الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

نورٌ على نور... قراءةٌ في لوحة شوقي دلال "من مقام النبي شعيب" في حطين

المصدر: "النهار"
اللوحة.
اللوحة.
A+ A-

الدكتور إبراهيم حلواني

الرسم عند الإنسان سبق الكتابة بآلاف السنين، بدأ على جنبات الكهوف منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، وقد أصبح في واقعنا الحالي من أهم الفنون التي يجد فيها الموهوبون باباً للخروج بابتكاراتهم ومطرحاً للتعبير عن أفكارهم وانطباعاتهم وخلجاتهم.

بعد انتشار صناعة الورق في أوروبا في القرن الرابع عشر، راح هذا الفن ينتشر كوسيلة للتفكير والاكتشاف والإيضاح العلميّ، وبعدها بمئة عام بدأنا نرى لوحات رسم فنية تنتشر في أوروبا (ألمانيا، هولندا، فرنسا، إيطاليا، ...). 

قامت مواضيع اللوحات حول تاريخ البلد، أو المَلِك وكبار الشخصيات، أو الكنائس وبعض رجال الدين، وأحياناً حول لوحات من الطبيعة. ولكن القاسم المشترك بينها كان دقة الرسم ومحاكاته للمنظر، لتأتي اللوحة مطابقة للواقع قدر المستطاع. كانت مهارة الفنان تقاس على ذلك.

ثمّ ما لبث الفنانون أن عزفوا، بتأثير من الذوق الشعبي العام، عن رسم المَلَكِيّات والدينيّات والشخصيات إلى رسم الطبيعة الطلقة بألوانها وجمالها، مجتهدين دائما على الإتيان بالرسم مطابقًا للمنظر.

الانطباعية

منذ مئة وخمسين سنة، بدأ الرسامون يواجهون معضلة: كانوا يخرجون بعدّتهم إلى الطبيعة لرسم لقطات منها، ولكن الشمس تتحرك ببطء، فتتغير مواقع الظلال بين ساعة وساعة، فيَعْسُرُ الأمر وقد يفسد العمل. نتج من ذلك أنهم استعجلوا عملية الرسم، ونقلوا من المنظر الأساسيات وما ينطبع في الذهن وتتأثر به النفس والروح. ومنهم من كان يُكمل العمل في منزله. من هنا بدأ الأسلوب الانطباعي في الرسم. 

اليوم، الانطباعية تعني أن ترسم ما تراه مُهمّاً، أن تنقل عناصر الجمال الأساسية وفق ما تراه إلى لوحتك، أن تجسّد ما تحبُّ أن تعرضه على الناس من الموضوع من زاوية رؤيتك ومن نافذة فكرك... بحسب تقديري، الرسم الانطباعي أصعب من الرسم التقليدي ويتطلب خبرة ورؤية.

ليس لفنانٍ أن يتقن الرسم الانطباعي إلا أن يكون قد تحكم باللون والريشة ودقائق أسرار الرسم من تناسب واتجاهات وغيرها.

في لوحتنا اليوم، يثبت الدكتور شوقي دلال أنه رسام انطباعي بامتياز، وأحسبك أدركت زعمي قبل أن أتابع بتفصيل.

أرى في اللوحة فرجة راحةٍ وتأملٍ وصلاة،... ومدّاً من صفاء وبراءة ونقاء.

وأرى في اللوحة شجرة حياة.

وأتفحّص لأتبيّن تفاصيل أخرى، مثل شعاب الأرض وغيوم السماء، فلا أجد الكثير.

هو لا يريدنا أن نتلهى بغير ما يريد. يدفعنا أن نركز في ما رآه بعقله وشدّ بصره نافذاً إلى قلبه ووجدانه.

ولكن... كيف فعل ذلك؟ 

أقام الدكتور شوقي لوحته على دعامتين: الأولى مقام النبي شعيب في فلسطين، وهي جوهر الموضوع، والثانية شجرة حياة ممتدة مظلة.

الأولى دعامة روحية سامية تأخذك إلى أبواب السماء وطهارة الروح وصدق السريرة. فنبيّ الله شعيب عاش، كما هو مذكور في القرآن الكريم، في زمن موسى في قوم مَدْيَنَ، شرقيّ سيناء وجنوب فلسطين. وكان الملاذَ الذي آوى إليه النبيّ موسى بعد خروجه الأول من أرض مصر، فاستقبله شعيب وزوَّجَه إحدى ابنتيه، فأقام في أرضه عشر سنين عاد بعدها إلى مصر لأداء رسالته.

إذن، المقام يجمع بين اثنين من الأنبياء أحدهما موسى صاحب الرسالة والعزم. فكيف لا تجيش المشاعر في صدرك وكيف لا يذهب خيالك إلى المجاهدين الأوائل الذين دعوا إلى الله، وإلى الترفع عن الدنيا والزهد فيها، وإلى الصدق في القول والتقوى في المعاملة والعفاف عن الوضيع؟

الدعامة الثانية، الشجرة، تربط بالحياة وتظلّل على الأرض، وتمدّ الإنسان بالأمل. الشجرة محل أمان ويد عطاء وخير وبركة.

أصرّ الفنان أن لا تتضمن لوحته غير الدعامتين: المقام والشجرة.

نور على نور

كل الحقيقة بدأت من نور.

الظلام هو العدم، والنور هو الحقيقة.

انطلق دلالُ من هذه الرؤية ليبني عليها لوحته.

أبدع باستعمال الألوان ووظفها لتخدم فكرته.

المقام يغلب عليه البياض، ما يتفق مع المعنى والرسالة.

والشجرة جعل فيها الأخضر، ما يتفق مع رمزيتها.

والأرض تركها بدون تفاصيل أو تضاريس، فلا حاجة له بذلك. ولكنه مدّها باللون البرتقالي المُحْترّ، لهدف.

كذلك جعل السماء باللون نفسه،... لماذا ياترى، وهل يجوز أن تكون السماء بهذا اللون؟

في تقديري، هو أراد أن يكون التباين بين اللونين الأساسيّين في اللوحة، الأبيض والبرتقاليّ، تباينا واضحاً غير موزَّعٍ بين ألوان عدة. لو جعل السماء بالأزرق المتدرج لضاع انتباه الرائي وتشتت على مطارح عدة.

قصد الدكتور شوقي إلى ألوان أقوى حول المقام: البُنّي المتدرج ومشتقاته. فعل ذلك تأكيداً على التباين بين المقام ومحيطه.

التباين في اللون يصاحبه تباين مناسب في المعنى والرمز.

الأبيض للبراءة والطهارة والزهد والتصوف،

والبرتقالي الحارّ لشظف العيش ومشقات الحياة والسعي في التراب.

هذا يُظهِرُ ذاكَ، وهذا يُظهِرُ ذاك. 

ومقاصد أخرى.

تحمل اللوحة رسالة واضحة: المقام بلونه الشديد البياض يدلّ على الحقيقة. الحقيقة هنا تكمن في الانصراف إلى داخل الذات والتأمل في عمق الكون ومناجاة الخالق الرحمن. لذلك جعل صاحبنا بعض الحركة في المقام وبعض التفصيل.

تلك الحركة وذاك التفصيل يأخذان انتباهك إلى الهالة الروحيّة التي تسيطر على المكان، ويجعلانك تشارك في الصلاة وقد تهم بالركوع. لطالما أيقنتُ أن الرسام الماهر الموهوب يستطيع أن يرسم غير المتجسّد وغير المرئي.

في لوحة من لوحات دلال الرائعة، عرضها منذ مدة، كدت أرى الهواء وألامس الماء وأشعر بقضمة الصقيع. 

الشجرة بحضورها القويّ في الناصية تذكر من جديد بالعمل والدعوة إلى الحياة. دعوة إلى عيش كريم وسعي خَيّرٍ مفيد مترفع. الزهد لا يمنع عليك الحياة، ولكن لتكن حياتك باب خير وصفحة نور.

مرة أخرى، ندرك لماذا رغب الدكتور شوقي عن مقاربة التفاصيل في تراب الأرض ومحامل الأفق. يقول لنا ما وقع في قلبه: انظروا إلى داخل الروح وحقيقة الحياة، ودعوا العبث ومفاتن الدنيا وقريب اللذة، فذلك والتراب سواء.

في الألوان

أحسب أن الدكتور شوقي استعمل في لوحته هذه ألوانا مائية.

قد يبدو التلوين المائي سهلا، ولكنه في الحقيقة أصعب مما يبدو. التلوين بالماء يحتاج إلى خبرة وممارسة، فالحصول على اللون المناسب لما يتصوره الرسام، وتوزيع اللون وتمويجه وفق المُراد، كلها أمور تتطلب خبرة ومعرفة بتركيب الألوان وطرق بسطها على اللوحة.

الدكتور شوقي له خبرة عريقة في الرسم وفي استعمال الألوان.

لوحاته تحمل دائماً جانباً جمالياً ظاهراً يتعلق بتوزيع الألوان ونسب مساحاتها على اللوحة.

إذا أعدتَ النظر في لوحة اليوم، متغاضيا عن التفاصيل ومستشرقاً الألوان فقط، ستجد أنك أمام تحفة تود أن تعلقها في صدر الدار عندك.

لي طريقتي الشخصية في الحكم على اللوحة: إذا أسرتني من أول نظرة، قبل أن أدقق وأراقب التفاصيل، فهي جميلة. 

باكراً، تساءلت ما الجمال؟

بحثت في المعاجم والكتب، فلم أجد جواباً شافياً.

حتى أيقنتُ من خلال تأملاتي أنّ الجمال يقبع تحت عظام الجمجمة،... وأنّ الفنّ هو المِسبر.

فالجمال يرتبط بتاريخ الإنسان وسعادته ومعاناته ومخزونِ تجاربه وجهاده في البقاء.

والفنان المبدع هو الذي يستطيع الغوص في أعماق ذاتك ليَخرجَ إليك بالصور "الأجمل"، وهو الذي يستطيع أن يوقظ فيك ما يريده من أحاسيس وخلجات تناسب حاجته وتلبّي مقصده.

هكذا فعلت لوحة المقام والتي أحبّ أن أسمّيها "نور على نور": عند أول نظرة سحرتني وأسرتني، وأيقظت فيّ ما أيقظت ممّا أحببتُ، ومما كابدتُ، ومما عشقت.

 

*باحث وأديب لبناني

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم