الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حصاد 2021- متى استأذن الموت؟... بصماتهم في الفكر والأدب والفن حياةٌ ثانية

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
ملصق مركّب من صور الراحلين.
ملصق مركّب من صور الراحلين.
A+ A-

مهما مهّد المرض لرحيل عزيزٍ، أو كان الرحيل ببشاعة اغتيال، أو طُويَ عمرٌ بسكوت قلب، يبقى الموت الحقيقة الكبرى، والأكثر إيلاماً على الإطلاق، وقد "تعدّدت الأسباب والموت واحد"، وغادِر، ولا هروب من قبضته، ولا عودة أو تعويضاً عن قراره؛ فمتى استأذن الموت؟!

 

كانت سنة 2021 قاسية في غياباتها، فضجّت بخسارات متوالية، واحدة تلو أخرى، أصابت السّاحة الثقافيّة اللبنانيّة؛ كأنّ الموت حلّ "كرزة على وجه الفطيرة" في ميزان الأزمة اللبنانيّة المستشرية، فألزَمَنا بأثمان عاجلة وآجلة على مستوى حياتنا الثقافيّة اللبنانيّة. لكنّه "تصحّر مأهول" بميراث هذه الوجوه التي تأبّدت ذكراهم بأعمالهم الخالدة.

إليكم نبذة بالتسلسل الزمنيّ حول رحيل هذه الوجوه، نسترجعها من أرشيف "النهار"، التي واكبتهم في حياتهم قبل مماتهم، وكرّست لهم صفحاتها متناً لكلمة الوداع الأخيرة من قِبَل مَن عرفوهم وأحبّوهم. فلعلّ محطّاتنا المكتوبة تكون شمعة مضيئة وسط حقيقة قاتمة، وصلفة، تجدّدت هذه السنة ورسّخت اقتناعنا - من خلال مسيرة العديد من الراحلين - بأن "ليس لنبيّ كرامة في وطنه".

إلياس الرّحباني (1938- 4 كانون الثاني 2021)
يدٌ صنعت الفرح
 
بداية قاسية للعام 2021 برحيل إلياس الرحباني الذي يُشكّل رمزاً من رموز الفنّ في لبنان. فارقنا عن عمر ناهز الـ83 عاماً، بسبب مضاعفات فيروس كورونا.
تعود أصول الرّحباني إلى بلدة إنطلياس، وهو الأخ الثالث للثنائيّ الرحباني الشهير منصور وعاصي، اللذين أشرفا على تربيته ونشأته الموسيقيّة، بعد أن توفّي والده حنّا، حين كان إلياس في عمر الخامسة. بدأ شغفه بالموسيقى باكراً منذ العاشرة، حين درس النَّغم في الأكاديميّة اللبنانيّة (1945 - 1958) والمعهد الوطني للموسيقى (1955 - 1956).
إصابة في يده اليسرى وقفت بوجه سفره إلى روسيا لتعلّم الموسيقى هناك، لينتقل إلى التأليف الموسيقيّ.
ثمّ يصل إلى إذاعة "بي بي سي" البريطانية بفرعها الشرقيّ الكائن في لبنان، والتي تعاقدت معه على تلحين 40 أغنية و13 برنامجاً.
عمل مستشاراً في إذاعة لبنان الرسميّة حتى السنة 1972، وعمل أيضاً منتجاً موسيقيّاً لدى شركات مُنتجة للأسطوانات.
مئات من الأعمال الموسيقيّة أبدعها، وعشرات من الجوائز حصدها من برلين والبندقية والبرازيل واليونان وبلغاريا.
أطلّ عضواً في لجنة تحكيم غنائيّة في برنامج "سوبر ستار"، كما حضر ضيفَ شرف على الموسمين العاشر والحادي عشر من برنامج "ستار أكاديمي".
في الجعبة أكثر من 2500 لحن، ما بين أغنيات وشارات مسلسلات وأفلام كـ"ألو حياتي"، "لا تقولي وداعاً"، "عازف الليل"، "ديالا"، وأشهرها "دمي ودموعي وابتسامتي".
 
لم تمنعه انشغالاته الفنية من تخصيص ركن من النّغم للأطفال، فقدّم أغانيَ لا تزال تتردّد على ألسنة الصّغار والكبار معاً، بينها"في عنّا شجرة"، و"كلّن عندن سيّارات"، و"طلع الضو ع الواوي"، و"عيدك يا ماما"، و"عمّي بو مسعود".
يوم وفاته، طفح الحزن على وسائل الإعلام اللبنانية في نعي الراحل الكبير. وكتب الناقد الفنيّ جمال فياض عبر حسابه على "تويتر"، عن رحيل "الضحكة العبقريّة والموسيقى الخالدة على مرّ الزمن". مع إلياس الرحباني رحل جزء جميل من مجد لبنان.
 

الشهيد لقمان سليم (1962- 4 شباط 2021)

"ماتت العدالة فعاش القاتل"

 

صباح ذلك الخميس، استفاق اللبنانيّون على خبر مروّع يُعلن مقتل النّاشط لقمان سليم، ووجوده جثة في سيّارته بين بلدتَي العدّوسية وتفاحتا. 5 طلقات أنهت حياة ناشط مشاكس لطالما وُجّهت إليه تُهم العمالة الجاهزة من مناصري "حزب الله"، لاتّخاذه مواقف معارضة للسّلاح والتّحالف مع إيران والتوظيف الجاري لهما في الداخل.

وبالرّغم من المعارضة وتلقّي التّهديدات، لم يُغادر لقمان الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان قد تلقّى تهديدات كثيرة، تُركت من خلال تعرّضات لفظيّة ويدويّة له ولزوجته، وعلى جدران منزله، وفي دارة العائلة، فأبلغ القوى الأمنية التي كان يثق بها، وعلى رأسها الجيش اللبناني. حينها قال: "اللهم اشهد أنّي بلّغت". 

ولد لقمان في حارة حريك في العام 1962، ثمّ انتقل إلى فرنسا في 1982 لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون، ومنها إلى بيروت في 1988. وفي 1990 أسّس دار النشر "الجديد"، التي تهتمّ بنشر الأدب العربي ومقالات ذات محتوى مُثير للجدل.

في العام 2001، انتقل سليم إلى السينما، وأسس Umam Productions، حيث أنتج العديد من الأفلام. وفي العام 2004 شارك في تأسيس Umam Documentation & Research، وهي منظّمة غير ربحيّة، مقرّها في حارة حريك. تقوم المنظّمة بإنشاء أرشيف مفتوح للموادّ المتعلّقة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للبنان، وتنظّم وتسهّل المعروضات. ونظّمت Umam أيضاً عروض الأفلام والمعارض الفنيّة والمناقشات المتعلّقة بالعنف المدنيّ وذاكرة الحرب.

تصفية سليم تستعيد أدوار الرّجل وتموضعه السياسي، من دون إغفال ضرورة بقاء الكلمة الفصل للتحقيق الذي لا نعرف إلى أين سيوصلنا.

 

رينيه ديك (1943-14 نيسان 2021)

أسدِلَت الستارة ولم تنطفئ النجمة

 

رحلت رينيه ديك (1943- 2021) عن عمر ناهز الـ78 عاماً، بعد معاناة مع مرضٍ وفاقة لم تجزِ "فلة" المسرح سنوات العمر والحلم. شهدت حياتها حروباً شعواء مع تابوات اجتماعية تناولتها كامرأة، لطالما حاولت زجّها في مأزق مع جسمها، الذي عرّته أمام طلاب الفنون الجميلة في عملها كـ"موديل".

 

وكتب الزميل عقل العويط مقالاً في رثاء رينيه ديك التي "لم تكن "تمثّل" بل تذرف كمدينة، وتتضوّع كزهرة ناردين"، فسأل: "هل أناديها السيّدة، أم ناردين، أم مونيكا، أم فلّة، هذه الرينيه ديك التي لم تكن يومًا، محض "ممثّلة" فحسب؛ فهي لم تكن "تمثّل" قطّ. بل هي لم "تمثّل" يومًا، خلافًا لِما قد تكون طرّزته الأقلام الفنّيّة والنقديّة في شأنها، ولكلّ ما كُتِب عنها في سيرتها الخلّاقة، المتألّقة، الأنيقة، الراقية، الغنيّة، والحافلة بالمحطّات والنجاحات المنقطعة النظير".

كانت رينيه "إحدى المرايا البلّوريّة الفذّة للعاصمة المنارة، لبيروت الثقافيّة، بيروت الشاعرة، بيروت الحديثة، بيروت المشتعلة بجسدها والروح الاختباريَّين. فقد كان شخصها يتجلّى في الحياة، في الفضاء العامّ، في المناخ، على الخشبة، أو على الشاشة، كموهبةٍ نادرة لا تُضارَع، ولا تُوازى، وليس لها شبيهٌ، ولا صنوٌ، ولا مثيل".

 

يوم رحيلها، نشرت "النهار" مقال: "رينيه ديك "فنانة الأدوار القديرة والشائكة"... ماذا يقول 13 فناناً في رثائها لـ"النهار"؟ في تحية امتنان إلى هذه الفنانة القديرة، التي أدّت عشرات الأدوار، من بينها نصوص سارتر وجان جينيه، بعد تخرّجها في مدرسة منير أبو دبس.

بوفاتها خسر رعيل الفنّ اللبنانيّ ما بعد الحرب الأهلية أحد أجمل الوجوه الآفلة.

سيزار نمور (1937- 8 أيار 2021)
ملاك الفنّ ومنشّطه
 
خسر أيضاً لبنان النّاقد والمؤرّخ الفنيّ سيزار نمور، مؤسّس “متحف مقام” في عاليتا. وطلب في وصيّته أن تُحرق جثته كي ترقد في هذا المتحف، ربّما لتبقى رفاتاً من محاولاته الدؤوبة في جمع شتات الفنّ اللبنانيّ العابر للأجيال.
لم يبخل نمور في جعل الفن بمثابة الخبز اليوميّ لمجريات حياته، فهو تخصّص في إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت، وتابع دراسة الماجستير في الجامعة الأميركية في واشنطن. وعند عودته إلى لبنان أوائل السبعينيّات، سكب شغفه في ذاكرة الإرث اللبناني المعنويّ.
وفي مقاله المنشور في "النهار"، اعتبر الفنّان فيصل سلطان أن "سيزار نمور كان بحق ملاك الفنّ، في ذاكرة فنية ضائعة، وفي وطن شبه مستحيل (...) يردّد دائماً أن كل شيء زائل إلا الزمن الفنيّ، فهو الزمن الحقيقيّ".
وكتب في وصيّته المذكورة عن "وجع ذاكرة وطن ضائع. كان كمن يسعى لاستعادة عنفوان الوجود الفنيّ المعرّض للتشتّت والاندثار، لذا سعى في العقد الأخير من حياته إلى تحويل المصنع إلى متحف للفنون اللبنانية المعاصرة، وذلك من خلال تنظيمه لبينالي الفن المعاصر، وللمعرض الدائم للفنّ المعاصر، ورعايته المستمرّة للورش الفنيّة في أروقة متحف مقام".
ويذكر سلطان عن الراحل أنّ اسمه سطع في الأوساط الفنية في بيروت حين ساهم مع الفنان العراقي وضاح فارس ومادلين تابت في تأسيس "غاليري كونتاكت" في شارع الحمرا في السنة 1972، وهي الصّالة التي لعبت دوراً كبيراً في إطلاق منصّة ثقافيّة، سعت للتقريب ما بين الفنّ والجمهور من خلال إثارة النقاش حول التجارب الفنية اللبنانية والعربية الطليعيّة، وغالباً ما كانت تلك المنصّة تجمع في لقاءات أدبية وشعرية ومسرحية، جرى توثيقها في مجلة خاصّة صدرت في السنة 1974 باللغتين الإنكليزية والعربية بعنوان "كونتاكت"، واعتبرت آنذاك من المجلات الطليعية البارزة التي رصدت مؤشرات التجارب الحديثة في فنون بيروت.
 

عناية جابر (1958- 10 أيار 2021)

ماتت وحيدة في بيتها بالحمرا

 

صحافيّة وشاعرة ومغنّية من لبنان، فارقت بصمت الحياة. هذا الصمت المغلّف بالحميميّة، لم يُدركه سوى قلّة من المحبّين وقرّاء الكلمة. رحلت الشّاعرة والنّاقدة الأدبيّة من عالم متوحّش قاسٍ بالوباء والظلم واللاعدل. حينذاك، لم يُرد الأصدقاء للرحيل المرور من دون انتباه. رفعوه إلى مرتبة الوداع الافتراضيّ الكبير، الغارق بكلمات الشّعر الحزينة، فعصروا الرّحيل و"جمّلوه"، هو الشديد القسوة والفظاعة.

توفيت عناية جابر في ستيناتها بعد صراع مع المرض. ولدت في بيروت العام 1958، وهي ابنة قرية "السلطانية" الجنوبية في قضاء بنت جبيل. رافقها الهمّ الصحافيّ، فكتبت النقد الأدبي في صحف بينها "القدس العربي" و"السفير". وهي أيضاً فنّانة تشكيليّة ومغنّية. فإلى جانب دواوين شعرية منها "استعد للعشاء"، "أمور بسيطة"، "لا أخوات لي"، "عروض الحديقة"، وغيرها، أعادت تقديم أغانيَ بصوتها، منها "على خدّه يا ناس مية وردة"، "آمنت بالله"، "ما دام تحبّ بتنكر ليه"، "ليلة العيد"... إلى مقطوعات أخرى لليلى مراد وأم كلثوم وعبدالحليم...

لكنّ الكاتب جهاد بزّي يعلم أنّها لا تحبّ الرّثاء تماماً مثله. يتذكّرها كفرد من الأسرة، وقد أجادت التهكّم بأناقة لا مثيل لها. "تتهكّم ولا تسخر. تتهكّم على المثقّفين وعلى السياسة وعلى الجديّة المبالغ بها في أيّ شيء. تتهكّم علينا، ونحن معها ونضحك معها. وكانت تبدو دائماً مكتفية بوحدتها. كأنها الوحيدة التي يُمكن أن تواعد نفسها على فنجان قهوة وتستمتع بالموعد".

 

جبّور الدويهي (1949- 23 تموز 2021)

ضوء العبقريّة المتواضعة

بعد جلجلة المرض، أطفأ الكاتب والنّاقد والروائيّ اللبنانيّ اللامع الدكتور جبّور الدويهي الذي على هديه أثرى المكتبة اللبنانية - العربيّة أدباً وفكراً.

بين "حيّ الأميركان" (جائزة سعيد عقل 2015) و"شريد المنازل" (جائزة "الأدب العربي" 2013 وفي القائمة القصيرة لـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" (2012) و"مطر حزيران" (في القائمة القصيرة لـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" (2008)، وغيرها، برز اسم الدويهي لبنانياً وعربياً باعتباره أحد أبرز روّاد الفكر والنّقد. حمل هموم وطنه وتقلّباته وجماليّات مجتمعاته المتشعّبة من إهدن وزغرتا إلى بيروت فالعالم، حتى تُرجمت رواياته إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية والتركية.

ولد جبّور الدويهي في زغرتا العام 1949. حصّل دروسه الابتدائية والثانوية في مدينة طرابلس، وحاز إجازةً في الأدب الفرنسيّ من كلية التربية في بيروت، ودكتوراه في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة (السوربون الجديدة). كتب افتتاحيات صحافية، وعكف على النقد الأدبي في مجلة "لوريان إكسبرس"،  فملحق "لوريان" الأدبي.

صدرت له مجموعة مؤلّفات عن "دار النهار" و"دار الساقي" والجامعة الأنطونية، التي كرّمته أخيراً ضمن سلسلة "اسم علم" في دورتها الرابعة عشرة، حين أطلقت المجلّد الرابع عشر من السّلسلة بعنوان "جبّور الدّويهي... روائيّ الحياة اللّبنانيّة".

صديقه المحامي والكاتب شبلي ملّاط وصف الدويهي بـ"رهيف الرواية العربية"، الذي رحل " تاركاً كنزاً عالمياً يقول كلمة لبنان العريق في ظلمات الأزمات المتتالية وانهيار الأخلاق والدول معاً". وعبر أعماله، "أتحف الرواية العربية من جبل لبنان بغزارة نجيب محفوظ ورحابة سرده، وقد تخطّاه في النّكهة الأمميّة التي تُميّز شخصيّاته الشريدة بين الشرق والغرب، وبين أصالة إهدن وآداب باريس، مجتمعة متنافرة متلاقية متواترة".

 

فارس ساسين (1947- 24 تموز 2021)

الناقد العلّامة الدقيق

 

برحيل فارس ساسين أحد كبار النخبويين المثقفين، مُنيت السّاحة الفكريّة اللبنانيّة والعربية بصدمة مزدوجة. فهو فارق الحياة بعد ساعات من صديقه الحميم الروائيّ جبور الدويهي.

ربطت "النهار" بفارس ساسين عبر عميدها المرتحل غسان تويني علاقة التوأمة الفكرية والإنسانية، فهو شغل منصب المستشار الأدبي لـ"دار النهار"، وأسّس مع الصّحافي الراحل سمير قصير "لوريان إكسبرس"، وهو عضو مؤسّس في لجنة إدارة ملحق "لوريان" الأدبيّ. وأشرف على إصدار العديد من الكتب المهمّة لوضّاح شرارة ووليد الخالدي وجبور الدويهي ونواف سلام وهدى بركات وغيرهم.

وساسين باحث أكاديمي، بلغ مصافاً رفيعاً في البحوث والدراسات البرلمانية. وهو عضو مؤسّس في المركز المدني للمبادرة الوطنية مع الرئيس حسين الحسيني، كما اهتمّ بالفنّ التشكيليّ والإنتاج السينمائيّ والمتاحف.

في مقالنا الذي خصّصناه لوداع الرفيقين ساسين والدويهي، نقتبس من الزميل جهاد الزين صديق الراحلين، ملاحظاته عن "مثقّفَين انتفضا مرّتين: مرّة ضدّ انغلاق بيئتهما، ومرّة بل مرّات ضدّ محاولة قمع بيئتهما في أهمّ ما فيها من إرث حريّات وتمايز. كانا جنديين غير صامتين وغير مجهولَيْن في الدفاع عن لبنان جميل وديموقراطي. عاشا معظم عمريهما يشاهدان تراجعه كأنّهما يحميانه ثقافةً وطموحاً وتنوّراً".

وأشار "كان عليك أن تدرس رأيك بدقّة قبل أن تُسْمِعه لفارس ساسين النّاقد العلامة الدقيق، الذي تخرج منه المعرفة كأنّها سبائك ذهب ظهرت فجأةً، وكان عليك أن تتأكّد من صحّة ما تقول قبل أن تُسمعه لجبور الدويهي الروائي المكتنز بالمشاعر والخبرات".

 

جورج ناصيف (1949- 5 أيلول 2021)

الأرثوذكسيّ العلمانيّ الذي أثرى الصّحافة طوى صفحته واستراح


غيّب الموت الزميل الصحافي الكبير جورج ناصيف بعد معاناة مع المرض أقعدته عن الإنتاج، ثمّ ما لبث أن خطف زوجته ورفيقة دربه نجاة نعيمة بعد شهرين من وفاته.

الكاتب المخضرم أغنى مهنة الحبر بقلمه وأفكاره الحداثيّة على مدى عقود. وكان لـ"النهار" حصّة كبيرة من مسيرة ابن الصحافة الأصيل، الذي تنقّل في المسؤوليات بين صفحات "قضايا"، و"أديان" والمحليّات السياسيّة.

 أذاب ناصيف تناقضات خياره العلمانيّ مع الهوية الأرثوذكسيّة، حتى شكّل هذا المنظور حبلاً موضوعاتيًا ميّز مقالاته، سواء في السياسة أو الثقافة أو قضايا المجتمع. من "لسان الحال"، إلى "السفير"، ثمّ "النهار" ومساهمات في "البيان" الإماراتية، وعبرها نضال لأجل قناعاته في الوطن والروحانية المنفتحة؛ محطات عريضة لمسيرة انتهت، إلا أن السيرة باقية، وقد استرجعتها "النهار" عبر شهادات أصدقاء وزملاء نعوا "الوديع، متواضع القلب"، الذي غادر بصمتٍ دوّى عميقًا في وجدانهم.

صديقه الوزير السابق طارق متري سيفتقد ذلك "الرسوخ المزدوج. فجورج ناصيف مشبع بالثقافة العربية، وفي الوقت نفسه متوغّل في الثقافة المسيحيّة المشرقيّة بما تتضمّنه من أدب وتاريخ وفنّ وترتيل كنسيّ. وفي سنوات مرضه، حين كنت أزوره في بيت المسنّين، كان يستمع إلى الموسيقى الدينيّة الشرقيّة طوال الوقت، وكنت أحيانًا أحضر له الموسيقى الصوفيّة. انشغاله بالخطّ الكنسيّ، خصوصًا في سنوات شبابه، توّج حيّزا من اهتمامه المعنيّ للعمل مسؤولًا للإعلام في مجلس كنائس الشرق الأوسط."

لم يمشِ جورج ناصيف يوماً وراء زعيم، إنّما مشى في درب الأنقياء والشرفاء، ولم يحد عن اقتناعه بأن هذه المسيرة تقود إلى لبنان الذي نحلم به، فخسر الكثير وكسب نفسه.

 

برهان علوية (1941- 9 أيلول 2021)

"بيروت اللقاء" والوداع

 

في بروكسل، نوبة قلبية أنهت حياة صانع "كفرقاسم" (1975) الذي فتح على الشاشة الفضيّة جرح فلسطين، ومعه شهرته عربياً، إذ قال "فلسطين هي التي أدخلتني السينما". وأرشف في "بيروت اللقاء" (1981) شبه حياة، تُحاول في الحرب (كما بعدها) أن تستمرّ بإيقاع مركّب ومن دون بوصلة، فـ"البلد صايرة متل العربيّة المخربطة، يوم بتمشي ويوم بتوقّف"، يقول سائق الأجرة في الفيلم.
ليس برهان علوية المخرج السينمائي اللبنانيّ الوحيد، لكنّه من الأقوى ذاكرةً؛ وقد قُدّر لهذه الذاكرة أن تُعاصر الحرب في لبنان، واختار صاحبها أن يوثّقها ليُشارك في تأسيس حالة "السينما البديلة" مع مارون بغدادي وجوسلين صعب ورندا الشهّال وجان شمعون؛ ولا مبالغة بالقول إنّ أيّ عزاء ليس على قدر رحيله، إذ أسقط ورقة التوت الأخيرة عن سينما لبنانيّة "غير تجارية"، تحكي بلغة الفنّ يوميّات تفرغ تدريجياً من معناها، وفنّانيها.

حاول علوية أن يداوي سرطانه في بروكسل، لكن سرطان الطائفيّة اللبناني الذي تداعت منه مشهديات أفلامه، أيّ دواء له؟ وقد أطلق له صرخته ليلة رحيله من منفاه الاختياري، في آخر إطلالة فيديو له: "أنا كنت في بيروت، ورأيت ماذا حلّ بي في بيروت. لم أعد قادراً على تأمين غذائيّ، لأنّني لم أنتمِ لطائفة"، "رسالة من زمن المنفى" تشكّلت من انصهار الرواية بالواقع البشع.

في مقابلة مع الناقد السينمائي الزميل هوفيك حبشيان، ينتقد علويّة أولويّات وممنوعات المجتمع العربي، فيما نحن بحاجة إلى "صورتنا من داخلنا. ليس في ريبورتاج تلفزيونيّ بل في السينما، حيث التجربة والمغامرة، إبداع الصورة والعمل. هذا هو الأصعب. لا يتسنّى لنا ذلك إنتاجيّاً ورقابيّاً. هل يُعقل أن نحو نصف مليار عربي غير قادر على إنتاج فيلم؟ نحن مجتمعات ترفض أن تنظر إلى وجهها في المرآة، لأن صورتها قبيحة. هناك صور ممنوع أن تظهرها، وكتب ممنوع أن تقرأها".

 

إيتيل عدنان (1925- 14 تشرين الثاني 2021)

 روح دفّاقة أنكرت الحواجز ووسعت العالم

 

عاشت إيتيل عدنان شغفها بالرّسم والشّعر والكتابة حتى الرّمق الأخير، وتوفيت عن 96 عاماً حيث صدق إلهامها:

"لو كانت باريس سمّاً قاتلاً

لشربت منه جرعة كبيرة بكلّ سرور

ولأنهيت حياتي".

يحتضن اليوم تراب "باريس عندما تكون عارية" جثمان المرأة الاستثنائيّة التي عبرت الفنون والبلدان، وتنقّلت بين باريس ونيويورك، وبيروت، التي بقيت آلامها لصيقة بقلب إيتيل طوال حياتها، وخصّتها بروايتها الوحيدة "ست ماري روز" (1978).

وإذ نَعَتْها الصحفُ والمنصّاتُ الثقافية في لبنان والعالم العربي والدول الغربية، بما فيها فرنسا، التي وجّه وزير ثقافتها السابق جاك لانغ ورئيس المعهد العربي في باريس تحيّة إلى روح الفنّانة "الشاعرية والملوّنة"، لم تحظَ إيتيل عدنان بأيّ لفتة لبنانيّة رسميّة عزاءً أو وقوفاً على سيرتها العظيمة، التي كرّستها للرّسم والنّحت والشّعر والمقالة والرواية والمؤلّفات المسرحية، ورفعت اسم لبنان عالياً بعددٍ من الجوائز هي: نيشان الفنون والآداب الفرنسي من رتبة فارس، وجائزة لامدا الأدبية، وجائزة جوزفين مايلز الأدبية لنادي القلم الدولي في أوكلاند، فضلاً عن مشاركتها في حملات دعم لبيروت بعد الانفجار الهائل الذي ألحق بها الدّمار، قائلة إن "الرّد الوحيد على الهمجيّة" يكون بـ"مزيد من التصميم على الثقافة".

إيتيل، التي كانت تشجّع وتدعم الفنّانين اللبنانيين من جيل الشباب، رحلت في عطاء متوقّد برغم تقدّم السّنين، وأخذت معها ألوان لبنان وشمسه وقمره وجباله.

بولس الخوري (1921-24 تشرين الثاني 2021)

الفيلسوف الأب الثائر

 

قبل وفاته بأسابيع قليلة، أعربت "النهار" في آب 2021 عن تقديرها الكبير للفيلسوف الكبير، فنشرت بحبٍّ واحترامٍ كبيرين، ملفّاً تكريميّاً أعدّه مشير باسيل عون، وشارك فيه رهطٌ من المشتغلين بالفلسفة، عشيّة بلوغ بولس الخوري المئة من عمره. حينذاك، نقلنا للسيّد الخوري أمنياتنا بسنين عديدة، لكنّ الموت لم ينتظر.

بتواضع العلماء، الأساتذة، العاكفين على العقل والعرفان، وبتهيّب النسّاك، الزهّاد، وبالرفق الذي يكلّل حضوره المبتسم، غاب بهدوء، مطفئًا نور عينيه، لينضمّ إلى النور الذي لا ينضب زيته مدى الدهور.

وعلى خُطى المسيح الثائر الذي قَلَب المفاهيم وحدّث الموروثات، وفي مدرسة الناصريّ المشاكس الذي نزع القشور عن الجوهر وبيَّن الأساس، وبالسهل الممتنع وعلى طريقة المعلّم الذي لقّن الدروس الصّعبة بالأمثلة البسيطة، سلك بولس الخوري، وتجرّأ فأخضع الدِّين للنّقد والسّؤال، ووضع المسلّمات على طاولة التشريح، ورفض قبول الأفكار التقليديّة من دون أن يمحّصها، وغَرْبَلَ المنظومات واليقينيّات، وخضّ الراكِدَ لينقّيَ الأديان من شوائبها، حتّى لا تقودَ الإنسانَ إلى جحيم الحياة، إذ حريٌّ بها أن ترفعَه إلى نعيم الله.

بين مَدّ الواقع وجَزْر المعنى سبح بولس الخوري، وبين أعمدة الهيكل وأروقة المعابد بحث عن "الإله المجهول"، واختبر العيش بين الانعطاب الآسر والانعتاق التجاوزيّ، وعانى ما عاناه بين مطرقة العقل ومعطوبيّته من جهة، وسَنْدان توقه إلى الانعتاق والتجاوز من جهة أخرى. وصل إلى "الانسداد" و"الخيبة" تارةً، وإلى الانفراج طورًا.

بعد مئة عام من التأمّل والتفكير، صاغ فكره وفلسفته وإيمانه، إذ قال: "آثرتُ أن أصطفي الحقيقة شعارًا وغايةً في مسيرتي... واكتشفتُ نصوصًا تُبرزُ مغزى بحثي عن الحقيقة، ومنها: "أنا الطريق والحقّ والحياة. مَن يدّعي أنّه يحبّ الله ولا يحبّ أخاه فهو كاذب. أتيتُ لأَخدم لا لأُخدَم".

سماح إدريس (1961- 25 تشرين الثاني 2021)

حمل آدابه وفلسطينه إلى الفضاء الأوسع

 

خطف الموت الكاتب والنّاقد والمترجم والمناضل سماح سهيل إدريس بعد معاناة شرسة، بالرّغم من قِصَرها مع المرض، تاركًا وراءه إرثًا ثقافيًّا ونضاليًّا من الصّعب تناسيه وتجاهله. ابن سهيل إدريس وعايدة مطرجي، الأديبَين المثقّفين اللذين ساهما مع جمهرةٍ من الأدباء والكتّاب والمثقّفين في إرساء مفاهيم مدينيّة لبيروت الثقافيّة في منتصف القرن وستّينياته وسبعينيّاته.

انتمى سماح إدريس إلى الفكر العلمانيّ، ودعا إلى تجديد الفكر القوميّ العربيّ، والانضواء في كنف العروبة الحضاريّة، والتزام النّضال من أجلها، لا سيّما الكفاح من أجل تحرير فلسطين من يد كيان الاغتصاب الصهيونيّ، منافحًا عن القضيّة الفلسطينيّة، معتبرًا إيّاها قضيّةً كيانيّةً ووجوديّة ومصيريّة، لا تعني الفلسطينيّين فحسب، ولا اللبنانيّين والعرب فقط، بل الإنسانيّة جمعاء.

رأس سماح، بعد أبيه، تحرير مجلة "الآداب" الورقيّة (1992-2012)، والإلكترونيّة منذ 2015. حمل  سماح إدريس دكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا الأميركية، وماجستير اللغة العربية وآدابها من الجامعة الأميركية في بيروت، وبكالوريوس الاقتصاد من الجامعة نفسها. له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربع روايات للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال. وضع أبحاثًا ودراسات نقديّة، وكتب مقالات في محاربة التطبيع، وهو عضو مؤسّس في حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان.

من مؤلفاته في النقد الأدبي "رئيف خوري وتراث العرب" (1986)، و"المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصريّة" (جائزة النادي الثقافيّ العربيّ-لبنان عن أفضل كتاب في النقد الأدبيّ- 1992).

ساهم في ترجمة "صناعة الهولوكوست: تأمّلات في استغلال المعاناة اليهوديّة" (2001) و"إسرائيل، فلسطين، لبنان: رحلة أميركي يهودي بحثاً عن الحقيقة والعدالة" (2008) لنورمان فينكلشتاين، و"الماركسية والدين والاستشراق" (2015) لجيلبير الأشقر.

صبّ سماح إدريس مجهوداً خاصاً في الكتابة للأطفال باللغة العربية، وحرص على تبسيط الفصحى للأطفال "تحيّة إلى كلّ مناضل لغوي يعمل على تعزيز العربية ونشرها وتجديدها وتقريبها إلى الأطفال والناشئة. وكسر الله يد كلّ من نفّر أطفالنا وناشئتنا منها بزعم "حبّه" البالغ لها".

ومن القصص المصوّرة للأطفال التي صدرت لإدريس، نذكر "تحت السرير" (جائزة أفضل كتاب للأطفال من "مؤسسة آنا ليندت"- 2017) و"حين قرّر أبي"، و"أمّ جديدة"، و"طابتي الذكيّة"، و"الشبّاك"، و"الملجأ"، و"عالم يَسَع الجميع"، وخلف الأبواب المقفلة"، وفلافل النازحين" (جائزة مؤسسة الفكر العربي عن أفضل كتاب للفتيات والفتيان- 2013).

تشرّب إدريس الشّغف باللغة العربيّة، ووضعها في صلب التزاماته، ولعل ذلك قد تجلّى في التحرير اللغويّ رفيع المستوى لمجلة "الآداب". ومن مقولات إدريس حول الترجمة وعلاقته باللغة العربية في يومها الدوليّ: "كلّ أيّامي تقريباً باللغة العربية، حتّى (بل خصوصاً) حين أترجم إليها. وحين أقرأ بلغة أخرى وأتأمل ما قرأته، يصعب أن أستدخله في رأسي بغير اللغة العربيّة. اللغة العربيّة حياة، لا يوم".

وكان إدريس أخيراً في طور إنجاز معجم عربيّ من ثلاثة أجزاء بعنوان "المنهل العربي الكبير" عن "دار الآداب"، مستأنفاً مساهمة والده الدكتور سهيل إدريس ومشاركة العلامة صبحي الصالح؛ وهو يُعدّ أهمّ وأشمل معجم عربي - عربي.

أكثر ما اتّصف به سماح إدريس أنّه كان مثقّفًا مؤمنًا بأفكاره، ملتزمًا إيّاها، مدافعًا عنها، منخرطًا من أجلها في حروبٍ ثقافيّة، اعتبرها مسألة حياة أو موت، لا هوادة فيها، حيث لا مكان للتهاون والمهادنة، ولا لأنصاف الحلول.

سماح إدريس لم يكن موضع إجماع، لكنّه كان موضع احترام. غيابه سيترك ألمًا كبيرًا وفراغًا فادحًا، لا سيّما أنّه كان لا يزال في عزّ نشاطه، مخطّطًا لمشاريع ثقافيّة وأدبيّة مستقبليّة.

 

 

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم