الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

عن المغنّيين المخصيّين (Castrati) والتأريخ المسكوت عنه للأوبرا

المصدر: "النهار"
الغناء الأوبرالي (تعبيرية).
الغناء الأوبرالي (تعبيرية).
A+ A-
علي شاكر
 
قلما خلت ساحة الغناء الشعبي في الغرب أو الـ Pop Music من نجوم ذكور، استخدموا تقنية الغناء بصوت مرتفع صادر من الرأس، اصطلح على تسميته في عالم الموسيقى بالـ Falsetto (فالسيتو)... جيلي، على سبيل المثال، عاصر اكتساح أغاني فرقة الـ Bee Gees لقوائم التسجيلات الأكثر مبيعاً وانتشاراً خلال السبعينات، وانبهر بهارمونية أصواتهم المميّزة، ثم سار آخرون على ذات النهج خلال العقود التالية مثل Prince وJustin Timberlake وسواهم، استعملوا الفالسيتو للتعبير عن مشاعر جيّاشة، أو مواقف دراماتيكية وردت في نصوص أغانيهم.
 
اهتمامي بموسيقى البوب انحسر مع دخولي الجامعة، ليحل محله تذوّقي للموسيقى والغناء الكلاسيكيين... تذكرت ذلك عند قراءتي عن الموضوع في كتاب لعازفة البيانو وناقدة الموسيقى Vivien Schweitzer (فيفيان شوايتزر) بعنوان A Mad Love: An Introduction to Opera (حب مجنون: مدخل الى عالم الأوبرا). حديث المؤلفة عن الفالسيتو اقتصر على صفحات معدودة، لكن ما ذكرته كان كافياً لإثارة دهشتي، واشمئزازي، لاستعراضها تفاصيل ممارسة بشعة كانت تتم بحق بعض الأطفال الذكور في أوروبا بإخصائهم بعمر مبكر، كي تحافظ أصواتهم على ملامحها الأنثوية وحِدّتها قبل أن يتكفّل هورمون التستوستيرون بتخشينها.
 
تقول شوايتزر أنّ الآلات الموسيقية لم تكن وحدها التي شهدت تغيّرات عبر العصور، بل طبيعة الأصوات البشرية المرافقة لها أيضا، فكان من أسوأ فصول التغيير ما عانى منه الكاستراتي (صيغة المفرد بالإيطالية: كاستراتو)، استنادا على ما ورد في رسالة بول الرسول الأولى للكورنثيين – الفصل الرابع عشر، والتي أفتى فيها بوجوب بقاء النساء صامتات في الكنائس، فكان يُسمح لهن بالغناء ضمن جوقات الراهبات في الأديرة فقط، ونظرا لقصر أعمار أصوات المنشدين الصغار من الذكور، الضرورية لخلق توازن في تراتيل خالية من النساء خلال عصر النهضة، كان يتم اخصاؤهم للقيام بالأدوار المُخصّصة لطبقتي الميتزو سوبرانو والكاونترتينور.
 
بدأ تواجد المنشدين المخصيين ضمن جوقات الكنائس في ايطاليا في منتصف القرن السادس عشر، وسرعان ما صار مفضّلا على غناء المنشدين الرجال الذين استخدموا تقنية الفالسيتو بسبب محدودية قدرات أصوات الفئة الثانية بالمقارنة مع القوة الهادرة لأصوات الكاستراتي، خصوصا وأنهم كانوا يخضعون منذ الصغر لتدريبات مكثّفة، ويتلقّون دروساً نظرية عدة في الموسيقى والأداء كي يكونوا جاهزين للقيام بأدوارهم في منتصف أو نهايات سنوات المراهقة، ومع الازدهار الذي شهده الغناء الأوبرالي في تلك الفترة، ازداد الطلب على الكاستراتي لتجسيد شخوص مسرحية خارج جدران كنائسهم الكاثوليكية.
 
يُذكر أنّ عملية الإخصاء كانت غير قانونية، لكن السلطات العلمانية والدينية وقتها كانت تغض أبصارها عنها في معظم الأحيان، الأمر الذي شجّع بعض الأسر الإيطالية مدقعة الفقر على إخضاع أبنائها للبتر الوحشي بغية الحصول على الأموال، فاذا جرت مساءلتهم، كانوا يتحجّجون بوقوع حوادث، كتعرض الطفل لهجوم خنزير بري، أو سقوطه من على ظهر حصان.
 
المظهر الخارجي للكاستراتي كان مختلفاً، بسبب خلو أجسادهم من هرمون الذكورة، ولم يتمكن سوى عدد محدود منهم من تحقيق النجاح الباهر على خشبات المسارح، لكن تلك القلة صارت نجوما ساطعة في سماء الغناء في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وباتوا يحصلون على مبالغ ضخمة من المال، ويخالطون أفراد الأسر المالكة، ويتلقون الحفاوة والتكريم من حشود المعجبين بهم.
 
الكنيسة الكاثوليكية كانت تحظر زواج الكاستراتي بسبب عدم قدرتهم على الانجاب، لكن ذلك لم يحل دون اتخاذهم محظيين من الرجال والنساء على حد سواء، فلا خوف كان من حدوث حمل غير مشروع بسببهم، كما عُرِف عن بعضهم غرابة وبذخ استعراضاتهم، فكان أحدهم، ويدعى "ماركيزي"، حريصا على دخوله المسرح وسط أجواء مبهرة، كأن يظهر وهو يمتطي صهوة حصان، ويرتدي خوذة مزيّنة بريش النعام بصرف النظر عن مجريات الرواية التي كان يقدمها.
 
كاستراتو آخر هو فارينللي، كان يُعد أسطورة غنائية بسبب قدراته الصوتية الخارقة، مثل تمكّنه من الحفاظ على نوتة واحدة لفترة طويلة، وتزويقها بشتى الحلي دون عناء ظاهر، بالإضافة الى مساحة صوته العريضة واجادته الطبقات العالية، بل قيل إنه كان يستمتع بالتنافس مع عازف آلة النفخ النحاسية "الترامبيت"، على أيهما أقدر على أداء النوتة لفترة أطول، لكن تقنيات الغناء المذهلة التي كانت تستدعي من الجمهور تصفيقا مدويا وهتافات مثل: "عاشت السكّين!" لم تكن وحدها ما ميّز الكاستراتي، اذ كان لخامات أصواتهم المطواعة والمُعبّرة عن أدق وأعنف العواطف حضورا موازيا، وهو ما دفع ببلاط الملك "فيليب الخامس" في مدريد الى استقدام فارينللي كي يغني في حضرة العاهل الاسباني كل مساء، للتخفيف من وطأة معاناة الأخير مع الاكتئاب، ورغم معارضة نابوليون لعملية الاخصاء، قيل بأنّه كان مأخوذا بروعة غناء الكاستراتي هو الآخر.
 
تذكر مؤلفة الكتاب أنّ الملحنين قد توقفوا عن كتابة الأدوار للكاستراتي قبل منتصف القرن التاسع عشر، ثم منع البابا "ليو الثالث عشر" قبول أعضاء جدد منهم للغناء ضمن جوقات الكنائس مع نهاية القرن، فكان "أليساندرو موريسكي" الكاستراتو الأخير، وبقي يغني مع "جوقة مُصلّى سيتين" في الفاتيكان حتى عام 1913، وهو الكاستراتو الوحيد الذي يوجد تسجيل له اليوم، لكن صوته كان قد فقد الكثير من سحره عندما تم توثيقه – يمكن العثور على تسجيل له وهو يغني "Ave Maria" على يوتيوب، حيث يبدو صوته مشابها لأصوات النساء المسنّات.
 
أعتقد أنّني بحاجة الى بعض الوقت قبل أن أعاود استمتاعي بما كنت أعده تعبيراً عن أنبل وأسمى ملامح انسانيتنا، اذ اجتاحني شعور بالحزن والغضب بعد اطلاعي على تلك الصفحة السوداء في تأريخ الغناء الكلاسيكي، بالإضافة إلى تساؤلات عدة... تُرى، لو أخضعنا تراثنا الفني للمساءلة والغربلة وفق معاييرنا الأخلاقية اليوم، كم سيتبقى منه؟
 

علي شاكر

مهندس معماري ومؤلف عراقي/ نيوزلندي، صدر له  A Muslim on the Bridge ورواية كافيه فيروز وكتاب صدام وأنا ومتلازمة ستوكهولم، بالإضافة الى العديد من مقالات الرأي والمراجعات الفنية والأدبية والترجمات المنشورة باللغتين العربية والانكليزية في صحف ومجلات العالم العربي والولايات المتحدة وبريطانيا ونيوزلندا حيث يقيم ويحمل عضوية اتحاد الكتاب النيوزلنديين، وهو أيضاً مدوّن في موقع Arcade التابع لجامعة ستانفورد الأميركية.

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم