الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

السيرة التراجيدية الملعونة للسينما اللبنانية

المصدر: "النهار"
 مارون بغدادي مصوّراً.
مارون بغدادي مصوّراً.
A+ A-
هوفيك حبشيان 
 
 
من الممكن كتابة سيرة السينما اللبنانية بعشرات الطرق. كلها صائبة، كلها تخدم السياق المطلوب، وكلها مشروعة. لكن واحدة من هذه السير لم تُكتب، لم يُنطَق بها، ولم نطرق بابها كما يجب. بل همسنا بها همساً، مرات فمرات، بعضنا في آذان بعض، ونحن ندخل المقاهي أو نخرج منها. ولكننا لم نضعها ولو لمرة على الطاولة أو فوق الورق، لقلّة جديتها أو ربما لكثرة جديتها. 
 
السينما اللبنانية، أو المصنوعة في لبنان - ولا ضير من تسميتها سينما المخرجين اللبنانيين -، عرفت على امتداد جسدها النحيل، الكثير من المآسي الفردية، المدمّرة، القاتلة، التي وضعت حداً نهائياً للكثير من الجهد المبذول، وذبحت الكثير من الطموحات الناشئة، وذلك منذ بزوغ فجرها الأول. كأن الشؤم، الفأل السيئ، اللعنة، تتعقّب كاتبي تاريخها.
 
مَن بقي، صمد، نجح في الامتحان، فوصل وحقق فيلماً اثنين ثلاثة فأربعة، ليس بالضرورة الأهم، الأنقى، الأعظم والأكثر موهبةً. بعض الذين سقطوا، أخفقوا، تسللت يد الشيطان إلى أعناقهم، قبضت على أرواحهم، خنقت أمجادهم قبل قيامها، فلم يُمنحوا فرصة اثبات ذواتهم وتنفيذ أحلامهم. 
 
لِمَ هذه السيرة، اليوم في الذات، والموت والبؤس يحاصراننا من كلّ الجهات على نحوٍ غير مسبوق؟ لعله رحيل المخرج الأربعيني دانيال جوزف بسكتة قلبية هو الذي نكأ الجراح. موت يستوقف أيّاً منّا. فما بالك اذا كنّا نعلم ما كان ينطوي عليه الراحل من أحلام؟ شاب ينكسر وهو في ذروة طموحه؟ هذا يحصل في كلّ مكان ومع كلّ اشراقة شمس، لكن في لبنان حصل كثيراً، وبشكل متكرر، وعلى مساحة ضيقة من الزمن، لا تتسع لكلّ هذه التراجيديات الصغيرة الشخصية. 

علي العريس
بدايةً مع علي العريس، مؤسس السينما اللبنانية، وهو أول مخرج عمل باحترافية في لبنان. صاحب الفيلمين، "بياعة الورد" (١٩٤٣) و"كوكب أميرة الصحراء" (١٩٤٦)، اللذين لم يبقَ منهما أثر. كان مصيرهما التلف بسبب الاهمال. فيلمه الأول أُنجز وعُرض خلال الحرب العالمية الثانية، فكان نجاح عروضه محدوداً. أما الثاني، فلم ينجزه العريس بعدما سقط مريضاً فريسة الجهد وهو عاكفٌ عليه، كونه كان مصراً على تولي كلّ التفاصيل بنفسه، من الاخراج إلى الديكور فالملابس وتعديلات السيناريو وتحفيظ الممثّلين الحوار. كان المنتجون، وهم شركاؤه، يرغبون في ان ينجز الفيلم على وجه السرعة، مهما كلّف الثمن، ولذلك أتوا بمونتير مصري يُدعى صلاح الدين بدرخان، وكلّفوه مهمّة إنجاز الفيلم. لكن النتيجة لم تكن لترضي العريس الذي وجد نفسه وقد تعرض عمله للتشويه. سعى إلى تأجيل موعد العرض ريثما يعيد منتجته، لكن لم يوفَّق. الحلّ الوحيد المتوافر أمامه كان ان يطبع آلاف المناشير وتوزيعها على المارة في الشارع. وهذا ما فعله في الأخير. كان المنشور يقول: "مخرج هذا الفيلم يدعوكم لمقاطعته". وُزِّعت المناشير أمام صالة "راديوسيتي" في بيروت، أثناء عرضه، الأمر الذي لفت انتباه أهل المدينة، فحصل زحف بشري في إتجاه الصالة. على مدار أسبوع من العرض، حقق الفيلم إيرادات بلغت ١١ ألف ليرة لبنانية، وهي تُعتبر رقماً كبيراً في حسابات تلك الحقبة. 
 
هذه الحادثة شطبت على طموحات العريس السينمائية. توقّف على أثرها عن إنجاز الأفلام، ليكتفي بأعمال هامشية صغيرة كمهندس ديكور أو ممثّل في دور ثانٍ. هاجسه الوحيد في السنوات العشرين التي عاشها بعد فيلمه،العودة إلى الاخراج مجدداً. كان رأسه يطفح بالمشاريع، تجده يكتب سيناريوا بعد سيناريو، لكنه لم ينجز أيّاً منها. مغامرتان عادتا عليه بالوبال، وصولاً إلى الافلاس. وبعدما تحطّمت آماله استنكف حتى عن العودة إلى المسرح الذي كان في أساس حياته وجهوده الفنية. يمكن القول انه دفع حياته وراحته ثمناً في سبيل تأسيس الفنّ السينمائي، وفي الأخير لم يحقق الكثير، وما حققه لم يعد متوافراً للمشاهدة. 
 
جورج قاعي
في عزلة وفراغ مات جورج قاعي. هذا الذي كان أحد الرواد المؤسسين الذين قامت السينما على سواعدهم. جيل آخر، زمن آخر. سينما أخرى محمولة على الظَّهر قوامها الجهد والاكتشاف والشغف. قليل من المكافأة والاعتراف، وكثير من التضحيات. 
بعد خمسة عشر عاماً من المرض، ختم قاعي مسيرة منقوصة وغير مكتملة في العام ٢٠٠٨. هذا المغامر هو من الرعيل الثاني، لكن سيرته لا تختلف كثيراً عن أسلافه ومن خلفوه. لكلّ من السينمائيين الذين جعلوا السينما اللبنانية حقيقة، مصيبة. بعضهم كانت مصيبته شخصية وفنية، وبعضهم الآخر اجتماعية وسياسية. لكن المأزق الوجودي رافق الجميع تقريباً، ما عدا الذين تحولوا من صنع السينما إلى صنع الأفلام، فباعوا أنفسهم للبزنس. 
 
انخرط قاعي في الحياة السينمائية منذ الخمسينات. زملاؤه جورج نصر وميشال هارون وجوزف فهدة. كان لديهم كلّ شيء ولا شيء في الحين نفسه. لكنهم كانوا يملكون الأهم: عدم وجود إرث ثقيل على كواهلهم. بهذا المعنى كانوا أحراراً. فالإيطالي جوردانو بيدوتي مهد لهم الطريق، لكنه لم يفعل أكثر من هذا. كذلك بالنسبة لعلي العريس. لكن ثمة شؤم خيّم على هؤلاء جميعاً وسينماهم، منذ "مغامرات إلياس مبروك" (١٩٣٠)، الفيلم اللبناني الأول من إخراج بيدوتي. وليس هذا الشؤم مرتبطا بظروف العمل وحسب. فهذا الفيلم لاقى نجاحاً باهراً يوم عُرض في صالة "أمبير" إلى درجة ان تتمة قد صُوِّرت، لكن بيدوتي اضطر إلى التوقّف عن الإخراج بسبب النقص في التمويل. لذا، راح يصوِّر حفلات الأعراس. هكذا نشأت السينما اللبنانية، بكلّ نجاح أحرزته وبكلّ فشل مُنيت به، بفتراتها الصاخبة وفترات سكونها الطويلة. تهمد مدةً فتنهض، ثم تركد مجدداً لتعود وتستيقظ.
وصل قاعي مع حقبة الخمسينات التي كانت أساسية في السينما اللبنانية، وبدء تأسيس استوديوات وظهور رعيل ثانٍ من السينمائيين الحالمين. معظم الأفلام كانت تحكي عن بيئة لبنانية خالصة وناطقة بالعامية. كان محور الأفلام في هاتيك الأيام القرية وأهلها. في ذلكالجو، أنجز قاعي فيلمين: "عذاب الضمير"(١٩٥٣) الذي تعرض لانتكاسة جماهيرية لكونه ناطقا بالفصحى. وفي العام ١٩٥٩، قدّم "قلبان وجسد" على خلفية منافسة غرامية بين شاب ووالده. كان الفيلم أوفر حظاً اذ وُزِّع أيضاً خارج لبنان. دخل قاعي الستينات مستعداً لتقديم أكبر قدر ممكن من الأفلام نسبة لزملائه. فأنجز ثلاثة منها: "السم الأبيض" ١٩٦١ و"عربة الشيطان" ١٩٦١ و"أنت عمري" ١٩٦٤، الذي تشارك فيه الإخراج مع محمد سلمان. في العموم، تناولت أعماله مواضيع اجتماعية، ولم تتوانَ عن طرح تيمات جريئة من مثل تفشي ظاهرة المخدرات.
 
في منتصف الستينات، أصبح لبنان مسرحاً للتصوير. وراحت مصر تستغلّ جماله على أثر نظام عبد الناصر الذي قضى على شتى أشكال الحرية. جورج نصر أنجز فيلمه الثالث وتوقف عن العمل تقريباً. أما هارون فصار منتجاً. انصرف قاعي إلى أشياء أخرى وجلس في الظلّ. بلغت السينما المصرية في تلك الفترة أوجّها، وعند تأميمها في العام ١٩٦٣، غطّت الصناعة بأكملها في لبنان؛ فُتحت الاستوديوات في كلّ مكان وعاشت بيروت، العاصمة الجديدة للتوزيع السينمائي التي ضمّت سبع شركات أميركية كبيرة و٤١ مكتباً مستقلاً، عصرها الذهب. شكّلت الستينات فترة السينما في لبنان وليس السينما اللبنانية. على الرغم من تزايد الإنتاج المشترك، كان هناك انعدام كبير في الهوية أو الرؤية الفنية العالية.
 
 
جورج نصر
في العام ٢٠١٧، عاد جورج نصر إلى كانّ، بعد ٦٠ عاماً من مشاركته في مسابقة المهرجان نفسه بفيلمه الشهير "إلى أين؟". اليوم، بعد رحيله، يمكن القول ان اللحظة كانت جميلة ووجدانية بقدر ما بدت مثيرة لـ(بعض) الشفقة. فنحن هنا حيال رجل انطلق انطلاقة مهمة: باكورته عُرضت في أهم تظاهرة سينمائية وكتب عنه جورج سادول في كتابه الشهير، ثم، بعد ذلك، لا شيء. صمت مطبق! أنجز فيلمين غير مهمين، وانصرف إلى التعليم. لم يهاجر رغم الحروب والمآسي، بل ظل صامداً، مؤدياً دوراً بيداغوجياً غاية في الأهمية، وهذا يُحسب للرجل، ولكن عدا ذلك، مكث "مخرج الفيلم الواحد"، فطوى كلّ أحلامه. بدلاً منها، اتّجه إلى الإعلانات والأفلام الوثائقية السياحية. ما كُتب له من قدرهو حكاية حزينة، ولا نعلم إلى أي درجة هو مسؤول عنه. عندما أنجز "إلى أين؟"، لم تكن في لبنان احترافية، لا في التمثيل ولا في التقنيات، فاستعان بحدّاد لصنع سكّة وضع عليها الكاميرا، كذلك بنجّار لصنع عربة آلة التصوير المتنقّلة والألواح العاكسة للإضاءة. درس نصر في أميركا، ترى هل كان عليه البقاء هناك؟ وهل كان مصيره سيختلف لو لم يناده الوطن من بعيد؟.
 
 
 
 
غاري غارابيديان 
صوّر غارابيديان (عراقي المولد وأميركي الدراسة)، أفلاماً غير مهمة في مطلع الستينات، لكنه برز مع "غارو" في العام ١٩٦٥ عن قبضاي يموت أثناء مطاردة. لكن الرجل كان في انتظاره مصير لم يتوقّعه أحد: في العام ١٩٦٨، أثناء تصوير "كلّنا فدائيون"، الذي جاء في سياق توثيق الكفاح المسلّح لفدائيين واجهوا إسرائيل عقب نكسة ١٩٦٧ وكانت بيروت أحد مسارحه، نشب حريق في استوديو في منطقة الحازمية، حيث كان يجري تصوير فيلمه هذا، فقضى هو وطاقم العمل. تقول المعلومات المتوافرة ان الحريق بدأ أثناء استعمال قنبلة دخانية لتصوير مشهد عملية فدائية للمقاومة الفلسطينية. خرج غارابيديان في البداية سالماً وكان في عداد الناجين، الا أنه لم يرضَ ان يترك عدداً من الممثّلين وأعضاء الطاقم الذين كانوا عالقين في الاستوديو، فعاد في محاولة لانقاذهم، وهكذا لاقى حتفه. حلّت الكارثة في آخر يوم تصوير (ليل السبت - الأحد)، وكان المشهد الذي يصوّره اعادة تجسيد لحانة في تلّ أبيب حيث ينتقم الفدائي لرفاقه الذين قتلهم الاحتلال. لم يكن المخرج يعلم ان الانفجار سيكون حقيقياً وسيدمّر الاستوديو عندما أمر بالتفجير، اذ تبين لاحقاً ان أحدهم استبدل المفرقعات الحقيقية بالمفرقعات الخلبية. النتيجة: عشرون شخصاً قضوا في هذا الفصل المؤلم من فصول السينما اللبنانية. بعد الحادثة، أُجريت تحقيقات، ولكن ملابساتها لا تزال غامضة حتى اليوم. 
 

كريستيان غازي
لا أعرف ما اذا كان لفنّان أو لسينمائي ان يصمد هذا الصمود كله، لو تعرّض لربع ما تعرّض له كريستيان غازي خلال سنوات حياته المأسوية، إن على المستوى الشخصي أو المهني. باستثناء فيلم واحد هو "مئة وجه ليوم واحد” (١٩٦٩)، لاقت أفلامه مصيراً استثنائياً: الحرق. لم يحصل الحرق بقذيفة طائشة بل كان مقصوداً ومخطَّطاً له على يد السلطة وميليشياتها التي كانت تضع في مرصادها كلّ مَن لا يجاريها. غازي يقول انه صنع طوال مساره ما يُقارب الـ٤٥ فيلماً، ولا يملك اجازة لعرض أيٍّ من هذه الأفلام. 
 
فصول الصدام الأول كانت عندما ألقى غازي نظرة مختلفة على الواقع اللبناني، بعيداً من النظام الترويجي البدائي الذي كانت الدولة تسعى خلفه من خلال "تلفزيون لبنان والمشرق" لجذب السيّاح إلى بلاد الأرز. فتلقّى العقاب لكونه طرح نظرته المستهجنة عن واقع فقراء المزارعين في لبنان مجابهاً إياهم بأثرياء يرتادون الكازينو لتبذير الأموال. وزارة السياحة لم تتقبّل فكرة ان يضع المخرج صوت الأبقار مع صورة مرتادي الكازينو، والعكس. النتيجة: إثنا عشر فيلماً وثائقياً عن السياحة في لبنان كان نصيبها ان تتحوّل رماداً بأمر من "المكتب الثاني”.
 
أما الفصل الأبشع من مأساته، فكان اقتحام عناصر من حركة "أمل"، مكان اقامته وتدمير كلّ أعماله، بما فيها مقتنياته الشخصية. "كانوا يبحثون عن تدفئة. فاحتلوا منزلي وحرقوا نيغاتيفات أفلامي وتدفأوا بها". وعندما رفع غازي دعوى ضد أعضاء التنظيم الحزبي، رد عليه المسؤول القضائي، قائلاً: "هل تريد الشكوى ضد هذين الشخصين؟"، قبل ان يسارع إلى تمزيق طلب الدعوى. ما نجا من تلك المأساة ("مئة وجه ليوم واحد") تحوّل بياناً تأسيسياً للسينما البديلة اللبنانية في أواخر الستينات.
 
 
مارون بغدادي
مأساة مارون بغدادي قد تكون الأشهر بين كلّ المآسي التي حلّت بالسينما اللبنانية. في أيار ١٩٩١، قدّم بغدادي آخر فيلم له، "خارج الحياة"، في كانّ حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم، وبعد ذلك بعامين ونصف العام، وقع في بيت المصعد الذي في شقّته، بعدما غدر به انقطاع التيار الكهربائي. بقي على الأرض طوال أيام قبل ان تُنتَشل جثّته. كان بغدادي في الثالثة والأربعين حينها، ويُعَدّ من أهم المواهب في العالم العربي. قبل "خارج الحياة"، كان بغدادي قد قدّم "حروب صغيرة"، وقفز قفزة كبيرة إلى الأمام، من خلال توثيق يوميات الحرب التي تبقى ماثلة في ذاكرة كلّ لبناني. تفادى النزعة الإيديولوجية التي كانت على الموضة في تلك المرحلة، مفضّلاً الانغماس في تصوير تلك الحروب الصغيرة التي تُدار داخل الحرب الكبيرة. وعندما عُرض الفيلم في كانّ عام ١٩٨٢، ضمن قسم "نظرة ما"، كتب جاك سيكيلييه، ناقد جريدة "لو موند"، من ضمن ما كتبه: "ما فعله بغدادي هنا، إنما هو اختراع السينما اللبنانية". في آخر سنوات حياته، كان بغدادي انتقل إلى العيش في فرنسا، وذلك يعني انه تعرض للحادثة خلال زيارته للبنان لا خلال اقامته الدائمة فيه. ويقول الناقد إبرهيم العريس الذي عرفه عن قرب: "فرنسا لم تكن واحداً من اختيارات مارون الأساسية في الماضي، فهو حين تعذّر عليه أن يجد مبررات تكفيه لمواصلة العيش والعمل في لبنان، كان يتوق إلى السفر إلى أميركا، وفي لحظة من اللحظات فكّر في الانتقال إلى مصر ولو لفترة، لكن مشروعه المصري لن يقيض له ان يتجسّد. أما نشاطه في أميركا، فاقتصر على تلك الشهور القليلة التي التحق خلالها كمتدرب في استوديوات "زويتروب" المملوكة في ذلك الحين لفرنسيس فورد كوبولا". 
 
 
جوسلين صعب
 
"الحياة في لبنان صرنا نجدها في الموت"، واحدة من جمل جوسلين صعب التي أتذكّرها جيداً. فيلمها الأخير، "شو عم بصير؟"، كان من المفترض ان يعيد بناء علاقتها مع بيروت، المدينة التي كانت تعود اليها كلما استاءت منها. علاقتها بمسقطها كانت عضوية، متناغمة مع سلوكها. مع الوقت، أضحت علاقة مختلفة عن علاقتها بها في بداياتها. لم تكن تريد ان تحبها وحدها، انما ان تتشارك هذا الحبّ مع غيرها، انطلاقاً من اقتناعها بأن الحرية تليق بهذه البقعة. مع التذكير بأن الواقع لم يعاملها بالمثل، اذ لم ننسَ كم كان وقع "التحرش الرقابي" قاسياً عليها في مناسبة معرض لها في وسط بيروت.
الدوّامة، التي كانت عنواناً لأحد أشهر أفلامها، بقيت تتربص بصعب التي غيّبها الموت بعد صراع مع المرض. بقيت حتى سنواتها الأخيرة، تخرج من دوّامة سينما لتدخل دوّامة بلد، وبكشل أوسع، دوّامة شرق مريض. أفلمت، التقطت الصور الفوتوغرافية، رسمت، عرضت تجهيزات. لم يهدأ نشاطها ولا غضبها ولا اصرارها على الحياة من خلال الفنّ. عاشت مشتتة الذاكرة والجسد بين باريس وبيروت، عالقةً بين زمنين، بين العقل والقلب، بين السلم الهشّ والحرب التي قد تعود في كلّ لحظة. ماتت بالسرطان بعمر السبعين. فيلمها ما قبل الأخير، "دنيا"، عن ختان الإناث مع حنان الترك، عرّضها لمشاكل كبيرة في مصر (البلد الذي عشقته) حيث اتُّهِمت بالانحلال الأخلاقي والترويج للحرية الجسدية والرذيلة في مجتمع محافظ. "فيلم جعل ٨٠ مليون مصري يقف ضدي"، كما قالت لي في احدى المقابلات. 
 
رندة الشهال
 
كان قلبها ينبض بالقضايا العربية. لبنان، فلسطين، العراق. وقضيتها الأخيرة كانت المرض السرطاني الذي هزمها في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية عن ٥٥ عاماً. أمضت الجزء الأكبر من وجودها وهي تحاول ألا تكون في موقع الضحية. أحلامها التي جاءت بها من الستينات، زمن مراهقتها، تحطّمت شيئاً فشيئاً على أبواب الرقابات والاخفاقات والعلاقات المكلومة بينها وبين الجمهور، من جهة، والكرّ والفرّ بينها وبين النقّاد والصحافة من جهةأخرى. الشهال لم تقصّر في ردود أفعالها، بل كانت استفزازية في طباعها، خصوصاً عندما منعت الرقابة اللبنانية فيلمها "متحضرات" بعدما أرادت حذف أكثر من نصفه، في اطار قضية شغلت الرأي العام اللبناني طوال عام ١٩٩٩.
مثل أغلب السينمائيين اللبنانيين الراحلين، ظلت تجربة الشهال منقوصة. في أواخر عام ٢٠٠٥، عقدت مؤتمراً صحافياً أعلنت فيه أمام حفنة من الصحافيين عن بدء استعدادها لتصوير فيلم عنوانه "لسوء حظهم". توقّع منتجه إيلي سماحة مشاركة كلّ من الإسبانية فيكتوريا أبريل والفرنسية فاهينا جيوكانتي فيه، لكن العمل لم يُنجز لأسباب غير معروفة. ربما بدء اكتشافها المرض حال دون ذلك. والفيلم كان ليكون الرابع في حال اتمامه، في سجل المخرجة، بعد "شاشات الرمل" و"متحضّرات" و"طيارة من ورق".
 
 
برهان علوية
بعد انتظار دام سنوات، عُرض آخر فيلم، "خلص"، لبرهان علوية في الصالات اللبنانية في العام ٢٠٠٧. لم يحقق أي إيرادات يستحق ذكرها في شبّاك التذاكر حينها. كما انه لم يلف اللفة التقليدية على المهرجانات (عُرض في مهرجان دبي). أنهى علوية مسيرته التي امتدت لأكثر من ٣٠ سنة بفيلم أغلب الظن انه ليس أفضل ما أخرجه. "خلص" هو فيلمه الروائي الثالث، بعد "كفر قاسم" (١٩٧٤) و"بيروت اللقاء" (١٩٨١). بينها، قدّم عدداً من الأفلام الوثائقية الجميلة. في احدى مقابلاتي المتعددة معه، قال لي: "الصورة تصبح أجمل عندما تمتزج بالتعب" كان هذا في آخر لقاء لي معه. بعد ذلك، انسحب إلى بلجيكا حيث يقيم إلى الآن مصارعاً المرض. علوية هو مخرج آخر عاكسته الظروف الشخصية والعامة، فلم يخرج بزاد سينمائي على مستوى طموحاته الأولى. كان يرى ان حياة المخرج أهم من أفلامه. فحياة الأخير فيها أفلامه التي أُنجِزت والتي لم تُنجَز. "ولكن المشكلة انها تبقى أطول منه"، كما علّق ذات مرة. 
 
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم