الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

تقاسيم على وتر الضياع

المصدر: "النهار"
امرأة أمام مراياها (تعبيرية- لوحة للفنان الصيني لين فنغيميان).
امرأة أمام مراياها (تعبيرية- لوحة للفنان الصيني لين فنغيميان).
A+ A-
 
ماجدولين الرفاعي
 
كنت أقف خلفك تماماً، أتابع ما تفتحه ماكينة الحلاقة من شوارع ضيقة في بياض رغوة الصابون، وجهٌ لوّحته الشمس بسمرتها وأعارته من وهجها هذا الألق المرسوم في المرآة بعناية فائقة تذيله ابتسامة رهيفة مثل حرير ربطة عنقك الباريسية الفاخرة.
تستدير نحوي، فتفوح رائحة الليمون من كولونيا حفرت خطوطها في ذاكرتي القديمة بعمق، وجه أبي وقبلاتي الطازجة فوق خده الناعم، يدي الطرية وهي تنزلق من أعلى وجنته إلى أسفل ذقنه لتؤكد له بصمت بريء أنّ حلاقته ناعمة.
 
أمرّر كفّي فوق نعومة خدك، ثم أخطف قبلة بمثابة التوقيع أو الثناء على دقتك، وإتقانك لعمل يومي رحت تعتاد عليه لأجلي بعد سنوات من لحية طويلة.

كانت جدتي تضرب صدرها وتنوح بمواويل لم أميّز مفرداتها، بينما النسوة خلف الموكب المهيب يزغردن ويرفعن صور خالي الفدائي ببدلته المموهة، وعلى وجهه ابتسامة ساحرة يعلوها شارب أسود خفيف.
 
أبحث عن أمي بين الحشود، ولا أجدها فجميعهن متوشّحات بالسواد والدموع.
عرس وزغاريد وأرز منثور وبكاء، وأنا الطفلة التي لم تفهم هذه التوليفة لعرس لا عروس به ولا عريس! سمعتهن يردّدن: يا حسرة أمه عليه استشهد في معركة جرش قبل أن يتزوّج.

أمرّر يدي فوق شتلة الحبق التي كانت قطرات الماء تتراقص فوق أوراقها الندية، أضع كفي أمام أنفك فتعضها بشقاوة تجعلني أصرخ وأضحك ثم أنثني فرحاً.

الساعة الآن السابعة والربع صباحاً من إذاعة دمشق، نحيّيكم ونقدم لكم موجز الأخبار.
كان أبي قد خرج للتوّ من المنزل، متوجّهاً إلى عمله عندما لحقت به أمي تخبره ما جاء في الموجز.
- توفي الرئيس جمال عبد الناصر الآن، أذاعوا الخبر.
من دون أي انفعال، التفت أبي إلى الخلف، وبكل هدوء، قال:
- ايه الله يرحمه.
بدهشة طفولية لا تعرف قيمة الشخص المتوفي، لكنها تعي أن للموت رهبة، تعجبت من لا مبالاة أبي، ثم مضيت إلى مدرستي ونسيت كل ما دار، إلى أن كبرت وبدأت ذاكرتي تستعيد معظم التفاصيل. وأذكر أني سألت أبي عندما مرّ موكب جنازة عبد الناصر تتقدّمه ثلة من الفرسان فوق خيولهم بالقرب من حيّنا:
هل الرئيس في هذا التابوت يا أبي؟
-لا طبعاً إنها جنازة تعبيرية!
 
رغم أني لم أفهم، لكني شعرت بالحزن ولمست عدم تأثّر أبي.
أعدل لك ربطة العنق المربوطة بعناية، أنفض عن كتفك ما سقط عليه من بياض قشرة الرأس، أفحص أزرار قميصك، كم أنا مولعة بتفاصيلك الصغيرة وباستعطاف رائحتك الرجولية لكي لا تتوقف عن الدوران حولي مثل درويش في حضرة الخشوع.

بكيته بمرارة، فخبر وفاته صاعقة بالنسبة لي هذا الشاعر الذي لامس مشاعر مراهقتي منذ أول قصيدة قرأتها مكتوبة فوق منديل معطر، وضعها شاب عاشق بين ضفتي كتاب وأرسله لي مع أخته ذات قصة حب لم تكتمل فقد ضبطت أمي التي كانت تكره نزار وأشعاره ذاك الكتاب فحوّلته مع رومنسيته إلى رماد بارد.

أرهف السمع وأنت تتحدّث بالهاتف وتحدّد لموكلتك موعداً بعد الظهر في المكتب، فأتسلق اللاشعور إلى حلم يقظة أرى فيه سيدة جميلة تجلس بثوبها القصير أمامك، وقد لفّت ساقاً على ساق، وراحت تتأمل أناقتك وجمال ضحكتك، فيفور قلبي وتنسكب غيرته فوق الموقد مع القهوة التي أيقظني فورانها، فقلت مع نفسي: "سكب القهوة خير".

الساعة الآن الخامسة تماماً في دمشق، ولكن الخبر بثته قناة خليجية:
-أخبار من دمشق تفيد أن الرئيس السوري حافظ الأسد مات ولكنهم يتحفظون على نشر الخبر.
على الهاتف صوت أبي بمرحه المعتاد، أزفّ له الخبر:
- بابا مات حافظ الأسد.
- ماذا تقولين، هذا مزح ثقيل!
 
أغلق الخط في وجهي خوفاً، فأسلاك الهاتف لها آذان وخلف الأسلاك مقبرة.
ليست لدي مدرسة أذهب إليها هذه المرة لأنسى كل شيء لذلك وقفت على الشرفة أقرأ في وجوه المارة رعبهم. لا أحد يجرؤ على تعميم الخبر قبل أن تعلنه وكالة أنباء سورية، أخذت وقتها خلف الكواليس وهي تنسق كم دمعة على المذيع أن يذرف أمام العدسة، وما هي الطريقة الأمثل لإقناع الشارع السوري بأن خسارتهم فادحة بعد أن سقطت عبارة للأبد بموت الجلاد الكبير.

تشرب قهوتك على مهل وتؤكد كما كل يوم بأن هذه القهوة لذيذة ثم تسألني عن نوعها!
أضحك من طريقة ذاكرتك في عدم تخزين ما لا يفيدك ولا ترى أي مشكلة في تكرار السؤال عن ذات الأشياء يومياً.

كنت كأي سوري لا أشغل فكري بالتحليل والتركيب، ولا أتعاطى بالسياسة الداخلية المحرمة كالأفيون، لأن عقوبة تعاطيها سنوات من التيه في الأقبية العفنة التي قد لا تخرج منها حياً، كنا نأخذ الدروس ممن أوصلتهم جرأتهم إلى مدار القهر والجلد.
لكن حقبة جديدة بدأت مع تغيير الدستور وإعلان تنصيب بشار الأسد عنوة رئيساً للبلاد.

أتابع حركة فمك وأنت تمضغ لقمة الخبز المغمسة جيداً باللبن والزيت، بغنج مثير يغويني ترقص تفاحة آدم البارزة على وقع لقيماتك، وبلفتة بسيطة أضبط نظراتك متلبسة بمتابعة شفافية قميص نومي الوردي ثم بشقاوة طفل ينكر شغبه تسألني متى اشتريت هذا القميص المطرز بأنفاسكَ وأصابع ولعكَ بي!

كان الدور الذي ألبستني إياه الحرب أكبر بكثير من مقاس مشاعري التي تلطخت ياقتها بالدم وعلقت بأكمامها جثث كثيرة مثقوبة بالرصاص.
لم يكن الهروب فكرة سيئة، فما من خيار أمامك، فإما أن تضع طرف شجاعتك في فمك وتركض صوب فكرة المخيم، وإما أن تضع قلبك وقلوب أحبّتك هدفاً لمرمى قناصتهم.

قهقهتُ حدّ البكاء وأنت تأخذ دور الرجل الشرقي وتسألني ماذا سأطبخ لك على الغداء، بينما لا تزال صحون الإفطار على المائدة، اقتربت منك ووضعت يدي على بطنك وقلت لك: غداً سيصبح هذا الكرش واجهة مميزة!

في طريق اللجوء، يبدأ شكلك بالتحول من صاحب وطن وأرض إلى شكل لاجئ مسكين، وما إن تصل المخيم حتى يبدأ الدور الجديد الذي ستلعبه.
تقف في طابور طويل لاستلام حصتك من الأكل والمنظفات دون أن يرف لك جفن، فأنت الآن جاهز لكل الاحتمالات. أنت الآن بلا وطن.

تخرج من الباب وتترك لي عاصفة من عطرك الأثير "هوغو"، ترقص الستائر، يتمايل الجوري في أصيصه فوق الطاولة، تدوخ فناجين القهوة الفارغة، وأنتشي أنا بنبيذ عطرك الذي أعشق، فأرقص. أرقص على أغنية فيروزية تركتها خلفك "ياحلو شو بخاف إني ضيعك".
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم