت أعمالهن الى حدّ كبير مجهولة.
 
بعد ساعات من التأمل في كل غرفة من المعرض، خرجت الى أحد المقاهي مصطحباً كتيّب العرض، علّني أفهم سرّ نجاح تلك السيّدات وميزات الفن الذي قدّمنه للعالم بحيث أصبحت أسماءهن الأربعة من ضمن قائمة عباقرة الفن التشكيلي. وفي لحظة وضوح فهمت السبب، إنها الحرية، حرية التعبير عن الأفكار والمعتقد، حرية تحدّي المجتمع والموروثات البائدة عنه.
 
إنها الحرية التي سمحت لإيتيل عدنان أن تتصالح مع مثليّتها الجنسية، ولهوغيت كالاند بنت البيت السياسي اللبناني أن تعيش حياة غير تقليدية وتفرض نفسها بإرادتها الشخصية. 
 
هي أيضاً الحرية التي سمحت لآلاف اللبنانيين أن يعيدوا إنتاج انفسهم في مجتمعات غريبة عنهم وينجحوا كل واحد بمجاله.
 
هذه الحرية يجب الدفاع عنها، حمايتها وتطويرها لأنها حمتنا على مر الزمن من كبوات الدهر وغدره.
 
هذه الحقيقة مارستها الفنانات فمهّدن الطريق لغيرهن في مسيرة طويلة نحو التحرر والحرية.
 
الحرية التي هي نفسها ضمانتنا بأن لبنان يمكن له أن يعود اذا ما احتضن أبناءه و قدم لهم كوة من الامل و منصة لإطلاق إبداعاتهم.


■ رئيس مجلس ادارة capital EE 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم