النهار

العدم أفضل من اللاشيء
A+   A-
ريمون أبو حيدر- عضو جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت
 
إنّ بداية كل شيء وراءه بداية أولى، ومن خلال حركة معينة يمكننا أن ننشئ الشكل أو نحدّ الوهم لنُحقّق الفداء والخلاص. مفاهيمنا وواقعنا التجريبي ليسا في لعبة وعبث: نحن هنا بمثابة الفنان البدائي، وعلينا أن ننجح لتحقيق الخلاص من العالم الظاهر. فواقعنا، هو مجرد استعراض للعالم الحقيقي، أي البدائية الأولى. لدينا الوقت والفضاء والسبب، ولدينا عالمنا التجريبي.
 
إنّ من قدرة نبضات الفنان أن يبدع، ولديه توق شديد إلى التحرّر والانفصال: أي الخلاص عن طريق تحرير الذات وعدم التقيد بالوهم، فالوهم هو عالمنا الظاهر. لدينا لقب رفيع المستوى، ولدينا أعلى درجات الكرامة في معانينا كالأعمال الفنية - لأنّ الفن ليس فقط ظاهرة جمالية بالرغم من هذا الوجود والعالم له من يبرره الى الأبد. ولادة مأساة نيتشه تعلن الفوضى والعدمية نفسها حتى الآن وممكن أن نكون أصبحنا داخل الحدث، ثقافتنا منهارة تتّجه نحو كارثة أكثر فأكثر، القلق يزداد مع العنف المتهوّر، وأصبحنا مثل النهر الذي لا يستطيع يعكس اتجاهه ويريد الوصول إلى النهاية.
 
العدمية على الأبواب حان وقتها، ولا بد من إعادة النظر في القيم.
الشوق الى اللاشيء... هو الأخطر:
لأن هذه صورة العمل الكنبة تعكس مقولة: بغض النظر عن أنّني منحط لا-أخلاقي، فّأنا على عكس ذلك أّيضاً....لذلك ضرورية عمليه هدم هذا المشهد لإعادة بنائه، ليصبح المفهوم أقوى من جمالية العمل التجهيزي بحد ذاته.
 
إنّه عمل فنّي رافضاً لشكله الحالي وواقعه وإنه أيضاً في حالة رفض من نظام فاسد مخفي وعلني.
 
قدّم هذا العمل عام 2015، عُرض في زيتونة باي بيروت وبعدها نقل الى جامعة المنار طرابلس مع مشاركتي مع جمعية الفنانيين اللبنانيين للرسم والنحت وطرحت هذه النظرية الفلسفية من خلال هذا العمل قاعدة الدمار وردم كل شيء لهذا المشهد ولنبدأ من جديد.
 
أولاً: في تاريخ الفن الحديث أصبح المشاهد جزءًا لا يتجزأ من عمل الفنان أو من عمله الفني. بناءً على هذه النظرية، سعيت من خلال المشاهد إنجاز مهمة هذا العمل، وفي هذا اقترحت عاملاً مهما، لتطوير العمل نفسه غير المتكامل ورميت الكرة في ملعب المشاهد ليشارك في إنهاء هذا العمل وتطويره، لكي أثبت إنه بإمكان المشاهد أن يعالج بنفسه اللغة التشكيلية من دون أن يلتجأ الى الأكاديمية أو كلية الفنون. يعتمد على ردة فعله مثل الفنان البدائي. لأنه في اعتقادي الخاص، كل شخص في مجتمعنا المريض هو جزء من هذا الهراء. ليس فقط الفنان وحده المعني الوحيد أو بعض أفراد المجتمع، وهذا يجب أن يكون جزءًا منا جميعًا. ومن ثم طرحت سؤالا: ما هي العلاقة بين تلك القطعة (الجاهزة) والسياق؟ إنها محاولة لتقديم ما يحدث في بيئتنا وفي البيئة المحيطة بنا.

هذا العمل يعكس صورة الواقع الذي نعيشه ولمعالجة اشكالية الربط بين الوجودية والعدمية للإنسان.
 
بالإشارة إلى قطعة واحدة جاهزة (كنبة خشنة ومشوّهة) ليس لها فائدة وقيمة، هذه الكنبة تعكس حالة الصمت والرومانسيىة والعدم. وقد تعكس الفوضى والغضب والقلق والاضطراب من البيئة الحالية في استخدامنا للمواد الخام ومن أزمة النفايات بمثابة رد فعل أيضا في ذلك الحين. أردت أن أعكس الواقع أكثر في روح حرة وبعفوية مطلقة.
 
عملي كتجربة فنية يرتكز على عنصر واحد من العدم الى الوجود وتجسيده كعمل فني يكشف المفهوم. الكنبة نقلتها من موقعها الطبيعي من حاوية القمامة ووضعتها بموقعها الغير الطبيعي في صالات العرض الفنية، تم استخدامها كدعم لخدمة المفهوم المرئي كعنصر يتعارض مع صور داخل رؤوسنا.
 
 
حقيقة هذا العمل الفني المقدَّم في صورة هو عمل مجهز في الواقع سلعة مهترئة، رأيتها كمادة وحالة جمالية فنية غنية لتخدم الفكرة التي قدّمتها عندما كانت أزمة النفايات بأوجها في ذلك الحين، بالإضافة إلى ذلك، سعيت إلى تطوير لهذا العنصر الممزق والمشوّه (الكنبة) من خلال ردة فعل المشاهد على واقع هذا المظهر في عرض مباشر. لأنّ في اعتقادي الخاص، كل شخص في طبيعته فنان صغير بداخله، ولأخذ آراء مختلفة وأفكار متناقضة من جميع الأشخاص الذين يريدون المشاركة في عملية التطوير، فكانت لهم حرية التعبير عن أنفسهم في هذه الحالة المعارضة والاضطراب هكذا كان العنوان. اكتبوا وعبّروا عن رأيكم في تلك الخامات البيضاء كل هذا الفضاء لكم، خلف الكنبة أو على الكنبة أو في أي مكان تريدونه والنضال لّأجل الكلام والتعبير. تعبير المشاهد سواء كان مع هذه الشروط أم ضدها. باستخدام أقلام محددة من مختلف الألوان، ليملئ الفضاء الخامات، بحرية مطلقة وليجعل هذا العمل عملا كاملا متكاملا مع لغته التشكيلية والبصرية. بعدها نرى نوعاً من اللغة التشكيلية في بعدها المادي ومن الألوان الأقلام المستخدمة وفي بعدها الفكري من (الأفكار والآراء المتضاربة) والبصرية التي استخدمناها، وهناك من أخذ المشهد على ما يحدث على الصعيد العربي وهناك من حصر هذا المشهد في لبنان، ثم قمنا بالتحليل أخيرًا، ليصل المفهوم إلى المهمة الصعبة المتمثلة في سد الفجوة بين الفنان والمشاهد ولنجعل التراجديا أمراً ممكنا في اعتبارها ظاهرة الفرح التراجيدي.
 
يبدو أنّ هذا الشكل المشوّه له مبرره وله من يبرره (وعملية التبرير هذه ما لمّحنا اليها أعلاه) في حياتنا اليومية، في نظامنا الحالي، وله جمهوره، لأنّ هناك رابطاً لهذا التبرير هو الأيمان والعقيدة. نريد لغة جديدة، أساليب جديدة، دم جديد لننتج إنساناً جديداً يُبدع مثل كلّ المبدعين، وإن بقي على شكله الحالي، كما هو عليه اليوم، فإن أبدع ينتج الردائة والسخافة الفكرية والثقافية. إذا سئمنا من كل هذه الخطابات، نريد لغة متقدمة لجيل جديد، وإعادة النظر في قيمنا وأخلاقياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. سئمنا من اللغة والألسنة القديمة نعم لهدمها. سئمت روحنا كل هذا... ونحن نسير في بطء شديد.
 
العمل له زمانه وذاكرته ورمزيته الخاصة، وله سببه ومسببه يجذب المشاهد إليه ويأخذه بعمق تفكيره الباطني، ناقلاً الصورة غير مثالية إليه، ويتفاعل مع العمل، ليس كعمل فني فقط، بل كإرادة قوّة للانقلاب على الواقع نظراً لخطورة الوضع واستمرار هكذا صورة في ذاكرته، ليسأل المشاهد أسئلة لنفسه رافعاً كلفة الجمالية، ويتفاعل مع الوضع. فالموضوع الأساسي فيه، أي الكنبة سوف تزول مع مرور الزمن والوقت. هذه الكنبة لن تدوم وتبقى هكذا على شكلها الحالي. خلاصنا الوحيد من هذا المشهد المهتري تدميره نظراً لوجود الشر ويجب علينا مكافحة أسبابه. برهاني هذا من منظور علّة مرضية نحو المفاهيم والقيم الصحية، في مجتمعنا ككل وبالعكس تماماً. الفنان المبدع الحقيقي لهذا المشهد المشوّه والممزّق المهترئ للكنبة، السلطة (النظام) وذاك الفساد المخفي ايماننا في المفاهيم والقيم وأخلاقياتنا الخاطئة الزائفة.
 
بالمناسبة: نقلت هذه الكنبة مرة أخرى إلى مهرجان فجر مواهبك بقهوتنا كافيه مع جمعية مارش. 
في منطقة التبانة طرابلس، وكالعادة، اعطيت حق الرد على هذا المنظر للجمهور المشارك، وقمت بتطوير نسبي مضاف على العمل وقمت على تقييد هذه الكنبة بجنزير حديد وقفل دلالة على أنّ الكنبة حتى مكبلة ومقيدة، ووضعت الطلاء من اللون الأحمر والأسمنت يرمز على عملية البناء والردم، وأضفت الفأس والمطرقة والأقنعة وقفاذات صناعية ترمز على الأنقلاب على الواقع، وكانت ردّ فعل الجمهور حينذاك وهم يرتدون القفازات والماسك بتحطيم الكنبة، ومن ثم فاجأني أحد المسنين يمسك الفأس ليقوم بتحطيم الكنبة بعصبية هائلة، ويصرخ ويردّد بصوت جهوري عالٍ: هؤلاء جالسون في الحكم على دمائنا... كانت ردّ فعله قاسية وقوية. 

 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium