الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بيروت والإقفال العام في لوحة شوقي دلال... "غاب صوت الهواء، غاب صوت الكون"

المصدر: "النهار"
بيروت والإقفال العام (لوحة لشوقي دلال).
بيروت والإقفال العام (لوحة لشوقي دلال).
A+ A-
 
الدكتور عمر سعيد- باحث وروائي وأستاذ جامعي

لا شيء أقسى من أن تقتنع من أنّ لديك أهل لا جدوى منهم. 
هكذا سأبدأ مقالتي في قراءة لوحة الرسام شوقي دلال؛ حول اليوم الأول للإقفال العام في بيروت مطلع عام 2021. 

وإن خلت المدينة في الواقع واللوحة من أهلها، لكنها تظل مستَوطَنة بالذاكرة، ذاكرة المبدع التي تشكل تاريخ الأمة والإنسان.
أو هكذا أرادها شوقي دلال.

ضوء يفتح للعيون انطلاقتها إلى الأعماق، وظلال الأشجار تنغرس في الأسفل ترفض الإخلاء، ليس لأنها لا تتأثر بفيروس كورونا، بل لأنها تفي بوعدها، فهي ظل الأحبة والمتسامرين والمتعبين والباحثين عن قتل الفراغ.

وإن دهمت الأماكن طوارئ الطبيعة الكتومة. 
فالفنّ في أبسط جوانبه هو حالة وفاء الروح تجاه المادة مهما جفّت العلاقات. 

اللوحة قاتمة بظلالها إلى حد ما؛ في نصفها السفلي، لكنها تنفتح على الخلاص في قسمها العلوي إذ تشكل - بوعي أو بغيره - مثلث الضوء السماوي زاويته الحادة إلى الأسفل وقاعدته الواسعة تلامس السماء، ليكون بزاويتين تفسيريتين متقابلتين لكنهما متكاملتين، فهو للناظر من أعلى وتد، تثبت السماء الأرض به. 
 
وهو للناظر من الأسفل ذراعا الرجاء على اتساع صدر الأرض طلباً للخلاص، فالأرض هي الإنسان ومن يدعي غير ذلك مخطئ. 

لأنّ الإنسان هو أرقى سلالات الطين التي حققت اليقظة الأولى في كل مكونات هذا الكوكب، ولولاه، لبقي الطين طيناً، لا يعي الحياة ولا تعيه. 

هكذا هو الفن.
فن وفقط.
 
لا حاجة له بالبدائل، ولا بالمعالجات، ولا بالفهم ولا بالاسقاطات والقراءات، والتأويلات، لأنها هذه كلها في الأصل نتاج يقظة تلك السلالة من الطين، وهي حاجتنا نحن الطين الناطق بأكثر من وسيلة وفي أكثر من اتجاه.
 
طين ينطق صوتاً، ولوناً، وحركةً، ونغماً، وشكلاً، وإن كنا طين خمول في مواكبة الإبداع وعوالم المبدعين في زمن السكون والموت. 
غير أن الفن هو هكذا، فن لا أكثر ولا أقل. 

لم تمنح النوافذ في اللوحة المشهد أي دلالات، أكثر من دلالات الإقفال، والانغلاق، والعزلة. 
ذلك لأنّ دلال جعلها جميعها على مسافة واحدة من الواقع النفسي لهذا المقطع الذي تناوله لوناً من المدينة.
 
فقد تساوى الجميع في الداخل من حيث الحال النفسي، وبدا إقفال النوافذ إشارة على حال ساكني المعمار وظروفهم، وتيههم العاجز. 

الفراغ في اللوحة أثقل من كل ما تضمنته، فالكتل ثقيلة وإن اتصلت لكنها منعزلة، متقوقّعة، كذلك التفاصيل.
 
إنه فراغ يحكي عن حجم السكوت، وليس الصمت في دواخلنا، لأن الصمت فعل إرادة، فيما ينتج السكوت عن قمع وعجز وتسليم باللا حل. 

ذلك السكوت الذي احتل دواخل شوقي دلال، فراح يتسلق جدران المباني على ضفتي الشارع عبر مزيج الألوان المتداخلة تدرّجاً صوب النور فالفضاء، فجماليات هذه اللوحة في الضوء الذي يحاول انتشال المكان.

وما هذا التداخل إلا انعكاس للونية العالم الجواني في مدينة، ما ألفت الصمت والسكوت رغم كل سنوات الحرب التي حاولت النيل منها.

غاب صوت الهواء، غاب صوت الكون، غاب صوت الفضاء، غاب صوت الإنسان والآلة، غاب صوت المطر الذي يبلل بملامحه المترهلة شتائية المكان، لتحضر خلف الجدران عوالم مكتومة بالقوة، تتماهى مع واقع فرضته الكِمَامة، ومسافات التباعد الإلزامي. 

بيروت شوقي دلال وكأنّها ليست في ترقّب، بل على الأغلب هي في حالة استسلام، ولا جدوى من أي ردّ فعل.
 
فلا شيء أقسى من أن تقتنع من أن لديك أهل لا جدوى منهم. 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم