الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

فَصلٌ مُشتَركٌ

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
محكمة الكتابة (تعبيرية).
محكمة الكتابة (تعبيرية).
A+ A-

- القاضي: لا نُريدُ مرافعةً مثلَ مُرافعةِ مصطفى سعيد . فلا شرقَ هنا ولا غربَ. لا صراعَ حَضاراتٍ ولا إيحاءات. بل جَريمةٌ تافِهَة، لا تستحقّ تَعَبَ المُحاكَمَة. لماذا احتَجَز الجاني روائيّة فلسطينيّة، طيلة شهرٍ، وأجبَرها على أن تُشاركَه كتابَة فصلٍ من روايةٍ؟ 
 
- المحامي: ما تُسمّيهِ الهيئةُ المُوَقَّرة "احتجازًا" أسمّيه ببساطة: "ضيافَة"، "دعوة أدبيّة"، "انغلاقًا اختياريًّا" من أجل الكتابة. سياقُ المؤتمر الاحتفائي، المُنعَقد في مدينة ساحليّة، هو الذي حرَّك هذه الرغبة المشروعة. مثقّفون من كلّ البلدان، سلسلة من المحاضرات والمناقشات الدّسمة حول أهم القضايا الفكريّة، مَعرض كُتب، مئاتُ العَناوين لروائيّينَ خَالِدين. ما المانِع أن يتطلّعَ مُوَكّلي ليكونَ بينهم؟ ما المُشكل لو أشْرَكها في رِحلة إبداع؟ 
 
- النيابة العموميّة: سيدي القاضي، خطَّطَ الجاني لكلّ تفصيلٍ. بدأت الجريمة عندما نزلَ إلى بَهو الفندق مُتَشاغِلاً بالمُداخلة التي سيُقدّمها خلال المُؤتمر. كانَ يعلم مُسبقًا أنَّ الضحيّة ستشاركُ أعمالَه وأنّ عددَ الحضور سيكون مهمًّا. لذلكَ أصرَّ على المَجيء وأعدَّ ورَقَةً. يواصِل عَبَثه، كَعادته، مع أنَّه مقتنع أنَّ ألاعيبَهُ ستَنْكشفُ يومًا ما. في تلك اللحظاتِ، أطَلَّت الضحيّة. سَلَّم عليها باحتشام مصْطنعٍ. قالتْ له بتلقائيّةٍ: "اسمي لَمى. أنا من فلسطين. أقيم في دولة مجاورة لها". جَلسا هنيهةً في انتظار الحافلة التي أقلّت سائرَ المتدخّلين إلى قاعَة المؤتمرات. استغلّ هذا الوضع ليَغرسَ أولى بَيَارِقه على أرْضها ويستدرجَها إلى فَخّه. في الطّريق، بَثَّ سُمومَهُ حتى يكون "في عَيْنيها رمزًا لكلّ هَذا الحَنين". 
 
- المحامي: ما فَعَلَه مُوَكّلي كان عفويًّا. لَعلّها هي التي كانت تَقوده إلى فَخّها. شَجّعته على حُضور مُداخَلة كانت بِالفرنسيّة. هي لا تعرفها أصلاً، ولكنّها أصرّتْ على الاستِماع إليها طَالبةً منه أن يُترجمَها لها، متعللةً بحبّها لهذه اللغة وبشغفها بــ"ألف ليلة وليلة"، موضوع المحاضرة. كان ينقل لها المعاني بصدقٍ. في حصّة ما بعد الظهر، قدّم مُوَكّلي مداخَلتَه وكانت السيّدة لمى تُصوّرهُ بهاتفها الجوّال. أليس هذا مثيرًا؟ ألا يخلق لديه مَشاعرَ مُربكة؟ ربّما خَامَرَتْه آنذاك فكرة استَضافتها لكتابَة فَصْل روائي. هي التي ألْهبَت الجَمْرةَ. 
 
- النيابة العموميّة: بل كانَ يخطط لكلّ مَرحلة بِدَهاء. استدعى الضحيّةَ إلى مَشْربَة قاعة المُحاضرات. أوهَمَها بِكَثرَة مَعارفه. وَثقت فيه فَحَدَّثَته عن أطروحة الدكتوراه التي كانت على وَشك الفراغ منها. شَكَت له تعقّد المسائل الإداريّة التي تَسبق المناقشة. وَعَدَها، كَذبًا، بالمُساعدة بعد أن رأى خطَّة الأطروحة وقَرَأ إهدَاءَها بِصوتٍ عالٍ: "إلى روح أمي التي انطفأت..."، وهذا من تَمثيلِه الماكر. بتلقائيتها، قاطعَتْ قراءَتَه: "فَقَدت أمي البَصَر ولم تُخبرنا بذلك. أخْفَت عنّا سنةً كاملة إصابَتَها بالعمى". ابتَسَم بِسَاديّة، بعد أن كان يَتَباكى لتَوّهِ. أدْركَ أنَّها بدأتْ تَسقُطُ. وهذا من أخسّ ألاعيبه: يوهم بالأمَان ثم ينقضّ على ضَحيّته كطيرٍ كاسرٍ. 
 
- المحامي: نَضجَت فكرة الاستضافَة عندما تَحادَثا عن فلسطين وحُرقة الأرض السليبة والشَّتَات وما تعانِيهِ من مَيْز مَكتوم. كانت في حَنينِها تبالغ وتمثّلُ. تَلعَب على أعصابه. أدْرَكت مدى عِشقِه لفلسطين فَاسْتَغَلّتْه. لمْ تفرَّ منه ولم تَعترض. بالعكس، أشعلَ اقتِراحهُ غُرورَها. تَرَكَتْه يَجتاح أرضَها بتؤدةٍ. سَمَحت له بالوصول إلى قَلعتها المُحكَمَة. كانت تخاتل وتداري، تفتحُ بابًا بالقدر الذي تشاءه ثم تُغلقه، عندما تشاء. أجازت لَه المرورَ إلى أكْثَر مَغارسها حميميّةً. نِصف ساعة أخرى في حَديقَة النُّزْل. تَرَكَت قَميصَها مُواربًا حتّى رَأى من خلاله مَشَدَّها الأسود. أليسَ هذا أبلغَ دَعوةٍ؟ ألا يعني رَغبَتَها في خَوض "التجربة"؟ 
 
 
النيابة العموميّة: عَلمنا من شهود العيان أنّهما وَصلا إلى أمسيّةٍ شعريَّة، نَظَّمَها المَعرض، مُتأخّريْن بساعةٍ كاملة. أين كانا؟ دَخلا القاعة المكتظّة، على أطراف الأصابِع. تَعمَّدَ الجلوس حذاءَها. تلافَتْ جَسَدَه وابتَعدَت عنه في حَيَاءٍ، حتى لا تلمسَ ساقَه التي دَفَعها، بخُبثٍ نَحوَها. لم يَحترَم رغبَتها وغَامَرَ بحركة زائدةٍ، لامَسَها. استغلَّ إنشادَ الشاعر الأخير الذي كان أقربَ إلى صياحٍ مزعج، حتّى يضع يَدَه على... غادَرَا القاعة بسرعةٍ. أظنّ أنهما عادا إلى الفندق مَشيًا على الأقدام. أنا مُقتَنع أنّه استنفذ مَعها كلَّ أكاذيبه حينها. 
 
المحامي: بل هي التي كانت تَسمح له بكلّ شيءٍ، كما جاء في تقرير الشهود. كلّ كلمةٍ كانت دعوةً. وكانت الضَّربةُ القاضية حكايةَ أبي كيس التي رَوَتْها له في طريق العودة نَقلاً عن أمّها: "كان يا مكان، شيخٌ لطيفٌ له كيس كبيرٌ، يجمع فيه قِصَص الحبّ التي لا تكتمل أو التي لا يمكن البَوح بها...". وقتَها، اقترح عليها "استضافتَها" ليشتركا في كتابة "الفَصل"، وإيداعه لدى أبي كيس. "ليتَ أبا كيسٍ حاضرٌ معنا حتى نُهديه قصّة حبٍّ طريّة، لا يمكن البوح بها". أجابت: "أهَبُكَ مجالاً واسعًا من الحرّية. أسهّل عليك المهمّةَ. لا تَحتاج إلى أبي كيس. قُلْ ما تشاء". رأتْ أنَّها تماهت لدَيْه مع فلسطين. لعبتْ على ذلك الوتَر. قَرَّرَ إضافَتَها، فَقط ليَصوغا قِصّةً يُهديها لأبي كيس، إكرامًا لأمّها. 
 
النيابة العموميّة: مجرّدُ تِعلاّت واهية. فَقَد وصَلاَ إلى الفندق بعد أن أحرجَها، وتقريبًا هَدَّدَها. دخل كل واحدٍ منهما غرفَتَه. انتظرَ أن يرنَّ الهاتف. كم تَمَنَّى أن تطرقَ بابَ غرفَتَه. لكنّها لَم تفعل. قرَّرَ الانتقامَ: عادَ إليها في الغد بفكرة الفَصل المُشترك: "صَديقتي، ما رأيك لو كَتبنَا إحدى الإمكانات المحتملة لقصّة لقائنا وفَسَحنا المجال لخَيالنا أن يَسرحَ. ما لا نَستطيعه واقعًا، فَلنحاولْ كتابَتَه. أجابَتْه بحَزمٍ: "القِصَّة قصَّتكَ. أنت الذي تكتُبها لوحدِكَ". 
 
المحامي: كان موكّلي نزيهًا، واعيًا بالمستحيل الذي لن يَقع، مَخذولاً بالقيود التي لن يقدِرَ على كسرها. مع ذلك، ألحّ ألا يكون هذا اللقاء مجرد فاصلٍ خِلال مُؤتمر. أرادَ أكثرَ من ذلك، كتابةً تعانق الأرض وتَبقى مَدى الزّمن. تَعبَ من الفشل المُتواصل ونُصوصٍ لا تَكتمل. أراد أن يكسر رتابَةَ الهَزيمَة. طَمعَ في حسّ الإبداع لديْها. لا يلتقي الواحد منّا بروائيّة فلسطينية كلَّ يوم. وهذه لَها وَجع المُخَيَّمات. عاشت فيها وامتَلأت من حكايات أمّها. كيف لا ينبهر بِجسدها الحامل لذكرى الزياتين الخَضِرَة؟ كيف لا يُؤسَر بصفاء زَيتها المُبارك وقوة جذوع السفح الذي التي دمّرته دبّابات "العدو"؟ "لا يمكنني أن أعملَ، ولا أن أمتلكَ بيتًا ولا أن أسافرَ. حدودي خانقة"، قالتْ له متباكيةً. كيف لا يُعينها على فَتح حدودها؟ 
 
النيابة العموميّة: فتح الحدود عبر احتجازها في مَزرَعة، لإجبارها على الكتابة؟ 
 
المحامي: هي التي سَمحت له بذلك: "دَع حبَّكَ في حَجمه الكبير، جمالُه أن تعيشه كما هو". ظلت طيلة أيام المؤتمر الثلاثة، تحادث المتدخّلين وتضاحكهم. أليسَ هذا استفزازًا؟ تفرّ منه وتتعلل كلّ مرة بعلة جديدة. شرَّعت البابَ ولم تفتحه وبقي هو ينظر من خلال سنتيمرات. في النهاية، خاطَرَ بكلّ شيء واستَضافَها شهرًا. كان يودّ النفاذَ إلى سرّ قَلمها. لكن سرعانما ظهرتْ ملامح الاستحالة. دبَّ المَلَل. رأى أنَّ هذا الفصل لن يكتبَ. وإن كُتبَ فلن ينجح، سيكون مثل غيره من الفصول: النسيان في بطون الكتب. استأثر الزمن بالكلمة الأخيرة. وضعَ النقطة على آخر سَطرٍ. ضيَّقَ عددَ الاحتمالات، حاصَرها، خنَقَها في صيغ المجاملة التي أرْهَقَتْه بها. رجاها: "لا تناديني: "دكتور". أرادَ أن يكسر الحاجزَ. "بلى، ستظل دكتورًا كبيرًا في عينيَّ". أنْهى المَضافَةَ بهدوءٍ. عادَ كلٌّ إلى بَلده. 
 
النيابة العموميّة: ما لهذا قرّرَ إنهاء الاحتجاز، بَل بسَبب غَطرسته وأخطائه. 
 
المُحَامِي: كان قَرارًا مزدوَجًا. غَرِقَ المستحيلُ في وَحلِ المُتناقِضات. لم يَعرفا كيف يُرضيا أبا كيس. 
 
القاضي: هل هو احتجازٌ أم مَضافة؟ للكلمات أرجاء وحدودٌ ومَنافذ. لا أدري أيَّ معنىً أعتمد. لا أرِيد أن أرى جين موريس، ضحيّة مصطفى سعيد، جديدة. حَكَمَت المحكمة غيابيًّا بـــ... 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم